يقال عادة، على سبيل التقريب البيداغوجي للدرس الفلسفي، أن الفلسفة تفكير إنساني منحاز بالضرورة إلى الإنسان، حتى يجد هذا الدرس موقعه ضمن هذا النسق التربوي أو ذاك، في البلدان التي تراهن على أدوار معينة لتدريس الفلسفة، في نشر قيم قيم العقلانية والديمقراطية والمساواة، والاعتزاز ب”الهوية الإنسانية”، والاعتراف والتسامح..إلخ.
يحسن بنا، بهذا الصدد، العودة إلى المثال الشهير الذي وظفه ابن رشد في مجادلته لموقف الغزالي من الفلسفة، حينما شبه “من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها، من أجل أن قوما من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات من العطش، لأن قوما شرقوا به فماتوا. فإن الموت عن الماء بالشرق أمر عارض، وعن العطش أمر ذاتي وضروري”[1].
ما يهمنا من هذا النص هو تشبيه الفلسفة بالماء، ونترك ما تبقى من تمييز بين ما هو عرضي وما هو ذاتي، وبين الخاصة والعامة، ومن دون الدخول في نقاش مدى التناسب بين المشبه والمشبه به، وهل ترقى الفلسفة إلى درجة المادة الحيوية التي تعد ضرورة من دونها يستحيل العيش كما هو الحال بالنسبة للماء. نترك كل ذلك وراء ظهورنا ونكتفي بمنطوق التشبيه، الذي يقتضي أن الفلسفة مثل الماء، تنفع كما تضر، وينبغي التعاطي معها على هذا الأساس، فهي ليست إنسانية بإطلاق، ولا هي ضد الإنسان بإطلاق.
إن تاريخ الفلسفة يعزز حقيقة أنها احتضنت قيما إنسانية نبيلة، كما احتضنت أخرى مضادة، مثل احتقار الأجناس الأخرى، غير الآرية، واحتقار المرأة، واحتقار الثقافات غير الأوروبية، والانتصار للقيم الدينية اليهو-مسيحية .. الخ. وليس عيب الفلسفة أن تكون مع الإنسان وضده في الوقت ذاته، وإنما العيب في النزعات الإيديولوجية التي رفعت الفلسفة إلى درجة مثالية، تصبح معها المفتاح السحري، والكوني، لحل كل مشاكلنا الإنسانية الأخلاقية.
والحال أن الفلسفة، لم تعد اليوم قادرة على تقديم “إجابات”، شافية وكافية، وأنها لم تعد بأي حال من الأحوال “أم العلوم “، كما أن الأنساق الفلسفية التقليدية لم يعد بإمكانها تقديم أي شيء ملموس لواقعنا المعاصر، مما يدفعنا إلى مراجعة التساؤل حول ماهية الدور الذي يمكن أن تضطلع به الفلسفة اليوم.
بالنسبة لنا، ليست الفلسفة سوى نشاطا فكريا جدليا، مهمته مواكبة، ومصاحبة، جدالاتنا الفكرية والأخلاقية، ومساعدتنا على انفتاح قناعاتنا، وقيمنا، وتصورنا للمجتمع، وللسياسة، ومنحنا الحق في المناقشة الحرة والنقدية.
من هذا المنظور نريد في هذا المقال فتح مجال للنقاش مع عدد من المواقف التي عبر عنها عدد من الفلاسفة المعاصرين بخصوص المحرقة الصهيونية بغزة التي تدل عليها بمنتهى الوضوح مشاهد الإبادة الجماعية التي يتعرض لها المدنيون العزل، من قتل وتدمير للممتلكات والمنازل والمرافق الحيوية، ومستشفيات ومدارس ودور عبادة، على يد الآلة العسكرية الصهيونية المعززة بأحدث وأفتك أسلحة الدمار والقتل التي ابتكرتها الصناعة الحربية الغربية المعاصرة.
لكن، وقبل ذلك، وكما عبرنا أعلاه عن رفضنا للنزعات الاحتفائية بالفلسفة على الإطلاق، نرفض، في الوقت ذاته، هذه النزعة التي أدمنت عندنا على الشيطنة المطلقة، للفلسفة والفلاسفة، والتي انتهزت لحظة الوضع المأساوي في غزة، الذي تتفنن في صناعته يوميا دولة الكيان الصهيوني، والذي يجد، كما هو الحال دائما، في الحكومات الغربية الأساسية حاضنة سياسية ومالية وإعلامية، فضلا عن العسكرية، لمختلف مجرياته، في تناقض صارخ مع كل القيم الديمقراطية والإنسانية التي تدعي، كذبا وزورا، أنها حاملة لوائها، وناشرة أخلاقها الكونية، المبشرة بمثل الإخاء والحرية والمساواة بين سائر الأجناس البشرية.
هذا الوضع الملتبس دفع بعض الذين كانوا ينتظرون أقرب وأتفه فرصة، لإعلان كفره بما انتهت إليه العقول البشرية، وفي مقدمتها العقول الفلسفية، من قيم كونية سامية، ومن مدونة بشرية قانونية، تنتصر لكرامة الإنسان، وتحمي حقوقه الفردية والجماعية، بما فيها حقه المقدس في الحياة، وفي الأمن، وفي العيش الكريم في وطن حر ومستقل تدبره سلطة منبثقة من اختياره الذاتي والأصيل.
أعلن البعض عندنا كفره بفلسفة وفلاسفة التنوير، واعتذر لمن ادعى أنهم طلبته الذين “لقنهم” مبادئ فكر “الأنوار”، وكأن الذي يقذف أطفال غزة بالقنابل الفوسفورية والصواريخ الذكية الموجهة، هم فلاسفة الأنوار وقد بعثهم الصهاينة من قبورهم لهذه الغاية التخريبية الدنيئة.
لم تقف خفة أصحاب هذا المنطق (أو اللامنطق) الانفعالي، الاختزالي والتبسيطي، عند هذا الحد بل انتهز لحظة مشاعر الغضب عند الجماهير المقهورة، من الحكومات الغربية، المتواطئة مع القتل الجماعي للشعب الفلسطيني بغزة، تحت ذريعة زائفة وهي حق “إسرائيل في الدفاع عن النفس”، أقول انتهز هذا البعض الفرصة ليجدد حربه القديمة على قيم الفلسفة والعقل وما يرتبط بهما من مفردات الأنوار والحداثة والديمقراطية.
تنتهز آلة التدليس اللحظة التراجيدية في فلسطين لتمعن في ألوان شتى من الخلط والتشويش، نجتبي منها لونين اثنين:
أولهما، الخلط بين الغرب والحداثة، مستغلة كون الغرب هو من يحمل اليوم مشعل الحداثة، ويجني، أكثر من غيره، ثمارها سياسيا واقتصاديا وثقافيا، من دون أن يعني، هذا التبني، أن الحداثة ثمرة غربية خالصة، بل هي نتاج لتراكم إنساني ساهمت فيه كل الشعوب والحضارات الإنسانية على مر التاريخ، ومن بينها الحضارة العربية الإسلامية، ولسنا في حاجة إلى أي نزعة تمجيدية تحتفي بإسهامات الثقافة العربية والإسلامية في هذا الصدد.
ثانيهما، الخلط بين القيم الديمقراطية الليبرالية، والهجمة النيوليبرالية المتوحشة، على كل ما هو جميل وإنساني في هذا العالم، بحيث لا نتردد أن نعتبر العدو الأول للديمقراطية اليوم هو هذه القوى النيوليبرالية المتوحشة، التي تعمد إلى إفراغ الديمقراطية من أهدافها الإنسانية النبيلة، في الغرب كما في الشرق.
ففي البلدان الغربية تتحكم هذه اللوبيات المتوحشة في الاقتصاد والسياسة والإعلام، وتسخر كل الآليات المتاحة للتحايل على إرادات شعوبها، وتوجيهها وجهات مخالفة لاختياراتها وتطلعاتها؛ كما أنها تدعم، وبقوة، الأنظمة المستبدة، في مختلف بقاع العالم، المقول عنه ب”العالم الثالث”، بمختلف آليات الدعاية والقمع، لوأد كل تجربة ديمقراطية ناشئة.
إن المعركة الحقيقية اليوم، هي تلك التي ينبغي أن تخوضها مختلف القوى الديمقراطية في هذا العالم ضد القوى النيوليبرالية المتوحشة، التي، بجشعها الآثم، وركدها البشع، وراء الربح والمصلحة وتنمية الرأسمال بلا مبدأ، تغتال يوميا البيئة والإنسان والحيوان على حد سواء.
من بين هذه القوى الديمقراطية، ولربما في طليعتها ومقدمتها، يوجد فلاسفة أحرار بهذا العالم، لم تنطل عليهم كل حيل الدعاية الصهيونية، وكل أساليبها الترغيبية والترهيبية، في جعلهم يحيدون عن مهمة الفلسفة التي كانت دائما منحازة للإنسان بما هو إنسان، بصرف النظر عن لونه أو بشرته أو ملته أو عرقيته.
- في البدء كان بيان طلبة هارفرد:
سرع وتيرة هذا النقاش الفلسفي بيان أصدره طلاب بجامعة هارفرد، يوم الاثنين 09 أكتوبر 2023، يتضامن مع شعب غزة، ويدين الحرب التدميرية التي أعلنتها دولة الكيان الصهيوني، ويحملها مسؤولية رد فعل المقاومة الفلسطينية يوم 07 أكتوبر، الذي عرف ب”طوفان الأقصى[2].
خلف البيان ردود فعل عنيفة، خاصة المضادة منها، والتي ذهب إلى حد اتهام المنظمات الطلابية الموقعة عليه بمساندة “إرهاب” حماس، و”معاداة السامية” ودعت الجامعة إلى اتخاذ مواقف زجرية صارمة في حق كل من سولت له نفسه اقتراف هذا “الذنب”.
- تعقيب جوديت بتلر
شارك في هذا النقاش عدد من الأكاديميين يهمنا من بينهم، مساهمة الفيلسوفة الأمريكية المعاصرة جوديث بتلر التي اختارت له (Blacksmith’s compass)عنوانا[3] ؛ التي نشرت مقالة فلسفية نقدية، حاولت أن توجه خلالها النقاش إلى ما اعتقدت أنها البوصلة الحقيقية، وهي عدم الاكتفاء بالوقوف عند حدود الموقف الأخلاقي الذي يدين العنف، أيا كان مصدره أو مبرره، بل ترفض أن تكون هذه الإدانة أحادية الجانب، وتكتفي بإدانة طرف واحد، وتعلن الحداد على ضحايا جانب واحد، وتفضل طفلا على طفل، وامرأة على امرأة، وتنتقي مدنيين تتضامن معهم وتغض الطرف عن المذبحة التي يتعرض لها مدنيون آخرون.
ففي نظرها ينبغي إدانة حماس على ما تفعله، وعلى ما اقترفته عناصرها يوم 07 أكتوبر، وأن لا شيء يمكن أن يبرر في نظرها عنف حماس الذي وصفته ب”البشع والوحشي”، علما أن فيلسوفتنا تعترف بأن أصل المشكلة هو الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، وأن حق المقاومة تكفله كله المواثيق القانونية والأخلاقية، من دون تلتفت للتهمة الجاهزة، التي وصفتها بالخبيثة، والتي تلصقها الدعاية الصهيونية بكل من انتقد أساطيرها السياسية ب”معاداة السامية”.
كما أنها، ترفض الوقوف عند حدود الاكتفاء بالإدانة الشاملة للعنف، بل تسعى إلى فهم تاريخه وسياقه وحيثياته، لتصل إلى خلاصة أساسية وهي أنه من دون إقرار عدالة حقيقية، يتمتع فيها الشعب الفلسطيني بحقه في تقرير مصيره، وتضع حدا للآلة الجهنمية الصهيوينة، الممعنة في القتل والإبادة والتجويع والحصار، ناهيك عن الاستيطان، فإن العنف الدامي سيبقى قائما.
- الفلسفة من أجل غزة
انخرط في هذا النقاش عدد من الفلاسفة الأمريكيين المعاصرين، بتوقيعهم على بيان يحمل عنوان الفلسفة من أجل غزة (Philosophy for Palestine )[4] عبروا فيه، وبشكل كتابي وعلني، عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني وإدانتهم المذبحة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، بل أدانوا، بكل قوتهم الفكرية، الدعم العسكري والمالي والإيديولوجي لحكومات بلداهم لهذا الكيان الغاصب، ولانتهاكاته الجسيمة لحقوق الإنسان الفلسطيني.
لا يدعي هؤلاء الفلاسفة أي سلطة فريدة – أخلاقية أو فكرية أو غير ذلك – من حيث كونهم فلاسفة، وإنما يعبرون عن نزعة فلسفية نقدية تقف على النقيض من كل التيارات العنصرية والإقصائية. ويوجهون الدعوة لكل المشتغلين بالحقل الفلسفي، وكل ذي ضمير إنساني حي ونقدي، إلى نبذ حالة التواطؤ والصمت، مع وعلى، جرائم الاحتلال الإسرائيلي والانضمام إلى صوتهم التقدمي نحو الحق والحرية والعدالة.
كما يشير هؤلاء الفلاسفة أن تركيزهم في بيانهم على التصرفات الإجرامية للدولة الإسرائيلية والدعم الثابت الذي تتلقاه من الولايات المتحدة وحلفائها، لا يعني احتفالهم بالعنف، ولا المراوغة بشأن قيمة الأرواح البريئة. ففي نظرهم تعد الوفيات بين المدنيين، بغض النظر عن جنسيتهم، أمرا مأساويا وغير مقبول. لكنهم يرفضون، وبكل وضوح، اعتبار تاريخ العنف قد بدأ بهجمات حماس في 7 أكتوبر 2023، فذلك يعد استخفافا بالعقول. لأنه لكي يتوقف العنف يجب أن تتوقف كل أسبابه وعلى رأسها الاستعمار الصهيوني لأرض فلسطين.
يمكن الاستطراد في عرض مواقف فلسفية أخرى، مدينة لما يجري من ظلم وإبادة بالأراضي الفلسطينية المحتلة، سيرا على قيم الفلسفة المتشبعة بإرث الإنسانية والأنوار، التي تتعرض لحملة تافهة عندنا من طرف الذين فقددوا البوصلة الحقيقية للصراع الجاري حاليا، بسبب مواقف أخلاقية مضادة صدرت عن فلاسفة آخرين لم يتحلوا بالبصيرة الكافية لاتخاذ المسافة الضرورية من تأثيرات الدعاية الصهيونية، وأساطيرها وأكاذيبها المختلفة، التي تبوأت في عدد من المواقع الفكرية والأكاديمية موقع السلطة المعرفية والأخلاقية الغربية، التي يعد مجرد مساءلتها خطيئة لايجرؤ أحد على اقترافها.
- رد فعل شايلة بنحليب
من بين هؤلاء الأكاديميين نستحضر الفيلسوفة الأمريكية، شايلة بنحبيب، التي عبرت عن موقف مضاد للبيان السابق، في رسالة[5] وجهتها إلى أصدقائها الموقعين على بيان “الفلسفة من أجل غزة”، بحيث تعلن منذ الفقرة الأولى عن عدم تأييدها لجل الآراء الواردة في رسالة من تخاطبهم ب”أعزائها وأصدقائها”.
فضلت قبل بيان أوجه اعتراضاتها، توضيح موقفها من القضية الفلسطينية، منذ كانت ناشطة طلابية في جامعة اسطمبول أواخر ستينيات القرن الماضي، داعمة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ومتبنية للموقف الداعي إلى حل الصراع العربي الصهيوني بإقامة دولة مشكلة من قوميتين اثنتين، يهودية وعربية، سواء في إطار مركزي أو في إطار اتحادي فيدرالي.
تنتقل بعد ذلك إلى تسجيل ملاحظاتها على الرسالة، وأيضا اقتراحاتها الخاصة بخصوص الصراع العربي الصهيوني، والتي نجملها في العناصر التالية:
أولا: رفض اعتبار ما وسمته ب”الفظائع التي ارتكبتها حماس يوم 07 أكتوبر 2023″ بالمقاومة المشروعة للاحتلال الاستيطاني الصهيوني.
ثانيا: رفض اعتبار الصهيونية نزعة عنصرية على الرغم “من تصرفات دولة إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة ومخيمات اللاجئين (…) وغزة، تمييزية على أساس الجنسية، وليس اللون”[6]. وهو التمييز الذي يعكس، في نظر بنحبيب، حالة طوارئ بين إسرائيل وجيرانها العرب، وليس موقفا عنصريا.
ثالثا: إدانتها لحركة حماس لأنها حركة “عدمية” هدفها إبادة شعب إسرائيل، وقد ارتكبت ما اعتبرته “جرائم ضد الإنسانية” يوم 07 أكتوبر.
رابعا: رفضها إدانة جرائم إسرائيل في غزة لأن حركة حماس وضعت قواعدها بالمستشفيات والمرافق المدنية واتخذت السكان العزل ذروعا بشرية، بشكل يجعل من الصعب على إسرائيل في حربها ضد حماس تجنب حدوث ما تعتبره فيلسوفتنا أمرا مؤلما ومؤسفا، وهو قتل المدنيين العزل.
خامسا: تأييدها للدعوة إلى وضع حد لما سمته ب”هذه الدورة القاسية من العنف” بوقف فوري لإطلاق النار في غزة.
سادسا: نقدها لاتفاقات أبراهام التي أهملت الفلسطينيين وحقهم في تقرير مصيرهم، وإقامة دولة فلسطينية وإخلاء المستوطنات من الأراضي المحتلة سنة 1967، رغم وعيها بما قد يسببه الإجراء الأخير من حرب أهلية داخل الكيان الصهيوني.
سابعا: تعتبر بنحليب أن الأخطار التي تهدد الحل السلمي لهذا الصراع تتمثل في: انتصار حماس أولا، وتعبئة الرأي العام العالمي ضد الكيان الصهيوني ثانيا، وسياسات الأحزاب اليمينية الصهيونية الاستيطاينة ثالثا، والذين تعتبرهم “ورثة سلسلة طويلة من الفاشية اليهودية، التي أدانها ألبرت أينشتاين، الذي انضمت إليه حنا أرندت وسيدني هوك، في رسالتهم المفتوحة إلى صحيفة نيويورك تايمز. بتاريخ 2 كانون الأول (ديسمبر) 1948 بعنوان “حزب فلسطين الجديد: مناقشة مناحيم بيغن وأهداف الحركة السياسية”[7].
ومن دون أي إطالة في الرد على بنحليب نسجل أن موقفها من حدث طوفان الأقصى صدر تحت تأثير الدعاية الصهيونية الكاذبة والمضللة، والتي استعادت مأساة الهولوكست ووظفتها توظيفا صهيونيا مغرضا، معززة ذلك بثراء فاحش من الأكاذيب مثل ادعاء قطع حماس لرؤوس أطفال المستوطنين وحرق المدنيين واغتصاب النساء وغيرها من الأباطيل التي كشفت وسائل الإعلام الصهيونية ذاتها، كذبها وزيفها، كما اكتشف الرأي العام العالمي كله مدى سخافة كذب قادة إسرائيل وتفاهة أباطيلهم.
ولسنا ندري كيف لفيلسوفتنا أن تترك عقليتها الفلسفية، التمحيصية والنقدية، في غيبوبة شبه تامة، وتساير هذه الألوان المفضوحة من التظليل الإعلامي، التي اكتشفها صحفيون ومحللون ومتتبعون، بل حتى الجمهور من المتتبعين العاديين؟
هكذا نعتقد، في نهاية مناقشتنا لشيلا بنحبيب، أنها ضيعت موقفها الأخلاقي من محرقة غزة بسبب عدائها الإيديولوجي المفرط للإسلاميين، ورفضها لحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال إذا كانت حماس الإسلامية هي من تقوم بهذا الحق، كما عبر عن ذلك المفكر العربي عزمي بشارة[8].
- بلاغ هابرماس ومن معه
نأتي الآن إلى الفيلسوف الذي أثار موقفه ضجة كبيرة في عدد من الأوساط العربية، بحكم شهرته القارية، وبحكم اقتصار متابعة تلك الأوساط العربية لما تجود به الفلسفة القارية، وعدم مواكبتها للتطورات الفلسفية العالمية الأخرى، في أمريكا وآسيا وأفريقيا.
يتعلق الأمر بيورغن هابرماس الذي كتب رسالة موجزة جدا، وبمعية بضعة مفكرين[9]، ومع ذلك لقيت الرسالة رواجا كبيرا، ونقاشا بالغا، لا نعتقد أنها تستحقه، بقدر ما تستحقه الكتابات الأخرى التي أشرنا إليها سابقا.
البلاغ المقتضب يحمل عنوان “مبادئ التضامن”، التي ينبغي التحلي بها في ألمانيا من أجل التضامن مع “حق إسرائيل” في الدفاع على النفس، بما يحدد المواقف الأخلاقية المطلوبة مما يجري من حرب عبارة عن وضع “خلقته الأفعال الفظيعة التي ارتكبتها حماس” يوم سابع أكتوبر وما نتج عنه من رد فعل صهيوني.
فبالنسبة لهابرماس، ومن معه، سبب المشكلة هو “المذبحة” التي ارتكبتها حماس، وبرنامجها الذي يرمي إلى تدمير الحياة اليهودية بإسرائيل، وبالتالي فرد فعل الكيان الصهيوني هو “رد فعل انتقامي مبرر”، بصرف النظر عن النقاش حول كيفية تنفيذه، والذي ينبغي فقط، لا وقفه، ولا حتى استنكاره، بل التأكيد على أن يكون “متناسبا” ومتجنبا لوقوع إصابات في صفوف المدنيين الفلسطينيين.
لكن، ورغم ما يثيره “القلق” حول ما ترتكبه إسرائيل في صفوف الأطفال والنساء والشيوخ بغزة من مجازر وحشية، فإن ذلك لا يرقى، في نظر فيلسوف التواصل العقلاني وصحبه الموقعين على البلاغ، إلى درجة اعتبار ذلك جريمة حرب وإبادة جماعية، لأن نية الكيان الصهيوني ليست ذلك وإنما “الدفاع عن النفس”.
ومهما وقع، ويقع، لشعب غزة كنتيجة لتصرفات الجيش الصهيوني فإن ذلك لا يبرر ما اعتبره هابرماس بتنامي نزعة “معاداة السامية” في ألمانيا، التي ترتبط بثقافة سياسية تعتبر حق اليهود في العيش وحق إسرائيل في الوجود ” عنصرين أساسيين يستحقان حماية خاصة”.
أثار موقف هابرماس هذا ضجة في أوساطنا الفكرية والثقافية، خاصة تلك التي كانت تنتظر الفرصة الذهبية، لتصفية حسابهم القديم مع الفكر الغربي بشكل عام، والفكر الفلسفي بشكل خاص، وربطه بالديانة اليهودية، وتأكيد أطروحتهم التي ما فتئت تؤكد أن الفكر الفلسفي الغربي تحركه دائما ما يعتبرونه ب”الأجندة اليهودية”، التي لا تردد في الدفاع عن الصهيونية وعن حق الكيان الإسرائيلي في الوجود.
لقد جرت العادة أن نجد هذا الموقف عند عدد من المفكرين المحسوبين على الصف “الإسلامي المحافظ”، والقائلين بال”الحق العربي في الاختلاف الفلسفي” و”الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري”، لكن الجديد هو أن عددا من المفكرين المحسوبين على المعسكر المقول عنه “حداثيا” أصبحوا لا يترددون في إعلان هكذا مواقف، سواء خلال مناسبات علمية، أو من خلال تفاعلاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعية المختلفة.
ليس من الوارد الدخول في جدل قد لا يكون مفيدا، خاصة مع المشاهد الدرامية التي تنقلها وسائل الإعلام المختلفة في غزة، والتي تجعل من الصعب إجراء حوار عقلاني وهادئ مع أهل مواقف تم نسجها تحت ضغط عواطف إنسانية مفعمة بالحزن والأسى على القتل الصهيوني الجماعي للإنسان الفلسطيني، بدعم رسمي غربي، وأيضا، بمباركة عدد من الرموز الفكرية، التي كان عدد من المثقفين والطلاب العرب يعتبرها أصنامه الفكرية، والتي اكتشف أخيرا زيف ادعاءاتها، فشرع في تحطيم صنميتها.
إن تحطيم الأصنام أمر إيجابي في كل الأحوال، شريطة ألا نستبدلها بأصنام أخرى، حتى ولو اعتقدنا أن الأصنام البديلة “أصيلة” وليست “دخيلة”، أو مخترقة من قبل ما يسميه البعض عندنا بالرواسب اليهودية-المسيحية في الفلسفة. فهذه الأخيرة تفكير إنساني في قضايا الوجود الإنساني، ولكل تفكير قيمته وحدوده، وعلينا أن نعطي لتلك القيمة قدرها الذي يليق بها، فلا نضخم منه أكثر من حجمه الحقيقي، وبالمقابل علينا ألا نسقط في ردة فعل عاطفية تبخس أي فكرة فلسفية، أو أي فيلسوف قيمته إلى حدود اعتبارها لا تمثل شيئا بعدما كانت تمثل بالنسبة للعديد من بني جلدتنا كل شيء.
ومن هذا المنطلق فإن المنجز المعرفي للفيلسوف الألماني المعاصر، يورغن هابرماس، يكتسي أهمية كبرى بالنسبة للفكر الفلسفي والاجتماعي المعاصر، وكثيرة هي المفاهيم التي عرف بها نسقه المعرفي ستبقى ذات جاذبية في أوساطنا الفكرية والثقافية، مثل مفهوم المجال العمومي، والعقل التواصلي، والديمقراطية التداولية وغيرها، ولن يحول ضياع موقفه الأخلاقي والسياسي الأخير، بخصوص الجريمة البشعة التي يرتكبها الصهاينة في غزة، دون الاستمرار في الاعتقاد بفائدتها المعرفية والمنهجية.
إن المشكلة المطروحة ليست بيننا وبين الموقف الذي علينا اتخاذه من فلسفة هابرماس، وغيره من الفلاسفة الغربيين الذين لا يخفون مساندتهم للصهيونية، وإنما المشكلة الحقيقية، هي مشكلة هؤلاء الفلاسفة مع أفكارهم ومثلهم وقيمهم التي بشروا بها، وما فتئوا يؤكدون عليها، فهم ينتصرون للإنسان بما هو إنسان، بصرف النظر عن جنسه أو لونه أو معتقده، ولكنهم، حينما يرفعون قبعاتهم الأيديولوجية، يحتقرون الإنسان غير الغربي، وغير اليهودي، ويعتبرونه دون الإنسان.
وقد أحسن فريق فلسفة القانون بجامعة الحسن الثاني بالمحمدية، حينما أصدر بمعية بعض الباحثين المهتمين بالفكر الألماني، بيانا يقف فيه عند مفارقة هابرماس، وينتقد هابرماس بهرماس، من خلال اقتباسه لنص من كتابه الأخير “تاريخ الفلسفة”، الذي يمثل خلاصة فلسفته. والهدف من البلاغ هو “”إبراز التناقض الحاصل بين مضامين فلسفته ومواقفه السياسية، وخاصة موقفه الأخير المنحاز لإسرائيل”[10].
لقد تمت الإشارة إلى ما خلفه موقف هابرماس الأخير من ردود فعل كثيرة، وكأنه الموقف الوحيد المعبر عنه من محرقة غزة، وقد رد عليه عدد من الكتاب وأساتذة الجامعات والمثقفون العرب، ولعل أبرزهم المفكر العربي عزمي بشارة في محاضرته بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بتاريخ 28 نونبر 2023، والذي عبر فيه عن كون بلاغ هابرماس لا يستحق أي مناقشة علمية حوارية، لأنه بلاغ سياسي يعبر عن تبرير لا أخلاقي للعدوان الصهيوني[11].
- تعقيب آصف بيات
وبما أن النص العربي للمحاضرة متوفر على الشبكة العنكبوتية صوتا وصورة، وورقة مكتوبة، وبإمكان القارئ العربي العودة إليها في أي وقت، نفضل عرض موقف نقدي آخر من هابرماس، قد لا يتاح لمعظم المتتبعين العرب الاطلاع عليه، وهو الذي عبر عنه المفكر آصف بيات، والذي نشره الموقع الإلكتروني ” NEW LINES MAGAZINE” تحت عنوان يلخص الموقف كله : ” Juergen Habermas Contradicts His Own Ideas When It Comes to Gaza”[12].
وبالفعل، وكما يوضح ذلك عنوان رسالة بيات لهابرماس، فإن الأخير فشل في تطبيق أفكاره حول المجال العام والحوار العقلاني والحياة الديمقراطية في حدث غزة، وسقط في المعركة الأخلاقية بسبب دعمه اللاعقلاني للكيان الصهيوني. ووأد، في نظر آصف بيات، كل إمكانية للنقاش الحر، وهو المنظر لأخلاقيات المناقشة المفتوحة، حينما خلط بين الانتقادات الموجهة إلى “تصرفات إسرائيل” و”ردود الفعل المعادية للسامية”.
يعبر بيات عن ذهوله بما يجري في الجامعات الألمانية، المفترض فيها أن تكون فضاء للنقاش الحر الذي لا تقيده قيود ولا تحده حدود حيث يظل “الجميع تقريبًا صامتين عندما يأتي موضوع فلسطين. وتكاد الصحف والإذاعة والتلفزيون تخلو تماما من أي نقاش مفتوح وهادف حول هذا الموضوع (…) وتم طرد العشرات من الأشخاص، بما في ذلك اليهود الذين دعوا إلى وقف إطلاق النار، من مناصبهم، واتهامهم بـ “معاداة السامية”. وهنا يتوجه بيات بالسؤال إلى هابرماس قائلا: “ماذا يحدث لفكرتك المشهورة عن “المجال العام” و”الحوار العقلاني” و”الديمقراطية التداولية”؟”[13].
هكذا يحسن بهذه المقالة بشأن الجدل الفلسفي الذي أثارته محرقة غزة أن تختم نفسها بالتعبير عن الخشية التي أبداها آصف بيات من أن تكون هذه البوصلة الأخلاقية الضائعة مرتبطة بمنطق الاستثناء الألماني الذي يقول به هابرماس في بلاغه؛ لأن التماهي مع هذا الاستثناء، لا يسمح بمعيار عالمي واحد، بل بمعايير تفاضلية. يصبح بعض الناس بشرًا أكثر استحقاقًا، والبعض الآخر أقل استحقاقًا، والبعض الآخر لا يستحق. هذا المنطق يغلق الحوار العقلاني ويضعف الوعي الأخلاقي. فهو يبني حاجزًا معرفيًا يمنعنا من رؤية معاناة الآخرين، مما يعيق كل إمكانية للتعاطف بين البشر.[14]
__________________________________________________________________________________________________________________________________
[1] – ابن رشد، أبو الوليد، فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال، سلسلة مؤلفات ابن رشد، المركز الثقافي العربي، بيروت 1998، ص65.
[2] – https://www.aljazeera.net/culture/2023/10/10.
[3] – https://www.lrb.co.uk/the-paper/v45/n20/judith-butler/the-compass-of-mourning?fbclid=IwAR13DDOgnSlnZ5MczH3E5TNrMTVWRFQNOn2aTP-ilIck2ndCmuc0SEIlf1s_aem_AeFqIcmz6Mxkh0Mjx3cxW24OmlDiF95GOMPZMJt7onWevyFJ98quI92WjKe-3yWNjH0
[4] – https://twailr.com/public-statement-scholars-warn-of-potential-genocide-in-gaza/
[5] – https://medium.com/amor-mundi/an-open-letter-to-my-friends-who-signed-philosophy-for-palestine-0440ebd665d8
[6] – المرجع نفسه.
[7] – يمكن العودة إلى الرابط التالي لقراءة نص رسالة إنشطاين وحنا أرندت وغيرهما:
https://www.marxists.org/reference/archive/einstein/1948/12/02.htm
[8] – عزمي بشارة، ” الحرب على غزة: السياسة والأخلاق والقانون الدولي”، محاضرة بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 28/11/2023.
[9] – https://www.normativeorders.net/2023/grundsatze-der-solidaritat/
[10] -https://secure.avaaz.org/community_petitions/ar/ywrgn_hbrms_jurgen_habermas_ltnbyh_l_hjm_lt_rd_lkbyr_byn_l_ql_lhbrmsy_wblgh_lnshz_mn_hd_brz_lqdy/
[11] – عزمي بشارة، مرجع سابق.
[12] – https://newlinesmag.com/argument/juergen-habermas-contradicts-his-own-ideas-when-it-comes-to-gaza/
[13] – المرجع السابق.
[14] – المرجع السابق.