في حوار علمي أجري مع الفقيه مولود السريري، بخصوص كتاب الفيلسوف طه عبد الرحمن المشار إليه أعلاه، فقد لفت انتباهي في هذا الحوار مقدار ما أورده على هذا الكتاب من انتقادات مستفزة، وما أصدره من أحكام ثقيلة، حتى أنه جزم بأن هذا العمل الفكري لا يستفيد منه عالم أي شيء. وقد يصاب المرء بالذهول من شدة هذا النقد وجزمه، إلا أنه بعد التحقيق فيه لا محالة سيعود إليه الذهول بأشد مما أصابه من قبل هذا التحقيق، وذلك بسبب جسامة الأخطاء والمغالطات العلمية والمنهجية التي وقع فيها الفقيه السريري، علما أن مثله لا يعذر بالوقوع فيها؛ نظرا لما حصله من أهلية فقهية لا تنكر، وما عرف به من التحقيق والتدقيق العلميين، وما يمتاز به من ملكات فقهية ونظرية، قل المتفنون فيها في زماننا، فما كنا نظن أن أوهى الأسباب قد تحمل على أعتى الأحكام والانتقادات. ونجمل هذه الأخطاء والمغالطات في الآتي:
1 – مغالطة المنهج النقدي: وتتمثل هذه المغالطة في أن الفقيه السريري أراد أن يحكم على نصوص الكتاب الطاهوي بقواعد الصنعة الفقهية وقواعد أصول الفقه وعلم الكلام، علما أن موضوع الكتاب ذو صبغة فلسفية تفكرية أخلاقية، لا يندرج في موضوعات هذه العلوم الثلاثة، حتى وإن كان يتكامل معها، من حيث كونه يخدم الحقيقة الإسلامية، أصولا وغايات، وإنما يندرج في دائرة ما يسمى بـ”فلسفة الدين العملية”. وهذا الوصف لا يقتصر على هذا الكتاب فحسب، وإنما يشمل جميع مؤلفات الفيلسوف طه عبد الرحمن، فهي جميعها تندرج في هذه الدائرة الفلسفية المخصوصة، فهي عبارة عن تفكر واعتبار واستبصار وتأمل وتدبر في المعاني الدينية الروحية والخلقية، بما يظهر أسرارها ويبرز حقائقها، ويكشف مراميها. كما أنها فلسفة تنظر في علاقة الإنسان بربه على مقتضى النظر العملي الروحي والخلقي، فلا ينفع في مقاربتها إلا ما كان من جنس مناهج النظر الفلسفي الأخلاقي، كما هي معروفة في الممارسة المعرفية الإسلامية السلوكية.
2 – مغالطة معيار الشرعية: وتتمثل في أن الفقيه السريري عمد إلى نفي القيمة الشرعية عن هذا العمل الفلسفي الأخلاقي، بناء على عدم دخوله -في تقديره – تحت أي علم من هذه العلوم الشرعية الثلاثة، بينما الأصل في إثبات القيمة الشرعية أو نفيها هو النصوص الشرعية القرآنية والنبوية، وليس إحلال العلوم الشرعية الكسبية المستحدثة في الملة محل هذا النصوص، علما أن الوحي الإلهي المنزل منبع كل علم حادث، فيسع جميع العلوم ولا تسعه. كما أن العلوم الشرعية لا تنحصر فيما أبدعه المتقدمون؛ وإنما هي مستمرة في التوالد والتناسل بحسب الحاجة والاهتمام. فلا يجعل نصوص الفقهاء والأصوليين والمتكلمين معيارا للشرعية إلا من أراد أن يستبدل معيارية هذه النصوص بمعيارية نصوص الشريعة، وكأن لسان حاله يقول: “كل نص يخالف ما عليه نصوص الفقه والأصول والكلام فهو ليس من الشريعة”، وذلك قياسا على مقولة الإمام الكرخي العجيبة، التي مفادها: “كل حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ”.
3 – الإخلال بمراعاة السياق والسقوط في النظرة التجزيئية: وبيان ذلك أن الفقيه السريري أصدر أحكامه النقدية على بعض قضايا الكتاب السابق، ولما يكمل قراءة الكتاب بعد، فضلا عن مؤلفات الفيلسوف طه الأخرى، خاصة المرتبطة بمضامين التأسيس الائتماني. فلو أنه اطلع على كتب الفيلسوف طه عبد الرحمن وقرأ نصوصه بإمعان، لارتفع الإشكال والالتباس. فاعتراض الفقيه السريري على اعتبار الفطرة مناطا للحكم أو علة للأحكام، هو تقول على الفيلسوف طه؛ بل على العكس من ذلك، فالفيلسوف طه عبد الرحمن يرى أن الطريق إلى استرجاع الإنسان فطرته، هو المواظبة والمداومة على التزكي بشرع الله تعالى.
4 – دعوى انبناء النص الطاهوي على الاستدلالات الظنية: اعترض الفقيه السريري على الحقائق الفلسفية والأحكام الفكرية التي يتوصل إليها الفيلسوف طه عبد الرحمن، بأنها تقوم على أدلة أو استدلالات ظنية. والعجيب أن يعترض بهذا، بينما أغلب الأحكام الفقهية الشرعية مبنية على الأدلة الظنية أو قل منطق الاستدلال التغليبي؛ بل نجد هذا الاستدلال الظني حتى في كثير من قضايا الاعتقاد، لاسيما في تفاصيل أصول الدين، مثل مسائل التوحيد والنبوة والقضاء والقدر وعلامات الساعة وأحوال الآخرة … وكذلك قضايا أصول الفقه، مثل خبر الواحد وشرع من قبلنا والمصلحة المرسلة والتأويل … فإذا جاز رد مفاهيم وأفكار الفيلسوف طه عبد الرحمن بدعوى الظنية، جاز رد كل قضايا الفقه والأصول والاعتقاد المبنية على الأدلة الظنية.
5 – عدم التمييز بين الخلاف في الشيء والخلاف في وصف الشيء: وبيان ذلك أن الفطرة بوصفها مفهوما دينيا روحيا ثابتة بأدلة قطعية من الكتاب والسنة. والخلاف إنما هو في وصفها ومحلها، مثلها في ذلك مثل إثبات الصفات، مع وجود الخلاف في حقيقتها أو أوصافها. كما أن اعتماد الفطرة الروحية معيارا للتمييز بين الحق والباطل، أو بين الحرمة والحلية في مسائل الفتوى الخاصة في الفروع الفقهية مسألة خلافية بين العلماء؛ والقائلون بالجواز – بعد وضعهم لذلك شروطا دقيقة – يستندون في القول بذلك إلى أدلة أو استدلالات شرعية متعاضدة معتبرة، لا تقل قوة واعتبارا عن أدلة القائلين بعدم الجواز.
6 – حمل الكلام على غير محمله لعدم الإحاطة الشاملة: وبيان ذلك، أن الفقيه السريري حمل أقوال الفيلسوف طه عبد الرحمن على غير محملها، فمقصود الفيلسوف طه عبد الرحمن من القول بتأسس الدين على الفطرة هو أن الدين الإلهي المنزل، إيمانا وأعمالا، إنما هو تأكيد لمعاني الفطرة الروحية التي جاء بها الإنسان إلى هذا العالم، بحيث يكون الدين المنزل مطابقا للفطرة الروحية، ذلك أن الإنسان كما هو مصرح به في كثير من نصوص الشريعة، سبق له وجود روحي في عالم الأمر الإلهي، يوم كان نسمة من النسمات الروحية، حيث شهد بين يدي الله تعالى بربوبيته عز وجل وألوهيته ووحدانيته، وتحمل الأمانة التي عرضت عليه. وهذه الحقيقة ثابتة بأدلة قطعية لا غبار عليها. والخلاف إنما هو في بعض أعراض هذه الفطرة لا في أصل وجودها. والخلاف في ذلك لا يعود على الأصل بالبطلان؛ لأن الخلاف في الفرع لا يبطل الأصل، بل إن الخلاف في الشيء لا يمنعه من أن يكون أصلا للفقه، كالإجماع، والمصالح المرسلة، والاستحسان والرأي وغيرها من مشكلات الأصول ….
7 – الوقوع فيما ينكره على المخالف: وبيان ذلك أن الفقيه السريري جزم بأن هذا الكتاب لا يمكن أن يستفيد منه العلماء – كالفقيه أو الأصولي أو المتكلم – وهذا مجرد تعسف واضح، وادعاء مردود عليه يعوزه الدليل. فهل قام الفقيه السريري باستقراء آراء كل العلماء في هذا الزمن؛ حتى يخرج بهذا الحكم الثقيل؟ وهذا يوقعه في التناقض؛ لأنه عاب على نهج الفيلسوف طه عبد الرحمن في هذا الكتاب أسلوب القطع والجزم في المسائل، بدعوى عدم استنادها إلى أدلة قطعية، بينما أجاز لنفسه هنا أن يجزم ويحسم من غير أن يستند إلى دليل قاطع؛ وإنما هو مجرد رأي يخصه هو ولا يمثل فيه غيره؛ بحيث صار إليه بحسب مقتضيات طريقته في إدراكه الأشياء والحقائق والأحكام، علما أن الناس يتفاوتون في طرائق الإدراك، حتى وإن اتفقوا في أصل الإدراك، وهذا أمر معروف.
8 – الإخلال بمقتضى سعة الشريعة: وبيان ذلك، أن محاكمة أفكار الكتاب الطاهوي ومفاهيمه ونظرياته بناء على مقتضى علوم الأوائل – خاصة الفقه والأصول والكلام وغيرها – مجرد تعسف بيّن. فالشريعة الغراء أوسع من هذه العلوم كلها. فما ادعى أحد من العلماء سلفا ولا خلفا أنه أحاط بعلوم الشريعة؛ لأن علومهم لا تعدو كونها نقطة من بحر الشريعة الذي لا ينضب معينه؛ بينما الشريعة أو قل الوحي الإلهي المنزل تسع جميع العلوم الحادثة، ماضيا وحاضرا واستقبالا. فإن كانت طريقة الفيلسوف طه عبد الرحمن في بناء المفاهيم الإسلامية وتطويرها وتوظيفها أو طريقته في تأسيس النظريات تبدو مخالفة لطريقة الفقهاء والأصوليين والمتكلمين، فلا يدل ذلك على غرابتها أو التباسها أو عدم شرعيتها؛ وإنما يدل على غناء العقل الإسلامي وقدرته على الإبداع والابتكار والإنشاء. وكيف لا يكون هذا العقل كذلك وهو يغترف ويكرع ويمتح من منبع الحكمة الذي هو الوحي الإلهي؟
9 – الوقوع في مغالطة المفهوم: وبيان ذلك، أن مقصود الفيلسوف طه عبد الرحمن من الفطرة ليس هو ما يفهمه الفقيه السريري منها. فالفطرة عند الفيلسوف طه عبد الرحمن إنما هي جملة القيم والمعاني الروحية والخلقية المبثوثة في دواخل الإنسان، يوم كان نسمة من النسمات الروحية في عالم الملكوت الإلهي قبل خروجه إلى هذا العالم المرئي. كما أن قصد الفيلسوف طه عبد الرحمن من “انبناء حقيقة الدين في هذا العالم على الفطرة” هو بالذات بيان حقيقة روحية سابقة عن الوجود، وهي أن الدين الإلهي المنزل جاء على وفق المعاني الروحية والخلقية المبثوث في فطرة الإنسان يوم كان نسمة من النسمات الروحية، علما أن هذه الفطرة قد تتعرض للحجب بطبقات النفس، متى ابتعد الإنسان عن شرع الله تعالى؛ وهكذا يصبح الدين المنزل عبارة عن الفطرة من الخارج، والفطرة عبارة عن الدين من الداخل. ومن فضائل فلسفة هذا المفهوم الديني أنه واجه الفلسفة الدهرية الحديثة التي تقول: إن وجود الإنسان سابق عن هويته، وتدعي أن الدين لا يعدو كونه منتوجا ثقافيا بشريا لأسباب نفسية أو اجتماعية …
10 – عدم مراعاة الفرق بين الدين والتدين: وبيان ذلك أن الفقيه السريري خاض في نقد الكتاب -خاصة القول بتأسيس الدين على الفطرة – من غير أن يستحضر الفرق الجوهري بين الدين والتدين؛ ذلك لأن قول الفيلسوف طه عبد الرحمن بتأسس الدين المنزل على الفطرة السابقة لا يراد به التدين في الواقع، ولا يقصد به أن التدين الفردي والمجتمعي ينبغي أن يتأسس على مجرد الفطرة من غير اعتبار للخطاب الشرعي؛ فهذا لم يقل به أحد من أهل العلم؛ وإنما مراد الفيلسوف طه عبد الرحمن أن الدين المنزل على نبي مرسل، إيمانا وأعمالا، تتحد مع فطرة الإنسان باعتبارها ذاكرة أصلية تحفظ آثار سابق اتصالها بعالم الغيب،
على اعتبار أن الوحي الإلهي المنزل من حيث هو دعوة إلى التوحيد والتعبد لله وحده مبثوث في الفطرة الروحية المودعة في القلب. وقد حصل هذا البث في عالم الذر الإلهي أو قل عالم الغيب يوم كان الإنسان مجرد نسمة من النسمات الروحية، بحيث يكون الدين فطرة من الخارج والفطرة دين من الداخل. ومن الغايات الكبرى لهذا القول أنه ينقض مزاعم العقل الذي يقول بأن الدين نتاج نفسي أو اجتماعي … علما أن بث معاني التوحيد والتعبد في الفطرة الروحية حقيقة لا غبار عليها. وقد ثبت ذلك بنصوص من الكتاب والسنة. ومما يستأنس به في هذا الصدد أن علماء كبار في مجال الأعصاب والعقل والنفس في الولايات المتحدة الامريكية، قد توصلوا في دراسات حديثة إلى أن الأفكار الدينية ذات صبغة فطرية في الإنسان، وسابقة على وجوده في هذا العالم.
11 – اصطناع النقد والمنقود: وبيان ذلك، أن الفقيه السريري يخرج أفكار الفيلسوف طه عبد الرحمن ومفاهيمه وتصوراته على وجه معين يمكن توجيه النقد إليه، أو قل يؤولها على مقتضى تمثلاته؛ بما يجعلها قابلة للانتقادات التي يوردها عليها، علما أن هذا المقدمات السريرية الإدراكية للنص الطاهوي تنسفها نصوص أخرى من فكر الفيلسوف طه عبد الرحمن نسفا. فلو أن السريري اطلع على جميع نصوص الفيلسوف طه عبد الرحمن، وتأمل في معانيها ومراميها العميقة؛ لما صار إلى هذا النقد أصلا؛ لأن الالتباس الذي لاح له سيزول، ولا يبقى لنقده عندئذ أي فائدة ولا قيمة علمية أو فكرية، اللهم إلا من يبتغي سلوك قاعدة: خالف تعرف.
12 – الإخلال بقاعدة الحكم على الشيء فرع عن تصوره: وبيان ذلك، أن الفقيه السريري لم يتورع عن إرسال أحكامه الثقيلة ولما يستكمل بعد حتى قراءة الكتاب وفهم معانيه، بله أن يطلع على كامل نصوص الفيلسوف طه عبد الرحمن؛ لأن من شأن استيعاب النصوص الطاهوية وفقهها أن يمكنه من حمل أفكار الرجل ومصطلحاته وتصوراته على محاملها الحقيقية. ولا يخفى ما في هذا الصنيع من مخالفة صريحة للمنهج الشرعي عموما والفقهي خصوصا. كان على الفقيه السريري أن يستوعب نصوص الفيلسوف طه عبد الرحمن الأخرى فضلا عن نصوص كتاب التأسيس الائتماني؛ حتى يتعرف على مفاصل فكر الرجل ومعاقله، ويفهم مراميه ومحامله ومقاصده، فيعمل في فيها قواعد فهم الخطاب اللغوي المعروفة في أصول الفقه، من حمل المجمل على المفصل، وحمل المطلق على المفيد، وتخصيص العام، وصرف اللفظ عن ظاهره لقرينة توجب ذلك، ومراعاة السياق ومقتضى المقام والحال وغير ذلك من القواعد المعروفة … ثم بعد ذلك لا بأس بتوجيه النقد، إن كان هناك ما يستحق النقد، جريا على طريقة علمائنا رحمهم الله تعالى، لكن الفقيه السريري خالف هذا كله، فاندفع في إرسال الأحكام تلو الأخرى، بناء على اطلاعه الجزئي على نصوص جزئية مفصولة عن سياقها العام، ومن غير مراعاة مقتضيات الحال والمقام. ولا يخفى ما في هذا من شطط وتعسف.
13 – الإخلال بمقتضى التمايز الوظيفي بين الائتمانية[1] والابتلائية: قبل الاعتراض على ادعاء الفقيه السريري أفضلية استعمال مفهوم الابتلائية على استعمال مفهوم الائتمانية، لابد من التنبيه أولا على أن المصطلحات القرآنية لا تفاضل بينها من جهة أنها خطاب الله تعالى، فكلام الله تعالى كله حكيم، وإنما تتمايز المصطلحات القرآنية من حيث الوظيفة والثمرات العملية المترتبة عليها. أما ادعاء السريري أفضلية استبدال مفهوم الابتلائية بمفهوم الائتمانية في بناء النسق الفلسفي الإسلامي، فيمكن الاعتراض عليه من وجوه، نجملها في الآتي:
الأول: أنه يجعل الفرع الوسائلي أصلا للأصل، وهذا مردود، ذلك لأن الأصل هو الائتمانية، بحكم وقوع أطوارها الوجودية – حقيقة لا مجازا – في عالم الأمر أو الغيب الإلهي، يوم كان الإنسان مجرد نسمة من النسمات الروحية ولما يخلق بعد، أما الابتلائية فهي فعل وسائلي واقع في عالم الشهادة أو قل عالم الخلق المرئي، إذ الأصل في معقوليته في هذا العالم هو تحمل الإنسان الأمانة في عالم الملكوت الإلهي.
الثاني: أنه يجعل المسبب سابقا في الوجود الفعلي عن السبب، وهذا مردود، ذلك لأن الابتلائية بوصفها وسيلة امتحانية للإنسان ناتجة عن تحمل الإنسان حفظ الأمانة في عالم الملكوت الغيبي الذي هو موضوع الابتلاء، فلولا تحمل الإنسان حفظ هذه الأمانة الإلهية ما تعين عليه الابتلاء؛ ولا أدل على ذلك من رفع حكم الابتلاء عن غيره من المخلوقات التي كانت حاضرة في عرض الأمانة، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.
الثالث: أن الابتلائية أثر من آثار ميثاق الاستئمان في عالم الأمر أو الغيب الإلهي، ذلك لأن مقتضى وظيفة الابتلائية هو بالذات وسيلة لترتيب حكم الجزاء، كما هو ثابت بنص الوحي الإلهي. ولا يخفى أن ترتيب الجزاء إنما يكون في مقابل الإخلال بالالتزام، والالتزام هنا إنما هو بالذات حفظ الأمانة التي حملها الإنسان اختيارا لا اضطرارا بمقتضى ميثاق الاستئمان.
الرابع: أن الائتمانية فعل حدث في عالم الغيب الإلهي، فوجودها إذن سابق عن إيجاد الإنسان في هذا العالم المرئي أو قل عالم الشهادة، بينما الابتلائية فعل وسائلي لاحق من حيث الترتيب الإلهي الحكيم، إذ وقع في عالم الشهادة؛ وعلى هذا فليس مناسبا أن يجعل ما هو واقع في عالم الشهادة أصلا لتعليل ما هو واقع في عالم الغيب أو الأمر الإلهي.
الخامس: أن المفاهيم الفلسفية أو التفكرية ليست مجرد مصطلحات ينحتها الفيلسوف تفننا أو ترفا، وإنما هي أدوات معنوية ينحتها جوابا عن أسئلة زمانه ومشكلات عصره، فهي أشبه بالنصوص الشرعية من حيث ارتباطها بأسباب ومناسبات معينة، فكما أن للنصوص الشرعية أسبابا ومناسبات معينة، فكذلك المفاهيم التفكرية لها أسباب ورودها ومناسبات اختيارها، بحيث يصح القول: إن لكل مفهوم ظرفه ومناسبته أو قل سببه، ولكل وقت اجتهاده المناسب له، ولكل وقت تعبده المناسب، فاجتهاد هذا الزمن ينبغي أن ينصب على تصحيح المسار الدهري للحداثة، بما يجعل الإنسانية تستعيد آدميتها القرآنية.
وبناء على هذا، فالقول بأفضلية مفهوم الابتلائية في الاستعمال على مفهوم الائتمانية في السياق الكوني المعاصر يخل بشرط المناسبة أو قل مراعاة السياق، فالفقيه السريري لم يأخذ بعن الاعتبار السياق الكوني لاستعمال مفهوم الائتمانية، ويتجلى هذا السياق في مواجهة غلواء الحداثة الغربية المفروضة التي قامت على أسس تهدد رصيد الأمم من القيم الأخلاقية والروحية، ومن أبرز هذا الأسس نزعة التأله ونزعة التملك ونزعة التسيد؛ بحيث أضحى الإنسان الحديث يتعامل مع الأشياء في هذا العالم بوصفه سيدها ومالكها. ولا يخفى ما في هذه النزعات من نزعة استكبارية سافرة، وما ينتج عنها من إفسادات لنظام العالم وتخريبه؛ ولذلك يكون توظيف مفهوم الائتمانية هو المناسبة لمواجهة هذا التوجه الإفسادي للحداثة الغربية الذي أصبح يكتسح العالم.
وفي الختام. ما ينبغي أن يعلمه الفقيه السريري ومن يسير على منواله في النقد، أن كل ما لم تستسغه عقولهم أو لم تشمله آراء المتقدمين ليس بالضرورة خارجا عن العلوم الشرعية أو الشريعة، فما عقولهم ولا آراء المتقدمين إلا بعض معدود من الإمكانات المعرفية االمتكاثرة التي ينطوي عليها العقل الإسلامي، ويسعها دين الله تعالى الواسع، ولا تسعها عقولهم ولا آراء المتقدمين، حتى وإن كان بعضهم لبعض ظهيرا، ولا يبغي هذا السبيل في الاعتراض والنقد إلا من أراد أن ينزل آراء المذاهب منزلة نصوص الكتاب والسنة، حائلا بين عقول الأمة ونصوص الشريعة، ولا يبعد أن تكون هذه العادة من بقايا نزعة التقليد التي استحكمت في العقل الإسلامي في العصور المتأخرة، حيث أصبحت الشريعة – بحسب وصف الحجوي رحمه الله تعالى – هي نصوص الفقهاء وأقوالهم.
إن العقل الاجتهادي المبدع يستأنف عطاء العقل الإبداعي الإسلامي، ولكن لا يكون مقلدا له؛ ولذلك قد يأتي العقل الإبداعي المعاصر بما لم يخطر على بال المتقدمين، ولم يطرق أسماعهم، ولا يحصر إمكانات الإبداع في المتقدمين إلا من ضعفت همته، وخلد إلى التقليد، وانقطعت به سبل الاجتهاد، أو لا يعلم هؤلاء أن رد كل ما ليس عليه أمر المذاهب يؤدي إلى حصر معاني الشريعة وأسرارها وعجائبها في آراء مذاهب الفقهاء والمتكلمين والأصوليين؟ ولا يخفى ما في حصر معاني الشريعة في حدود مدارك عقول المتقدمين من تضييق لآفاق هذه الشريعة الواسعة، وتجميد لإمكان العقل الإسلامي في الإبداع.
إن هذا الصنيع الذي قام به الفقيه السريري – ويقوم به من هو على منواله في الاعتراض والنقد – ليس بأمر جديد في مجال الممارسة الفكرية، وإنما هو ديدن كثير من المتعصبة والمقلدة في كل زمان ومكان، وحسبنا شاهدا على ذلك ما جاء في الاعتصام للإمام الشاطبي، من وصف حال هؤلاء – أعني المقلدة والمتعصبة – بعبارة غاية في الدقة، حيث يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: “المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة، بحيث يأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم، حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد وتكلم في المسائل ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير، وفوقوا إليه سهام النقد، وعدوه من الخارجين عن الجادة، والمفارقين للجماعة من غير استدلال منهم بدليل، بل بمجرد الاعتياد العامي”.
[1] – تتحدد الائتمانية عند طه عبد الرحمن بكونها فعل تحمل الإنسان أمانة عمارة الأرض بالقيم بمقتضى ميثاق الاستئمان الذي واثق فيه الإنسان ربه في عالم الغيب الإلهي، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك قفي قوله تعالى: “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)”[سورة الأحزاب].