يُعدّ هانز جورج غادامير واحدًا من أعظم فلاسفة القرن العشرين، توفّي منذ ثمانية عشر عامًا عن عمرٍ يناهز الـ 102 عام. كما إنّه المُمثّل الأخير للتقليد الفلسفيّ الألماني العظيم للايبنتز وهيجل وهوسرل، وقد أُحيت ذكراه في كلّ أنحاء العالم بالمؤتمرات والمطويّات العامّة وحفلات التكريم.
لم يكن هذا الرجل فقط شاهدًا على غرق سفينة التايتنك والهجمات الإرهابيّة للحادي عشر من سبتمبر، لكنّه أيضًا كتبَ واحدًا من النصوص الأخيرة التي يمكن اعتبارها كلاسيكيّة بالمعنى الحقيقيّ للكلمة: كتاب “الحقيقة والمنهج”. نُشرَ الكتاب في ستينيّات القرن العشرين، وقد تُرجم إلى اثنتي عشرة لغةً. وقد وضعَ ]هذا الكتاب[ الخطوط العامّة للموقف الفلسفيّ الجديد الذي استجاب لعصرنا بتجنب الحلول الجاهزة التي تمّ تراكمها في نسقٍ مُطلقٍ متعالٍ: أي بالهرمينوطيقا، وفلسفة التأويل.
ليس غادامير مجرّد أكاديميّ تمكّن من جذب عدد من الأتباع، ولكنّه كان من المفكّرين المميزين مثل جون غروندن وجياني فاتيمو وجاك دريدا ويورغن هابرماس وريتشارد رورتي.
وحينما بلغَ غادامير مائة عام في 11 فبراير 2000م، أبلغني معلّمي لمادة الفلسفة لترك كلّ شيء للسفر إلى هايدلبرغ، حيث جرى تكريم آخر رائد ألمانيّ من روّاد الفلسفة الألمانيّة من قِبل كثيرٍ من الفلاسفة العالميين، والمثقفين، والسياسيين، بالإضافة إلى رئيس ألمانيا نفسه.
وكان من المدهش رؤية فيلسوف عملَ سويًّا مع بول ناتروب، ونيكولاي هارتمان، ومارتن هيدغر، وحنّة أرندت، وتيودور أدورنو، يوقّع أعماله الكاملة، ويصافح أيّ أحد كما لو كان صديقه. لكن، ما الذي يجب علينا تذكّره عن غادامير اليوم؟
وكما الحال مع كثيرٍ من الفلاسفة العِظام، كان غادامير أيضًا تقليدويًّا واثقًا، حيث اعتقدَ أنّ فقدان الصلة بتأويل النصوص العظيمة للثقافة الغربيّة، هي واحدة من سِمات عصرنا الرائجة المؤسفة. حيث كان موقنًا أنّ إعادة تأسيس الصلات مع الكلاسيكيّات فقط تُمكّن الإنسانيّة من حفظ نفسها من التدمير الدائم الذي يسببه تقدّم العلوم التقنية.
وبالرّغم من أنّ غادامير لم يكن يحثّ أحدًا على تشويه سمعة العلم، إلّا أنه كان قلقًا حيال السّحر المبالغ فيه والذي يؤدّي إلى تصنيم العلم؛ إذ إنّ الذي يمكن تحليله منهجيًّا من تجربتنا ليس سوى جزء ضئيل منها. لا يعني العلم مجرّد التصديق أو السيطرة، ولكن أيضًا التفسير وتبادُل الحوار، هذا الاستخدام النقديّ مع الحقائق والمنهجيّات هو الذي يحافظ بشكلٍ مذهل على معتقداتنا.
بالنسبة إلى غادامير، فإنّ البشر هم المخلوقات التي ينبغي أن تهتمّ بتأويل عالمها بصورة دائمة؛ وذلك لأنّهم ليسوا كائنات مُحايدة أو مستقلّة، أو مُراقبين موضوعيين، بل هم مؤّولون وجوديّون محددون، ودائمًا ما يكون إفصاحهم عن علاقتهم بالعالم يتمّ بصورة لغويّة.
إذا كانت حظيرة اللغة ذات شأن هام بالنسبة إلى غادامير، فإنها كذلك لأنّه يستحيل أن نعرف أنفسنا مرّة وحيدة وإلى الأبد؛ فمعرفة النّفس أمر لا ينتهي، وفاعليّة ينبغي أن تتكرّر كثيرًا، ومَهمّة دائمًا يجب القيام بها. ومن ثمّ، فإنّ القول الأشهر لغادامير: “الكينونة التي يمكن فهمها جيدًا هي اللغة”، قصدَ في المقام الأوّل منها إلى التشديد على علّة جوهرية باقية إلى اليوم تحدّد القيود المفروضة على الفلاسفة المعاصرين: تجاهُل الآخر.
قال غادامير دائمًا: “إنّ جوهر الهرمينوطيقا يتمثّل في كون الطرف الآخر قد يكون محقًّا”. وهنا تكمن أهمية مفهوم الحوار، لأنه ضروري لفهم الآخرين، لذلك كان المفهوم شديد الأهميّة بالنسبة إلى غادامير. لقد عاشَ خلال قرنٍ عنيف من الحروب، حيث لا أحد مستعدًّا لأن يستمع أو يعترف بالآخرين.
وربّما هذا ما حدا بغادامير في المقام الأول ليتفحّص ويطوّر التقليد الهرمنيوطيقيّ، حيث كانت الهرمنيوطيقا مهتمّة دائمًا بتأويل الآخرين، بالإضافة إلى مزاولة الحوار مع تراثنا.
ومنذ وفاة غادامير في هذا العقد، توسّعت الهرمينوطيقا عالميًّا للدرجة التي أصبحت فيها ليست فقط النقطة الأكثر تمثيلًا للفلسفة القارّيّة، ولكن لتصبح أيضًا العدو الأكبر للفلسفة التحليليّة؛ تلك الفلسفة المفتونة بما كان يخشاه بالتحديد غادامير: أي التطوير المناهجيّ مُنلفت العِقال للعلم.
وعلى الرّغم من أنّ الفلسفة التحليليّة تواصل الهيمنة على كثيرٍ من الحقول الفلسفيّة بالولايات المتحدة الأميركيّة والمملكة المتحدة عن طريق تحالفها مع هيئات علمية خاصّة؛ فإنّ غادامير قد أعطانا الأدوات للردّ على هذا العصر التكنوقراطيّ عن طريق دعوتنا للاحترام وللتعلم من تأويلات الآخرين للنصوص والمؤلّفين الكلاسيكيين.
ومع أنّها سبعة عشر عاماً الآن منذ أن أعطت هايدلبرغ حرمًا آمنًا لأب الهرمنيوطيقا، فقد أبقته الهرمنيوطيقا حيًّا على ظهر الحياة عن طريق تحذرينا من المخاطر السياسيّة لثقافة التكنوقراط، وخضوعها لمنهجيّات العلوم الطبيعيّة.
سانتياجو زابالا