مساهمة في النقاش العمومي حول التحولات العميقة التي تعرفها مؤسسة الأسرة، مما يقتضي مراجعة الترسانة القانونية المؤطّرة لها(مدونة الأسرة) بالتفكك و ربما الإندثار( العزوف عن الزواج – كثرة الطلاق)، وحيث لا يمكن فهم تلك التحولات واستيعاب ضرورة المراجعة للمدونة، والاقتناع بأهمية التغيير إلا بربط هذه القضايا بالتحولات الجذرية التي تعرفها المجتمعات البشرية عموما، و مجتمعات البلدان النامية(تجاوزا ومجازا) أوالمتخلفة(حقيقة) ومنها المجتمع المغربي، والتي كانت تهيمن فيها العلاقات الاجتماعية التقليدية التي تأسست على نمط إنتاج اقتصادي معاشي تقليدي.
فإذا كانت مؤسسة الأسرة في المجتمعات القديمة والوسيطية أوالتقليدية، التي كانت تسود فيها العلاقات الاجتماعية القائمة على اقتصاد فلاحي تقليدي معاشي، عبارة عن خلية اجتماعية واقتصادية تجمع بين الانتاج والاستهلاك والتربية وإعادة الانتاج، مكتفية بذاتها في إنتاج كل ما تستهلك من الموارد وتُعيد انتاج ما تحتاجه من تربية وتنشئة، وهو ما حَتّم عليها أن تكون اسرة ممتدة( بتعبير الانثروبولوجيين) أي عشيرة محور هيكلها الاجتماعي هو الجد، وأعمدة الانتاج فيها الأب والأعمام، وينخرط في الانتاج كلّ الأولاد والأحفاد،و منذ سن مبكرة( حتى الاطفال ينخرطون في الانتاج بالمساعدة في انجاز الكثير من المهام)، هذا النمط من الاسرة قد يكون في طريقه إلى التفكّك أو الانقراض حتى في العالم القروي حاليا، بسبب ظواهر التمدين وزحف التحديث، والانخراط في عوالم التصنيع وفي أسلاك التعليم مما أدى إلى تراجع الفلاحة المعاشية التقليدية، أمام هجرات البحث عن فرص الشغل (كيد عاملة مأجورة في المدن: عملية البرتلة)، وأمام توسّع التجارة والارتباط بالأسواق، وانتشار التعليم في العالم القروي، وكل ذلك جاء نتيجة زحف النمط الاقتصادي الرأسمالي الاستهلاكي في جوهره، المتعددة شعارته وعناوينه وآساليبه، والموحدّة أهدافه وغاياته.
هذه التحولات التي أفرزها التقدم والتطور التقني الكبير في وسائل الانتاج، جعل الأسرة الممتدة تتقلص إلى أسرة نووية( عمادها الاب والأم والاولاد)، حيث تخلّصت الأسرة الممتدة من وظيفة الإنتاج والتربية وأبقت على وظائف الاستهلاك والنسل والتنشئة فقط، مما جعلها في غير حاجة إلى اليد العاملة( الأفراد)، من حيث تم تفويث الإنتاج الاقتصادي إلى المقاولة والمؤسسة الانتاجية( ورشة حرفية – وظيفة عمومية – مهنة حرة بعيدا عن البيت والأسرة – محل تجارة – معمل – ورش بناء – شركة صناعية – ضيعة فلاحية ..)، وصار العمل الفردي في الوظيفة العمومية والمقاولات الخاصة مفتوحا أمام الجنسين، وأصبحت المرأة تعتمد على نفسها وعلى عملها، بعد ما تراجعت الانشطة الاقتصادية المرتبطة بالقوة العضلية بفضل التقدم التكنولوجي والعلمي، وصارت معظم الانشطة الانتاجية تعتمد القدرات الذهنية والمهارات التقنية، وهو ما فسح المجال أمام الجنسين للاحتكاك المستمر في آماكن العمل(الادارات والمؤسسات العمومية – فضاءات الانتاج والتوزيع..) ، على عكس المراحل السابقة، التي ظلت فرص الاحتكاك بين الجنسين فيها محدودة وقليلة، بحكم الانغلاف الذي كان سائدا في العلاقات الاجتماعية، وبهكذا تحوّل صارت الأسرة النووية إطارا للاستهلاك فقط إلى جانب الإنتاج البيولوجي( للحفاظ على النسل) وللتنشة في مستواها الأدنى.
وبعدما دفعت هذه التحولات الأسرة الممتدة إلى التخلص من الإنتاج لصالح المقاولة، مكتفية بالاستهلاك والنسل (إعادة الانتاج البيولوجي) وتخلّصت من التربية وأبقت على التنشئة في حدودها الدنيا وصارت أسرة نووية، شرعت حاليا هذه الأسرة النّووية نفسها في التفويت التدريجي لوظائفها المرتبطة بالتربية والتنشئة والاستهلاك كذلك، ومن هذه الوظائف التي فوتتها الأسرة النووية إلى المقاولة :
-وظيفة التربية للمدرسة، حيث بدأ التفويت بتربية الأبناء الذين يتجاوز عمرهم 7 سنوات للمدرسة الابتدائية ثم الثانوية، ثم انتقل التفويت إلى تربية الابناء ما بين 4 و 6 سنوات، لصالح التعليم الأولي، و أخير تم تفويت تربية الرضع إلى سن 4 سنوات لدور الحضانة.
– تفويت جزء كبير من التنشئة لصالح الاعلام ( التلفزة – الانترنيت..) و لصالح المجتمع المظني ودور الشباب و الثقافة و الرياضة.
– تفويت وظيفة طهي وإعداد الطعام لصالح المخابز والمحلبات والمجبنات والمطاعم والمقاهي التجارية، بعدما بدأ ذلك بالاستعانة بالخادمات في البيوت كمرحلة انتقالية،
– تفويت وظيفة تنظيف الأثاث والملابس والأحدية لصالح المصبنات ومحلات التنظيف،
– تفويت وظيفة القيام بإصلاح الأعطاب التقنية في البيت لصالح الحرفيين المختصين من كهربائيين ورصاصين ونجارين.
وبعدما تم انتهت الاسرة من التخلص من كثير من وظائفها المرتبطة بالاستهلاك والتربية، بعد أن سبق لها التخلص من وظيفة الانتاج، بقيت خلية تقتصر وظيفتها على الجنس و النسل .
وبحكم هذه التحولات العميقة التي تعرفها مجتمعات بداية الألفية الثالثة، بفعل التطور التكنولوجي الهائل في وسائل التواصل الحديثة في الطب والتوليد وعلم الوراثة، لم تعد الاسرة النووية قادرة على البقاء كإطار وحيد للنسل والاشباع الجنسي وإعادة انتاج النسل، مما دفع الشباب البالغ غير المُستعد وغير القادر على الزواج، إلى البحث على بدائل للإشباع الجنسي، كما فُتِحَت أمامه فرص لضمان استمرار نسله خارج الزواج بحلول التبني و كراء الارحام وعن طريق تجارة الحيونات المنوية والبويضات. ثم إن الكثير من الحاجيات ذات التكاليف البسيطة، التي كان من الصعب أو المستحيل أن يلبّيها الانسان سابقا إلا في إطار الاسرة، صارت تكاليفها اليوم داخل الأسرة باهضة الثمن، ومن السهل أن يلبّيها خارج إطار الاسرة بتكلفة ومجهود أقل.
ولم يبق سوى تغيير التأطير القانوني لهذه الوضعية الجديدة التي أضحت عليها مؤسسة الأسرة بعد هذه التحولات العميقة في وظائفها، وذلك بشرعنتها وتأطيرها بقواعد قانونية جديدة، عن طريق إصدار التشريعات و القوانين التي تشرعن هذه البدائل الجديدة و تُرخّص لممارسة الجنس خارج مؤسسة الاسرة(العلاقات الرضائية)، وتسمح بتبني الأبناء وكراء الارحام. في هذا السياق سَتُرفع الكثير من الشعارات والمطالب النسوية والحقوقية التي تركّز على الحريات الفردية، وبالمطالبة بتغييرات جذرية في مدونة الأسرة.