“إن الدكتور المھدي بن عبود، یعد الیوم مؤسسة بالنسبة لأولئك الذین ما فتئوا یولون أھمیة للضمیر المحرك للحیاة،…..، ومن ھنا تنبع روح ھذا العالم الطبیب النضالیة، وینبع التزامه الصامد، للدفاع عن كرامة الإنسان.”الدكتور الراحل المھدي المنجرة.
“الدكتور المھدي بن عبود أحد أعمدة الفكر الإسلامي الحدیث، استطاع بحنكة نادرة أن یمزج بین تخصصه في الطب والبحث عن مكامن الداء في الشخصیة المسلمة المعاصرة”
الدكتور المجاھد عبد الكریم الخطیب
=========================
توطئة:
المھدي بن عبود رجل ترك بصمته في المغرب الحدیث من خلال مساره العلمي والفكري، وإن كان الفیلسوف لم ینل حظه من الاھتمام بالرغم من تقلده مناصب مھمة وسفره فيوقت مبكرة إلى أمریكا، وھو المفرد المتعدد الاھتمامات، طبیب ومفكر، ومقاوم،ودیبلوماسي ووطني من العیار الثقیل، من عائلة عریقة، انتبه له بعض تلامذته الذین درسوا عنده وأسسوا مؤسسة باسمه، وما كتب عنه قلیل بالمقارنة مع منجزه الفكري الذي تم تجمیعه ومن أھم ما وصل إلینا رصد الخاطر أفكار ونظریات وخواطر في 3أجزاء، وروایة ” أیھا الجبل الصاعد”، ودیوان ” العصر والنصر”…
بن عبود في مواجھة الاستیلاب الحضاري:
واجه بن عبود الاستیلاب الثقافي، واعتبر المعرفة مقدسة لأنھا وسیلة لمعرفة الحق، ولتكوین نظرة عامة على الوجود علما و عملا، تربط الذات بالموضوع (أي النفس بالكون)، فلا بد للإنسان من ھذه النظرة الصائبة، حتى لا یعیش في الخیال والوھم، وخداع العناوین، ولا یصیر ضحیة الفراغ المعنوي المؤلم بعبثه و قلقه وظلمه، ودورانه المضطرب في مجال الإیدیولوجیات، نظرة كونیة على عالم الشاھدة وعالم الغیب، والغایةمن ھذه النظرة ھي طلب المعنى.، فلا مناص للإنسان من تعلق قلبه بمثل أعلى تلبیةلطبیعته الفطریة المجبولة على ربط العقل والقلب بھدف سامي. ویرى المھدي بأن القلب الإنساني، ینفر من فراغ، فلا بد لھ من عقیدة تملأه، وتسیر به وتجعله یقلب الجبال.
فالحضارة كانت بالنسبة ل “بن عبود” أسلوب حیاة وعیش، والثقافة أسلوب تفكیرفالثقافة بالنسبة للحضارة كالروح بالنسبة للجسد، والحضارة بالنسبة للثقافة كالمظاھربالنسبة للجوھر. فالحضارة الشاملة الجامعة ھي التي تتوفر فیھا شروط الإیجاب وبناءما یحتاجه الإنسان في ھذا الوجود (من ناحیة الروح وناحیة النفس ومن ناحیة الجسم)إن جوھر الحضارات ھو قیام الحیاة الإنسانیة على الحق.
واشترط بن عبود في عملیة الرجوع إلى الإسلام وتجدید الانتماء له والالتزام به من نھجین:
1- النھج الفكري: وھذا یقتضي استجلاء ما ھو غامض في أذھان الناس عن شروط النھضة الإسلامیة الأولى في ظروفنا القاسیة، واكتشاف سر النجاح العلمي الذي أحرزه المسلمون الأوائل.
2- بعد اكتشاف الفكرة واستجلائھا كیف یمكن تحقیقھا، والوصول إلیھا، وحسن اختیار الوسیلة، مع أخذ المتغیرات العالمیة السریعة بعین الاعتبار.
ویحذر أثناء اختیار وسیلة النھوض من مسایرة الغرب وتقلیده؛ إذ أن تقلیده ھو الذي ساھم بتمزیق بلاد المسلمین. ویرى أن ھناك حقائق ثابتة، وكل من تمسك بھا في الماضي أو الحاضر أو المستقبل سیتحقق له النجاح، وأن التقلید كسل فكري یؤدي بصاحبه لأن یكون مكفوف البصیرة، وعاجزًا عن النھوض.
المفكر المھدي بن عبود وسؤال الصحوة الإنسانیة الكبرى:
یعد الدكتور المھدي بن عبود واحدًا من المفكرین بالمغرب الأقصى، وواحدًا من أبناء الصحوة الإسلامیة إلى جانب أساتذة آخرین أسھَموا في إیقاظ الوعي الإنساني، وللدكتور المھدي بن عبود اھتماماتٌ كثیرة؛ فھو أدیب أریب، وطبیبٌ لبیب، ومفكر نجیب، فضلًا عن كونه شاعرًا لخص في شعره أزمةَ الحضارة المعاصرة، والتطلُّع إلى مستقبل الإنسانیة المنشود، وقد كان ھمه بناءَ الإنسان المعاصر على عدة أسُس، وفي مقدمتھا أ سُ العقیدة الشاملة؛ حیث كان یسعى إلى تأسیس مشروع فكر ٍّي نھضوي إسلامي إنساني، یوحدُ الجھودَ، ویرفع القیودَ؛ لإقامة الأملِ ورفع الھِممِ، فكان طبیبًا؛ لأنه كان یرى أن النھضة الكبرى لا تكون إلا بسلامة العقول والأبدان، وكان مفكرًا إسلامیًّا؛لأنه آمَن بأن العقیدة الإسلامیة ھي الوقود الذي یُشعل جَذوة الإنسان؛ إذ العقیدةُ في نظره”ھي التي تدفع الإنسانَ قدُمًا إلى الأمام، وتُسلحه بمعداتِ ووسائل تحقیق الذات، وحمایة النفس من الأھواء، كما ترشده إلى منھاج التقوى، الشيء الذي تتضح معه العقیدة
(الأعمال الشاملة، تكون شاملة علمًا وعملًا، شاملة في الماضي والحال وفي المستقبل.
الكاملة للدكتور المھدي بن عبود، رصد الخاطر – 1 – أزمة الحضارة المعاصرة والتطلع
إلى مستقبل الإنسانیة؛ جمع وترتیب ومراجعة الدكتور محمد الدماغ الرحالي، ص 275).
وكان أدیبا، لأنه كان یرى أن الأدب ینمي الأذواق، ویمنع تحجر القلوب؛ ولذلك كان ینظرإلى الإنسان على أنه “وَحدة متماسكةُ العناصر المادیة والمعنویة، للمحافظة على الاعتدال في كل شيء، بحسب الوسطیة المتوارثة.
وإنه لمن الواجب أن تتم َّ یز اھتمامات التفكیر إلى الجمع بین العلوم الطبیة والطبیعیة والإنسانیة والأخلاقیة والقیم العلیا؛ لصیاغة الصورة البشریة في قالَب الحقیقة، ومجتمعم حافظ على “أحسن تقویم” حسًّا ومعنًى. ( نفسه ص 293)
ھذا، وقد كان المفكر بن عبود في كتاباته ومحاضراته ولقاءاته – یتحدث عن الصحوة الإنسانیة الكبرى، تلك الصحوة التي استمدھا من القصة الفلسفیة الشھیرة “حي بن یقظان”، التي ألفھا الفیلسوف ابنُ طُفیل، بید أن روایة المفكر المھدي بن عبود المعنونة بـ: “عودة حي بن یقظان”، ألُفت وَفْق إطار إسلامي صحیح، أساسه العقیدة السلیمة؛ إذیقول: “تصورت الصحوة لحي بن یقظان انبعاثَ الإنسانیة مِن مَرقدھا؛ خروجًا من ظلمات الرذائل إلى نور الفضائل، وتدرجًا في سُلم الكمالات الحقیقیة، وابتعادًا وتطھیرًامن مرض القلوب التي في الصدور، وعلى رأسھا الجھل المركب، والكِبر والغرور، والوَھَن الأعمى، والخوف من الأغیار، والقلق من الغد الغائب(عودة حي بن یقضان ؛المھدي بن عبود، كتاب الشھر (16) سلسلة شراع، سنة 1997، ص 88).
والمتفحص لأفكار الدكتور المھدي بن عبود، یجد أن الصحوة عنده لا یمكن أن تكون خارج الإسلام الصحیح، الإسلام الذي یجمع بین الباطن والظاھر؛ یقول: “إن الصحوة ھي الاستنارة بالاعتصام، والتسلُّحُ بالقوة الإرادیة والعقلیة والخلقیة، والروحیة والدفاعیة والربانیة، المستمدة من الصفات العلیا والأسماء الحسنى، ونور السماوات والأرض، والاستعانة باسم ﷲ القوي العزیر لخیر الإنسانیة، دون استثناء زماني أو مكاني، أوعِرقي أو لوني أو مذھبي، احترامًا لحریة الإنسان في دائرة الحكمة والصواب، والعدلوالإحسان( نفسه، ص 91 – 92.).
وقد كان التجلي لھذه الصحوة الإنسانیة عدة تجلیات في فكر المھدي بن عبود، إذ نجملھا في التجلیات الآتیة:
التجلي الأول: في نقد الحضارة الغربیة المعاصرة:
عندما كان الدكتور المھدي بدیار الغرب، وخاصة في أمریكا – شخص عن كثبٍ ما كانت تعانیه الحضارة الغربیة من أزمات، نذكر منھا: التفكك الأسُري، والفراغ الاجتماعي، والانتحار، والإدمان، والفراغ المعنوي، والإحباط، والحروب، والتلوث الفكري .. وغیرھا، یقول المفكر المھدي بن عبود: “الحضارة عندھم أوَْجُ الرقي والتقدم، وما ھي في الواقع إلا بدایة النھایة، بخراب الباطن في مجتمعٍ تقدمت فیھ الآلاتُ وتأخرت النفوسُ، إلى حد المیوعة والتفاني في سوء الأذواق، وفساد التفكیر، ومرض القلوب، وتشویه الجمال، وطمس البصیرة، ونسیان النفس، وقتل الأرواح في مستنقع الفواحش.
وأفول نجمھا، وتدھور مجتمعاته، واضح في تفكك الجماعة، وتفسخ السلوك، ومطلق النسیان لحمل الأمانة القدسیة بمعرفة الحق والعمل به ( نفسه ، ص 24).
لقد درَس المفكر المھدي بن عبود أسبابَ تدھور الحضارات، وعایَنَ أمراضَھا، وخرَج بعِبْرة مُفادھا أن: “العالَم سیبقى في حالة تدھور مھما كانت قوته العسكریة والاقتصادیة والتكنولوجیة البراقة، ما دامت تَحكمه عقلیةُ السوق والسحت، بدلًا من عقلیة الحكمة والعلم النوراني؛ من حق وخیر وجمال؛ باتصال المعنى بالمبنى، والظاھر بالباطن،( الأعمال الكاملة، ص 85.) والنفس بالجسد، والروح بالمادة
التجلي الثاني: تقویة البعد الروحي لدى الإنسان:
حاول الدكتور في كتاباته تقویة الجانب الروحي في الإنسان؛ حتى یُحصن الشبابُ المسلمُ نفسَه من التیارات الغربیة، من خلال عودته إلى القیم الإسلامیة الروحیة التي تَحفَظ الإنسانَ المسلم من التبعیة والتغریب؛ حیث كان یشیر إلى الصحوة الروحیة التي تحفظ الإنسان من التلف والانھیار، یقول الدكتور المھدي بن عبود: “الصحوة ھي إنقاذ النفس والعقل والقلب من القلق والضجر، والحیرة والضلال، والخوف والرعب، والجَور والاستعباد، والغموض والضیاع، والفراغ المعنوي والخَواء الروحي، والخوف من المجھول في العاجل والآجل ( عودة حي بن یقظان، ص 93.)
وانطلاقا من احتكاكه بالشباب المسلم في مختلف بلدان العالم، وجَد الدكتور المھدي بنعبود أن بعضًا من ھذا الشباب قد فَقَدَ معنى الوجود؛ نظرًا لكونه یعیش في أحضان”حضارة” غارقة في التناقضات والصراعات؛ یقول: “بفقِدان المعنى للوجود یشعُر الإنسان بالفراغ والضیاع، ومِن جراء الفراغ والضیاع یتولد القلق والضجر، ومن أعراض القلق والضجر یتفشى البؤس المعنوي، ومن ھذا البؤس المعنوي یَلجأ ضحایاه إلى الإباحیة والاستھتار، والفسوق والفواحش، والمسكرات والمخدرات؛ لإطفاء اللھیب الباطنّي من شقاء الضمیر، وحَیرة وبَلبلة، وغموض الاتجاه في الحیاة، والتشتیت الفكري الدافع إلى الفرَِق شبه الدینیة والحركات المتشددة، فضلًا عن الشعوذة والسحر، وشراء التمائم، والانغمار في دوائر الرقص والمجون، والمیل المعاصر إلى الفنون المشوھة المریضة، والآداب والأشعار المائعة والغامضة( الأعمال الكاملة، ص 65.).
التجلي الثالث: في تقویة الصرح العلمي:
كان ھم المفكر المھدي بن عبود تجدید النظر في العلم والمعرفة، وإمداد الطالب الباحث بآلیات ناجعة، وطرق جدیدة في البحث والطلب، وھو بذلك یدعو إلى صحوة علمیة فيجمیع میادین البحث والمعرفة؛ یقول: “إن حب الحقیقة العلمیة والدینیة والأخلاقیة والفنیة والسیاسیة – مقرونٌ فیه الجانبُ العلمي والجانب الذوقي الجمالي، فتَبتھج النفسبروعة العملیات الریاضیة الحسابیة وحل مشكلاتھا، وتتمتع بالإتقان الرباني في ھندسة جسم الإنسان ودِقة الوظائف النفسیة والفكریة..( منتدى الحوار”، عدد 23، سنة2015، (أسئلة الإبداع والتجدید في فكر الدكتور المھدي بن عبود، نصوص تنشر لأولمرة)، ص 32
ویضیف العلامة المھدي بن عبود في ھذا الصدد: ” فعلى طالب العلم – مَن یرید صوابالحكم والتفكیر – أن یكون على بینة من تطور النظریات العلمیة في سائر فروع المعرفة،فلا بد – والحال كھذه – من التفتح والانتباه، ودوام البحث والتفكیر؛ لتفھمِ المحصول، واكتشاف الجدید”( نفسه ص 33)
إن كل ھذه التجلیات والنظرات كانت تصب في مصب واحدٍ، ھو بناء الإنسان الخیر الذي خُلقِ في أحسن تقویم، وھذه الأفكار كلھا تساؤلات: “استفزت العلامةَ المھدي بن عبود زُھاء قرن من الزمن للبحث الرصین والتأمل العمیق؛ سعیًا إلى بناء مشروع فكري تجاوَزَمن خلاله الخَصوصیةَ الجغرافیة واللغویة الضیقة، منطلقًا نحو الكونیة الواسعة، التي تسعى إلى لَم شتات الإنسانیة جمعاء وتوحیدھا، استنادًا إلى القیم المشتركة؛ باعتبارھا الضامنَ الوحید لقیام سِلمٍ عالمي، وأمنٍ إنساني، ووَحدة بشریة، بعیدًا عن أشكال الصراعالعسكري”( نفسه ص 4 ــ 5)
یقول بن عبود : “والرجل ذو المنھجیة الواضحة والتفكیر السلیم أیضًا، ذو فكر نظري ثاقب، فكر لا یَنفصل فیه بحثُ المعرفة عن الشروط الأخلاقیة، والطموحات الروحیة، والطرق الھادفة إلى تحسین وضعیة البشریة( عودة حي بن یقضان ص 128).
“معلوم أن سائر الحضارات كانت تؤمن بالمادة وبالروح في آن واحد، إلا ھذه الحضارة المعاصرة، فإنھا مبنیة على المادة وحدھا، نظرًا لطغیان العقلیة الصھیونیة علیھا، وھي عقلیة السوق والربح حتى أصبح الناس یعبدون العجل من دون ﷲ بكیفیة لم یسبق لھا مثیل في التاریخ، فلما تشبعت العقول والأفكار بطغیان الفكر المادي على العقول انقلبت المثل العلیا إلى شيء معدوم دفع إلى الفراغ والشھوات، فصار الحرام حلالاً والحلال موضع الاستھزاء {ﷲُ یَسْتَھْزِئُ بِھِمْ وَیَمُ ُّ دھُمْ فيِ طُغْیَانِھِمْ یَعْمَھُونَ} (البقرة: 15).
وھذه العبارة (یمدھم) تشیر إلى تنقله من السیئ إلى الأسوأ حتى تقع الكارثة الماحقة التي لا یعلم غیبھا وصورتھا إلا ﷲ، أتكون على صورة حرب عالمیة ثالثة أم على صورةعقاب سماوي من ﷲ مثل الذي حدث لعاد وثمود ونمرود وفرعون؟
المھدي بن عبود.. الرجل والفكرة:
ولد الدكتور المھدي سنة 1919 للمیلاد بمدینة سلا المغربیة ونشأ في أسرة مشھود لھا بالصلاح والخیر، وكان یتردد على لسانه كثیرا أن أول مدرسة فتح بھا عینیھ وتزود من دروسھا وقیمھا الروحیة ھي أسرته الصغیرة التي شكلت المعالم الأولى الثابتة لشخصیته وسلوكه.
تخصص المھدي بن عبود في دراسة الطب، وبعد تخرجه عمل طبیبا في الولایات المتحدة الأمریكیة، وبعد استقلال المغرب عین سفیرا له ھناك. ولما رجع إلى بلده فتح عیادة فيالعاصمة الرباط؛ وكانت عیادته ملاذا لكثیر من المرضى الفقراء، كما لبعض الطلبة الذین لا یقدرون على تسدید تكالیف الاستشفاء. بالإضافة إلى مھنته الرئیسة في الطب عمل أیضا أستاذا للفلسفة وعلم النفس والفكر الإسلامي بجامعة محمد الخامس بالرباط.
شارك المھدي في مقاومة الاستعمار الفرنسي وانضم إلى المقاومة المسلحة التي كان مبعوثھا إلى الشرق.
أتقن بن عبود عدة لغات، من بینھا الفرنسیة والإنجلیزیة، إضافة إلى جودة لسانه العربي، مما أكسبه اطلاعا واسعا على أھم مصادر الفكر الإنساني القدیم منه والحدیث.
كما جعله قادرا على تتبع تموجات الفكر الإنساني المعاصر.
ولا یمل من كثرة القراءة والمتابعة لكل ما یجري من حوله، حاضر البدیھة بقوة، فلاتفوته النكتة الھادفة في مجالسه ومحاضراته. فكره ثاقب ینفذ لیكشف عن أعماق القضایا التي یدرسھا، لھذا تجده یجمع في أحادیثه بین متفرقات وفلسفات من بیئات متعارضة فیكشف عن خیوط التقائھا؛ ھذا مع ذاكرة قویة لا یفوتھا استحضار نصوص إسلامیةحفظھا في صباه، أو حقائق علمیة وأقوال قرأھا في شبابه، مع حسن الاستدلال وقوة الإقناع لا یمیل إلى التشدد في الدعوة، لكن مع صلابة في الحق لا یھادن، وكان لا یخشى في ﷲ لومة لائم.
وقد كان لتخصصه في مجال الطب ولتكوینھ العلمي، واھتماماته بالدراسات الفلسفیةوالنفسیة أثره الواضح على طریقة تفكیره وعلى منھج عرضه للمواضیع التي یدرسھا.
كما كان لتأثره بكتابات رجالات الإصلاح ومطالب رواد النھضة الإسلامیة الحدیثة من أمثال جمال الدین الأفغاني ومحمد عبده ورشید رضا وحسن البنا في المشرق والشیخ ابن بادیس ومالك بن نبي وعلال الفاسي بالمغرب أثره الجلي على فكره وسلوكه؛ لھذا لیس غریبا أن یلتقي في اھتماماته الفكریة والإصلاحیة مع المشروع النھضوي الإصلاحي العام الذي رفع ھؤلاء الرواد لواءه وسعوا إلى تحقیقه.
ویتمیز عرض بن عبود لقضایا العقیدة في كونه لا یقف عند حدود التعریفات والتقسیمات الكلامیة المجردة التي تحف بھا المصنفات القدیمة في ھذا المجال، لأنه یرى أن ھذه العقیدة لا تدرك بمجرد الفھم السطحي الذي یقف عند حدود الألفاظ والكلمات، بل لا بد من الغوص في معانیھا ودلالاتھا الخفیة، ولھذا نجد بن عبود یعرض العقیدة بشكل یجمع فیھبین الإشراق القلبي والإقناع العقلي المؤثر.
من ناحیة أخرى، إن النظرة الصوفیة التي تشبع بھا الدكتور المھدي بن عبود في صباهثم لازمته طیلة حیاته، فكرا وسلوكا، قد أكسبته نزوعا نحو كشف حقائق الأشیاء وإدراك جوھر الموجودات، إذ لكل شيء عنده ظاھر وباطن ومبنى ومعنى وما یتصل بذلك.
والظاھر عنده لا یعدو أن یكون عنوانا للباطن.
كان المھدي بن عبود یورد في محاضراته وبعض كتبه أن الإسلام ھو عقیدة المستقبل،بل وخصص لھذه القضیة محاضرة عنونھا ب” الإسلام عقیدة المستقبل”.
ترك المھدي بن عبود رحمه ﷲ مجموعة من الأعمال، من بینھا: في العلم والمعرفة،الإنسان وطاقته الروحیة، صراع العقائد ومستقبل الإنسان، فیض الخاطر، حي بن یقظان سار فیه على نھج الفلاسفة المسلمون السابقون؛ خاصة منھم ” ابن طفیل” أحد فلاسفة وعلماء الإسلام المشھورین بالأندلس، الذي جمع ما انتھى إلیھ الفكر الفلسفي في عصره مع ردوده علیه، على شكل قصة خیالیة تحت عنوان” حي بن یقظان”.
وجدیر بالذكر أن ھناك كتابات أخرى ومحاضرات لم تنل بعد العنایة الكفیلة بطبعھ أو إخراجھا إلى الناس. ولعل ما قام به الدكتور محمد الدماغ الرحالي حالیا من جمع وترتیب تحت عنوان: الأعمال الكاملة للدكتور المھدي بن عبود، لھي خطوة جیدة على طریق إخراج تراث ھذا الفیلسوف المغربي المتمیز إلى الوجود.
كتب المھدي منھا:
● رصد الخاطر أفكار ونظریات وخواطر : ثلاثة أجزاء.
● خواطر حول أزمة الحضارة المعاصرة والتطلع إلى مستقبل الإنسانیة.
● خواطر حول مسیرة الفكر البشري أو منھاج البحث عن الحقیقة والیقین .
● التحدي الخلقي.
● “أیھا الجیل الصاعد” قصة فلسفیة.
● “العصر والنصر” شعر.
● “الواردات “حكم وأمثال.
● “متفرقات : أحادیث صحفیة وإذاعیة.
❖ “معلوم أن سائر الحضارات كانت تؤمن بالمادة وبالروح في آن واحد، إلا ھذه الحضارة المعاصرة، فإنھا مبنیة على المادة وحدھا، نظرًا لطغیانالعقلیة الصھیونیة علیھا، وھي عقلیة السوق والربح حتى أصبح الناس یعبدون العجل من دون ﷲ بكیفیة لم یسبق لھا مثیل في التاریخ، فلما تشبعت العقولوالأفكار بطغیان الفكر المادي على العقول انقلبت المثل العلیا إلى شيء معدوم دفعإلى الفراغ والشھوات، فصار الحرام حلالاً والحلال موضع الاستھزاء {ﷲُ
یَسْتَھْزِئُ بِھِمْ وَیَمُ ُّ دھُمْ فيِ طُغْیَانِھِمْ یَعْمَھُونَ} (البقرة: 15).
❖ وھذه العبارة (یمدھم) تشیر إلى تنقله من السیئ إلى الأسوأ حتى تقع الكارثةالماحقة التي لا یعلم غیبھا وصورتھا إلا ﷲ، أتكون على صورة حرب عالمیةثالثة أم على صورة عقاب سماوي من ﷲ مثل الذي حدث لعاد وثمود ونمرودوفرعون؟! ثم إن ھناك فرقًا بین الحكام والمحكومین، فإذا كان بأیدي الحكامأسباب القھر لشعوبھم بالحدید والنار كما فعل عبد الناصر، فإن للمحكومین إیمانھم الذي ھو أقوى من الخوف والموت {وَلَنْ یَجْعَلَ ﷲُ للِْكَافرِِینَ عَلَى المُؤْمِنِینَ
سَبِیلاً} (النساء: 141)، إلا أن یتخلى المؤمنون عن مسؤولیة الإیمان،بالاستسلام للطغیان، وحینئذ یستوي الفریقان في استحقاق العذاب، كما حدث لفرعون وأتباعه الذین قال ﷲ فیھم: {فَاسْتَخََّ ف قَوْمَھُ فَأطََاعُوهُ إ َّ نِھُمْ كَانُوا قَوْمًا
فَاسِقیِنَ} (ال ُّ زخرف: 54).ویقول:(تربیت في بیئة مسلمة مع أب زاھد ورع قضى شھرین یبیت بالمقبرة لقھر النفس وتجرید الخوف … كان یجتھد ألا ینام وفي جیبه قسط من المال یوزعه على الفقراء، كان یمشي في الأسواق لیلتقي بعامة الناس، فیعلمھم الصلاة والزكاة والصیام مع أن معلوماته لم تكن تتعدى حفظ القرآن الكریم). وعن أزمة الحضارة المعاصرة یقول: (الإنسان مفطور على حب المعرفة لتكوین نظرة عامة عن الوجود علمًا وعملاً، تربط الذات بالموضع، أي النفس بالكون، وتساعده على مسیرته من المھد إلى اللحد ككائن حر ومكرم، فلابد له من ھذه النظرة الصائبة؛ حتى لا یعیش في الخیال والوھم وخداع العناوین، ولایصیر ضحیة الفراغ المعنوي المؤلم بعبثه وقلقه وظلمه ودورانه المضطرب في مجال الأشباح الأیدیولوجیة یمینًا ویسارًا سرعان ما یتنكر لھا دعاتھا أنفسھم.
❖ نظرة كونیة على عالم الشھادة وعالم الغیب تفرضھا مشاھدة الواقع جمعًا بین الأضداد: حیاة مع موت وكون مع فساد، وما إلى ذلك من سلسلة الأضداد الطویلة الغزیرة، والغایة من ھذه النظرة ھي طلب المعنى من جھة، والنجاة من جھة أخرى؛ حتى لا یضل ولا یشقى بما یسمى الیوم بالضمیر الشقي المأساوي.
❖ إن العمر قصیر، والمطلوب عظیم، والعلم المحیط مستحیل؛ فلا بد من نسق علمي مفتوح ینقذ الضمیر من الخوف من المجھول. لا مفر للإنسان إطلاقًا من إظھار الحق ودمغ الباطل وتغلب العدل على الجور والظلم، وانتصار الحریة على الاستعباد وعلى الاستبداد، وتنمیة قوة الإرادة العالمة العاملة لما ینفع الناس، على إرادة القوة المتعسفة العمیاء المغرورة عند الغاشم الذي یجعل إلَِھه ھواه، ویسلكطریق الضلال على علم. فالفرق شاسع بین قوة الإرادة عند أولي العزم من الأبرار وإرادة القوة عند أھل الطیش والغرور من الأشرار في فلسفات فاسدة ومختلة وقاسیة القلب یمشي فیھا الإنسان منكبًا على وجھه، ویسخر أو یمكر ویتوعد ویھدد العقل السلیم الذي یمشي سویًا على صراط مستقیم. فلابد أیضًا من نسق مفتوح یجمع بین المعرفة الإنسانیة والعرفان الروحي والعلم الإلھي یلم شتات الإنسان الممزق.
❖ لا مناص للإنسان من تعلق قلبه بمثل أعلى تتضمنه نظرته إلى الوجود، ویھتديبه في حیاته تلبیة لطبیعته الفطریة المجبولة على ربط العقل والقلب بھدف سام یرضي داعي الحق والخیر والجمال والنمو والارتقاء والعدالة والأمن، وضمان حقوق الخلق وحقوق الحق، یحقق میوله الغریزیة لحفظ الكیان وصیانة اعتدال العقل وصحة الاعتقاد وسلامة الأسرة والمجتمع، ویمكنه من الدفاع عن وسائل طیبات العیش من تغذیة ومسكن وملبس وتكوین شخصیة عالمة عاملة صالحةللنفس وللغیر.
❖ والإنسان إما أن یعبد الخالق الذي له المثل الأعلى، فیكون واسع الآفاق بعید النظر على منھج الأحرار، وإما أن یعبد المخلوق مثله من البشر أو من أموال أو منجاه أو من شھوات، فینزل إلى أسفل سافلین بعد أن خلقه ﷲ في أحسن تقویم.
❖ إن رحى التاریخ تدور بلا انقطاع، محورھا وقطبھا ھو الحق. فالحلال بَین والحرام بَین، والمعروف ما تعارفت العقول بالإجماع علیه ورضي به القلب، والمنكر ما مجته النفوس السلیمة الطاھرة المطمئنة، ورفضه العقل السلیم ونفرت منه الأذواق الرفیعة، وألحق الضرر بالأمة، وأخل بما ینفع الناس وتلاعب بالصالح العام).
✔ یقول الدكتور عبد الكریم الخطیب: (الدكتور المھدي بن عبود أحد أعمدة الفكرالإسلامي الحدیث، استطاع بحنكة نادرة أن یمزج بین تخصصه في الطب والبحثعن مكامن الداء في الشخصیة المسلمة المعاصرة.
✔ وكان دائم الحرص على أن یجعل من نفسھ قدوة للآخرین، لا یفتأ یرشد الشباب ویوجھھم إلى ما فیه صلاح دنیاھم وآخرتھم.
✔ وعندما اندلع الكفاح من أجل الاستقلال بعد أن عھدت الأیدي الآثمة للاستعمار الفرنسي بنفي الملك محمد الخامس، كان الدكتور المھدي بن عبود في الموعد مع إخوانه المجاھدین. وقد ساھم معنا في جیش التحریر بواسع فكره وكبیر عقله.
✔ والمتتبع لحیاة الدكتور ابن عبود یجدھا متنوعة وغنیة وزاخرة بالمعرفة والعلموالتجربة؛ ولذلك كان حدیثه عن الحضارة الغربیة وتحلیلھ لآلیات اشتغالھا ینطلق من موقع العارف المطلع على بواطنھا.
✔ فقد عاش سنوات عدیدة في فرنسا وأمریكا، وتنقل كثیرًا بین عواصم الغرب، ورأى بعین بصیرته تحول ھذه الحضارة من البشریة إلى الھمجیة، حیث تحلل ماحرم ﷲ، وتخالف الفطرة التي فطر ﷲ الناس علیھا. وكان یرى أن الاكتشافات العلمیة تدعو إلى اعتناق الإسلام؛ لأن القرآن تنبأ بكل ما یحققه الإنسان في ھذاالعصر، وأن الإسلام سیقوى أكثر في عصر العلم).
✔ ویقول الأستاذ محمد الدماغ: “إن الدكتور المھدي من أعلام الفكر المعاصر وفلتة من فلتات الزمان، فھو دائرة معارف تمشي على قدمین، طبیب وفیلسوف، وفقیھ وأدیب، وشاعر وصوفي، ودبلوماسي ومجاھد مخلص، وداعیة إلى ﷲ عرج مدارج السالكین، وارتقى معارج السائرین في دائرة الشریعة، متبعًا لا مبتدعًا، محققًا ومدققًا لا ملفقًا ولا متلقفًا، فأشرقت روحه بنور ربھا، وانبجست ینابیع الحكمة على لسانه، أوتي الفصاحة والبیان وسلاسة اللسان.
✔ ففي حدیثه جمع بین رقة المعنى ودقة المبنى، وجمع بین تنبیه الإشارة وتصریحالعبارة، حاضر البدیھة، ثاقب الذكاء، خفیف الروح، مشرق الوجه، متواضع،حلیم، صبور، تواب، أواب، متبتل، ذاكر، ساجد، قوام، صوام، لا یرى في نفسھفضلاً ولا قدرة، لم یغره مال ولا جاه أو منصب أو سلطان، لم یخف في ﷲ لومةلائم، یجتھد في نصرة الحق بالحق لا بالباطل أو طمعًا في الخلق، ینفق ذات الیمین وذات الشمال، ولا یخشى من ذي العرش إقلالاً، معرض عن الدنیا مقبل على الآخرة، ھذا ھو حكیم الزمان العلامة الدكتور المھدي ابن عبود.