إذا كان لكل زمان أسئلته الخاصة، وكان منطق الأشياء يقتضي أن يكون لكل سؤال جوابه الخاص، فإنّ واجب الأمّة الإسلامية يحتّم عليها صوغ أجوبتها الخاصّة والمستقلّة عن أسئلة زمانها، ويعدّ كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” للمفكر السياسي علي عزت بيغوفيتش، في مبناه ومعناه، جوابا إسلاميا بلغة العصر عن أسئلة الزمان والمكان التي عاشتها الأقلية المسلمة المستضعفة في جغرافيا الاتحاد اليوغسلافي الشيوعي المنهار، ذلك أن واقع الزمان بسياقاته السياسية والفكرية الممتدة، وواقع المكان بقيوده وحدوده الجغرافية المعيقة، وضعا المكون الإسلامي الناشئ على أرضية البوسنة والهرسك، منذ منتصف القرن العشرين، في مأزق هواياتي ونهضوي حاد، وقيدا حركته النهضوية ومستقبله الهوياتي بثنائية مهيمنة مستبدة، تنازعتها إعاقات الاستبداد الشيوعي القاتل، ومكائد الخذلان المسيحي المتواطئ، فولّد هذا الواقع الضاغط شعورا قويا لدى الرجل بخطورة الأزمة المحدقة بمستقبل المكون الإسلامي هناك، وفرض عليه أسئلة حارقة حول مستقبل الشباب الإسلامي وإشكاليات النهوض، وحول مقدرة الإسلام على مواكبة أسئلة الإنسان عامّة، واستيعابها في إطار تصوّر ناظم وحاكم لعالمي التصورات والتصرفات الفردية والجمعية، قادر على توجيه البشرية كافّة، والمسلمين خاصّة، نحو مدراج الرشد والصواب، والنأي بها عن مزالق التيه والضياع، وقد انبثقت أسئلة ذلك الزمان من تقاطع سياقات داخلية وخارجية يمكن التعريج عليها فيما يلي:
السياق الداخلي:
على الواجهة الداخلية كان علي عزت معنيّا بالعمل على تحصين الهوية الإسلامية، وتمكين الشباب الإسلامي من أدوات فهم الإسلام بأسلوب عصري جديد، أسلوب متصل بالأصل ومنفتح على العصر، سيما وأنّ هذا الشباب حُرم من الاتصال بمصادر استمداده الفكري والعلمي، وأصبح محاصرا في اختياراته الفكرية بين الإلحاد الرسمي الذي تبناه الفكر الشيوعي، والتنصير المسيحي الذي فرضته الكنيستان الكاثوليكية الغربية والأرثوذوكسية الشرقية، وكان الاختيار بينهما كما ذكر مترجم الكتاب “اختيارا بين سرطان الدم أو سرطان الدماغ.”[1]
السياق الخارجي:
أمّا على الواجهة الخارجية فقد عانى المكون الإسلامي من تحديين كبيرين:
التحدي الأول سياسي؛ وتمثل في الظروف السياسية القاسية التي رزحت تحت وطأتها الأقلية المسلمة التواقة للحرية والانعتاق، والتي عانت من ثنائية الاستبداد والخذلان، استبداد العقل الشيوعي المثقل بخلفياته العنصرية والديكتاتورية العنيفة، وهو الذي قاد حرب إبادة عنصرية إجرامية لا شفقة فيها ضد المكون المسلم الأعزل الذي ناد بالحرية واستقلال الكيان في دولة البوسنة والهرسك، وخذلان الغرب المسيحي ممثلا في اتجاهيه الكاثوليكي والأرثودوكسي، الذي تواطأ في أحيان كثيرة واكتفى بموقف الفرجة في أحيان أخرى.
أما التحدّي الثاني؛ وهو الأهم، فهو تحدّ فكري همّ عالم الأفكار، وتمثل في الصدام الفكري الناشئ عن تناقض إيديولوجي بين ثنائيتين هيمنتا على الساحتين الفكرية والعقدية، ووقفتا على طرفي النقيض والصدام في تاريخ الفكر الإنساني، وهما ثنائية المادة والروح، أو ثنائية الطبيعة والدين، أو ثنائية الأرض والسماء، وقد سارت هاتان المرجعيتان في حركتيمها التاريخية والفكرية وفق اتجاهين متعاكسين ومتناقضين، بحيث اتجهت الرؤية المادية إلى الخارج أو ما اصطلح عليه المؤلِّف العالم البرّاني، وقامت على أفكار مادية تأخذ نقطة بدايتها وجود المادة، وتعتقد أنّ المادة هي المبدأ الأولي لوجود العالم، وهي العامل المتحكم في حركته التاريخية وفق مبدأ التطور والانتقاء الطبيعي، ويمثلها العقل الشيوعي والنظام الاشتراكي، في حين اتجهت النظرة الثانية التي يمثلها الفكر الديني المسيحي خصوصا في اتجاهيه الكاثوليكي والأرثوذوكسي إلى الداخل؛ أي إلى العالم الجوّاني الذي يقابل العالم البراني لدى الماديين، أي إلى عالم الروح والخلاص الداخلي والرهبنة، حيث حلقت المسيحية في روحانية التاريخ بعيدا عن مؤثرات الحياة الخارجية، وإشكالاتها الواقعية والاجتماعية.
أما التحدّي الثاني؛ وهو الأهم، فهو تحدّ فكري همّ عالم الأفكار، وتمثل في الصدام الفكري الناشئ عن تناقض إيديولوجي بين ثنائيتين هيمنتا على الساحتين الفكرية والعقدية، ووقفتا على طرفي النقيض والصدام في تاريخ الفكر الإنساني، وهما ثنائية المادة والروح، أو ثنائية الطبيعة والدين، أو ثنائية الأرض والسماء،
وتبعا لهذه الثنائية الفكرية، فقد انتجت كل مرجعية منهما مفاهيم خاصّة، نظمت تصوراتها النظرية وسلوكياتها العملية، وهكذا برزت مفاهيم المجتمع في الفكر المادي مقابل الإنسان في الفكر الديني، والتقدم مقابل الإنسانية، الحضارة مقابل الثقافة، البراني مقابل الجواني، الجبرية والحتمية التاريخية مقابل الحرية وإرادة الإنسان، الطبقة الاجتماعية مقابل الجماعة الروحية، العلم مقابل الدين، المصلحة مقابل القيم والأخلاق، دارون مقابل مايكل أنجلو، الإنسان نتاج الطبيعة المادية مقابل الإنسان مخلوق الله، الصراع من أجل البقاء (مبدأ الاختيار الطبيعي) مقابل النضال من أجل الخلاص.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد أوجدت كل نظرية علاقات داخلية بين مفاهيمها الخاصة، فنجد في الاتجاه المادي مثلا وجود علاقة داخلية بين نظرية التطور لدى دارون وإنكار حقوق الإنسان، وبين الإلحاد وعمليات التطهير العرقي.
ثنائية الإنسان في الإسلام وخصوصية الجواب الإسلامي.
في خضّم ذلك السياق المتناقض والضاغط، الممزوج بين آلام التحديات الخارجية وآمال الانعتاق الداخلي، نضجت الفكرة الأساسية لكتاب “الإسلام بين الشرق والغرب”، واستوى عودها، وقد قدّم المؤلِّف فيها جوابا إسلاميا عن تلك الأسئلة الحارقة والتحديات المعيقة، واختزله في واحدة من أبرز خصائص الإسلام، وهي خصيصة “الوحدة ثنائية القطب” التي شكلّت أساس مشروعه الفكري، وجوهر رؤيته للإنسان والكون، وتقوم هذه الخصيصة على فكرة النظر إلى الإنسان باعتباره كيانا ذا بعدين اثنين، بعد مادي وبعد روحي، يتحدان فيما بينهما في حقيقة واحدة، هي حقيقة الحياة الإنسانية الكاملة، وتستوعب فكرة ثنائية الإنسان، كما قدمها علي عزت، في متنها ما تناقض في الأيديولوجيتين المادية والمسيحية من الأفكار، والتصورات، والرؤى، وبذلك فهي تجسّد فكرة الطريق الثالث للخلاص والانعتاق الذي يجمع بين النزعتين الواحديتين المنفصلتين في نزعة واحدة ثنائية القطب، وهو طريق الإسلام من حيث كونه منهجا يجمع بين المبادئ المتعارضة، فيوازن بين متطلبات الخلود المادي الأرضي وضرورات الارتقاء الروحي السماوي، ويراعى خصائص الفطرة الإنسانية بجانبيها المادي والروحي، في رؤية جامعة ومتوازنة ومتسقة مع تركيب الإنسان المادي والروحي، رؤية تبحث بحثا دائما عبر التاريخ عن حالة التوازن الجوّاني والبرّاني، وهذا هو هدف الإسلام، وهو واجبه التاريخي المقدر له في المستقبل، لذلك قال المولِّف إنّ:” الإسلام هو الاسم الذي يطلق على الوحدة بين المادة والروح، وهو الصيغة الأسمى للإنسان نفسه”[2] وأضاف في موضع ثان من الكتاب قائلا:” إنّ الإسلام يعني أن نفهم وأن نعترف بالازدواجية المبدئية للعالم، ثم نتغلب على هذه الازدواجية”[3]
وتبعا لهذه الرؤية الثنائية فقد صاغ مشروعه الفكري في الكتاب وفق منهج راعى مفهوم ثنائية الإنسان، ومقتضيات فكرة الطريق الثالث ومستلزماتها الكلّية، فطرح في القسم الأوّل المكوّن من ستة فصول مقدمات نظرية، أخضع فيها أفكار الرؤيتين المادية والروحية للتحليل والتدقيق، وكشف فيها تناقضهما وتعارضهما العقلي والعلمي، الذي كان سببا مباشرا في إخفاقات الجنس البشري على طول حركيته التاريخية، وقد استهلّ مناقشتهما أساسا في قضية الأصل والمصير، أي قضية الخلق وما بعد الخلق، التي تشكل أصل التساؤلات الوجودية، وما يتصل بها من قضايا تابعة، واستند في مناقشته لمنهج الدراسة المقارنة للمقدمات الأساسية والنتائج المترتبة عليها في المجالات الاجتماعية والقانونية والسياسية والثقافية والنفسية، وغيرها من المجالات للأيديولوجيتين اللتين حددتا أقدار الجنس البشري على مدى القرون الأخيرة، لذلك نجده مثلا يتناول في الفصل الأول؛ ثنائتي الخلق والتطور وذلك باعتبارهما إجابتين متقابلتين ومتناقضتين عن قضية الأصل والمصير، إحداهما استقرت في العقل المادي الإلحادي وهي التطور، والأخرى تبناها العقل الديني الكهنوتي وهي الخلق، وعلى المنوال نفسه سار في عرض القضايا الأخرى، الثقافة والحضارة، الدراما والطوبيا، إلى غير ذلك من القضايا المرتبطة بأصل الإنسان، ووظيفته، ومصيره، ليخلص في استنتاجاته في هذا القسم إلى تأكيد الازدواجية الشاملة للعالم الإنساني بين نظرتين متناقضتين؛ مادية ودينية، أرضية وسماوية، تشتملان على تناقضات مستعصية بين الروح والجسم، بين العلم والدين، بين الثقافة والحضارة، تناقضا لا علاج له.
أما القسم الثاني؛ فقد تناول فيه علي عزت فكرة الطريق الثالث للخلاص، التي هي الفكرة الإسلامية، إذ هي الفكرة التي من خلالها يستطيع الإنسان التغلّب على ازدواجية النزعات وتناقضها، لأنّها تجسد تطابقا وانسجاما فطريا مع الإنسان، لذلك عرضها مركّزا على واحدة من أبرز خصائصها، وهي خصيصة “الوحدة ثنائية القطب”، أي الوحدة التي تجمع بين المتناقضين الإثنين، المادة والروح، الدين والدنيا، جمع تفاعل لا جمع تجاور، أي جمعا تتفاعل فيه عناصرهما المتناقضة لتنتج عناصر ذات خصائص جديدة، كما تفعل ذرات الأوكسيجين مع ذرات الهيدروجين التي تتفاعل لتنتج الماء الذي يشرب منه الإنسان والحيوان والنبات.
وقد استطاع المؤلف كشف شفَرات المعادلة الثنائية في النسق الديني الإسلامي، فتجسّدت، في نظره، ابتداء في طقوس العبادات المفروضة كالصلاة، التي تتضمن معادلة تجمع بين بعدين اثنين، بعد مادي وبعد روحي، إذ هي “ليست مجرد تعبير عن موقف الإسلام من العالم، إنما هي أيضا انعكاس للطريقة التي يريد بها الإسلام تنظيم هذا العالم”[4] وفق مبدأ الوحدة ثنائية القطب، فهي تجمع أمرين منفصلين هما هدفا الإنسانية في الحياة: الجهود المادية، والجهود الروحية، فلا صلاة بدون وضوء، وهنا تمثّل الصلاة الجانب الروحي الجوانّي، في حين يمثل الوضوء الجانب المادي البراني، على عكس الصلاة في بعض النظم الدينية المجردة كالمسيحية والهندوسية، التي يؤديها الرهبان ورجال الدين بدون طهارة مادية، بل يؤدّونها مع وجود القذارة المقدسة، اعتقادا منهم أنّ إهمال النظافة أمر يقوي العنصر الروحي في الصلاة، وهو ما يجعل الصلاة لديهم شعيرة واحدية المنزع والاتجاه.
تبعا لما سبق عدّ “علي عزت” الصلاة أكمل تصوير لما نطلق عليه “الوحدة ثنائية القطب” في الإسلام، ونظرا لما فيها من بساطة، فإنها اختزلت هذه الخاصية الى تعبير تجريدي، وأصبحت بذلك المعادلة أو الشفرة الإسلامية لفكرة الوحدة ثنائية القطب.
وقد استرسل المؤلف في استنباط صور الثنائية في نصوص الإسلام من خلال كشف معادلاتها الدّالة في القرآن والسنة، وأمكنه فهمه الحصيف من استيحاء هذه المعادلة في عبادة الزكاة، والصوم، والنطق بالشهادتين، وفي أعمال العمارة الإسلامية، والفن الإسلامي، وتحريم الخمر، وغيره، بل حتى صيغ التكليف التي تقرن الإيمان بالعمل الصالح ما هي، في نظره، إلا صيغة معينة من معادلة ثنائية القطب، التي هي آمن وافعل خيرا، بحيث يتجه الإيمان إلى داخل الإنسان وروحه، ويتجه العمل إلى ظاهر الإنسان وعالمه الخارجي.
وتنطبق الثنائية على مصادر الإسلام وعلى تاريخه كذلك، حيث يوجد مصدران أساسيان: هما القرآن والسنة النبوية ويمثلان معا الوحي والتطبيق العملي له، أي الفكرة والممارسة، وتطور الإسلام تاريخيا تمّ على مرحلتين؛ مرحلة مكية عقدية روحية، وأخرى مدنية تشريعية عملية.
كل هذه النماذج تؤكد أنّ الإسلام إنّما هو نظام واحدي ثنائي القطب، يجمع بين بناء إنسان الأرض وإنسان السماء، ويُعنى بجوهر الإنسان الروحي، كما يُعنى بمظهره المادي، أي يُعنى بالدعوة إلى خلق إنسان متسق مع روحه وبدنه، ومجتمع تحافظ قوانينه ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية على هذا الاتساق ولا تنتهكه، وهنا يكمن مستقبل الإنسان، ويتعاظم نشاطه العملي.
[1] الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيغوفيتش، ترجمة محمد يوسف عدس، مؤسسة العلم الحديث بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1414هـ 1994م، ص 15.
[2] الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص 27.
[3] المرجع نفسه، ص 33.
[4] الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص 293.