حوار مع: أ.د. وصفي عاشور أبو زيد1
بين يدي الحوار:
إذا صح أن نصف الصحوة المعرفية في العلوم الشرعية، فيمكن تلخيصها في كونها صحوة مقاصدية بامتياز، وذلك من زاويتين؛ الأولى: اهتمام الفقهاء والأصوليين في القرن العشرين وبعده بعلم مقاصد الشريعة بعثا وتأصيلا وتنظيرا وتنزيلا، والثانية: عودة سؤال تقصيد العلوم بمختلف تخصصاتها ووظائفها، والجامع بين المشروعين هو سؤال المقاصد بمختلف تجلياتها.
وقد عرف الدرس المقاصدي اهتماما حسنا من مختلف العلماء والمتدخلين، بدءا بتخصيص كراسي الجامعات لتدريسه مرورا بتأسيس مشاريع علمية في مراكز بحثية رسيمية وشعبية، وانتهاء بإشاعة النفس المقاصدي في كثير من الدرسات العلمية الفردية والجماعية.
ولتركيز الحديث في قضايا الفكر المقاصدي يستضيف مركز معارف الأستاذ الدكتور وصفي عاشور أبو زيد.
- أستاذنا الفاضل: هل لكم أن تقدموا للباحثين تعريفا مختارا عندكم لمقاصد الشريعة؟
مقاصد الشريعة عرفها كثير من العلماء قديما وحديثا بتعريفات متنوعة، والتعريف المختار المختصر والمعبر عنها هو أنها: “الغايات التي نزلت الشريعة الإسلامية لتحقيقها من أجل مصلحة العباد في الدنيا والآخرة”. فالمقاصد هي ما يرمي الشارع إلى تحقيقه من وضع الشريعة، والغاية من تشريع كل حكم من أحكامها.
- شاعت في كثير من البحوث الأكاديمية وغيرها مقولة تقضي باستقلال علم مقاصد الشريعة عن علم أصول الفقه؛ ما موقفكم من هذه الدعوة؟
من سنة العلوم التطور، والتفرع، والتوالد، والتوليد، وقد أصبحت المقاصد علمًا مستقلا له نشأته وتاريخه ومناهجه ومدارسه وقواعده وضوابطه وقضاياه وأفكاره وخصائصه وفوائده وآثاره ومراجعه ومصادره وأعلامه، وفي كل هذا كتبت كتب وألف مؤلفات وأقيمت ندوات ومؤتمرات، وحين يتوفر ذلك لفكرة من الأفكار فلا شك أنها تصبح علما مستقلا.
وليس معنى استقلال العلم انفصاله عن غيره، فلا غنى لعلم عن آخر؛ وبخاصة إذا كانت هذه العلوم تنتمي لدائرة كبرى مثل الدائرة الشرعية أو الدائرة الإنسانية أو الدائرة التجريبية ونحو ذلك، فالعلوم يُولَدُ بعضُها من بعض، ويوَلِّدُ بعضُها بعضًا، ويُفيد بعضُها من بعض، ويُضيف كلُّ علم لمباحثه من العلوم الأخرى بالقدر المطلوب وبما يحقق الغرض ويفي بالمقصد، ويقع الخلل والذبول إذا انفصل العلم تماما عن غيره، كما يقع التطور والتجديد بقدر تفاعل العلم مع العلوم الأخرى في الدائرة الواحدة وأحيانا في دوائر أخرى.
ولعل الذين يرفضون الاستقلال يتصورون أن معناه “الانفصال”، ويخشون إذا وقع الانفصال أن يؤثر ذلك على الأصول والمقاصد معا، وهذا التصور غير حاصل ولا واقعي، وترفضه طبيعة العلوم بشكل عام، والعلوم الشرعية بوجه خاص، فلا غنى للفقه عن الأصول، ولا للتفسير عنهما، ولا للحديث عن الفقه، ولا للأصول عن الفقه أو اللغة، ولا للمقاصد عن الأصول والفقه واللغة جميعا.
- هل لكم دكتورنا الفاضل أن تبرزوا للباحثين والقراء عموما صور اعتناء الأمة بعلم مقاصد الشريعة فضلا عن جهود السابقين في ذلك؟
لا يتوقف نمو علم من العلوم أو تطويره وتجديده على إمام من الأئمة مهما علا كعبُه فيه، قد يكون هو قمة الإبداع فيه، أو له دور بارز في تأصيله وترسيخه وتقعيده، لكن حركة العلوم الحية لا تتوقف، بل تنمو دائما بفعل علمائها وإضافاتهم وكسبهم، وقد أضاف العلامة ابن عاشور إضافات مقدرة لهذا العلم إلى ما بناه الإمام الشاطبي منه، وكذلك المفكر المجاهد علال الفاسي.. ومن الإنصاف لمن بعدهم أن نقرر عدم توقف حركة العلم عند هؤلاء، بل تطور بعدهم، وخطا خطوات واسعة من حيث التأصيل والرصد والحصد والتفعيل والتنزيل والتجديد والتطوير بما هو فكرة حاكمة وضابطة ومعيارية.
فمساحات تفعيل المقاصد في الواقع المعاصر هي تقسيم الجهود المبذولة في التأصيل والتقعيد.. عندنا مؤتمرات وندوات وأعمال ورسائل وجهود حاولت محاولات جادة تفعيل المقاصد في علوم ومجالات شتى؛ تفعيل المقاصد في مجال الدراسات القرآنية، وفي مجال دراسات السنة، وفي مجال البحث في العبادات، وفي العقوبات، وفي مجال السياسة الشرعية، وفي مجال الأسرة، وفي مجال القانون، وفي مجال الاجتماع، وفي مجال السياسة، وفي مجال الدعوة.. كل هذه المجالات عقدت لها ندوات ونشرت لها أعمال تبين منهجية تفعيل المقاصد فيها وفوائد هذا التفعيل، ولا زلنا بحاجة إلى مزيد من هذا التفعيل، كما أننا بحاجة إلى جعل الفكر المقاصدي ثقافة شعبية عامة تحكم حياة الناس وتُرَشِّدُها وتضبط حركتها.
- لا شك أن عبارة مقاصد الشريعة فيها نسبة للتقصيد غلى الشريعة وبالأصالة إلى المشرع الذي هو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ هل هذا يعني أنها أمر توقيفي لا مدخل لآلة الاجتهاد فيها؟
تعيين مقاصد الشريعة منه ما هو توقيفي وهو المقصد المنصوص، مثل قوله تعالى: (مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 7]، ومنه ما هو اجتهادي استنباطي من خلال المسالك المذكورة أعلاه، ومن ذلك المحرم للمرأة في السفر، ففي “صحيح مسلم” عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها، أو ابنها، أو زوجها، أو أخوها، أو ذو محرم منها). فما هو المقصود من المحرم، هل هو مقصود لذاته أم لمعنى استنبط من النصوص ونظر الفقهاء؟ يرى الشافعية مثلا أنه يجوز للمرأة أن تسافر دون محرم ولكن في رفقة مأمونة! فهي بمثابة المحرم للمرأة، وحديث الظعينة معروف في ذلك، فقد رواه البخاري عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (فإن طالت بك حياة، لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدا إلا الله).
ولنا أن نعرض صورة أخرى لهذا الحكم: هل لو خرج مع المرأة محرم كسيح أعمى أصم أبكم يتحقق به الحكم الشرعي؟!
لا شك أن التأمل في هذه النصوص وخلاف الفقهاء والتدقيق في صور الحكم يفضي بنا إلى القول بأن المقصود من المحرم هو توفير الأمن والحماية للمرأة، وهذا أمر يجتمع فيه الرجال والنساء لكن النساء يحتجنه أكثر لضعف بنيتهن وعدم امتلاكهن قدرة المواجهة للأخطار كما هو الأمر مع الرجال، ومع هذا كره الشرع الشريف أن يسافر الرجل وحده، فروى أبو داود والترمذي والنسائي بسندهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب).
- إذا كانت جوانب كثيرة من مقاصد الشريعة اجتهادية، هل هذا يعني خضوعها للتحولات الاجتماعية والسياسية وغيرها؟
لمقاصد الشريعة الإسلامية خصائص، أهمها على الإطلاق الربانية، وهي الخصيصة التي تتفرع عليها وتنبثق منها كل الخصائص الأخرى،
ومن أهم هذه الخصائص: “الثبات”، فمن خصائص المقاصد أنها ثابتة، فلا تتغير بتغير الزمان ولا المكان ولا الحال ولا الإنسان، لكن الوسائل والآليات والإجراءات هي التي تتغير حسب الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بما يحقق المقاصد.
ففي مجال الاجتماع يحرص الإسلام على أن يكون المجتمع قوي البنيان متماسك النسيج محكم المكونات، فكل ما يحقق هذه المقاصد مشروع بل واجب، وتختلف الإجراءات والوسائل والآليات التي تحقق هذه المقاصد من مكان لمكان، ومن زمان لزمان، ومن حال لحال، فمن شأن المقاصد أن تكون ثابتة، أما الوسائل فمن خصائصها التغير والتعديل والتطوير، ومعيار ذلك هو تحقيق المقاصد.
- ما هي في نظركم دكتورنا الكريم مسوغات الاهتمام بالفكر المقاصدي ضمن منظومة العلوم الشرعية؟
نظرية المقاصد ليست أمرا محدثا أو جديدا، وإنما هي فكرة مصاحبة للوحي، ومن ثم فإن الحديث عن طرحها وتصور أنها أمر حادث ظهر مؤخرا، هذا تصور خاطئ عن المقاصد وعن الشريعة معا، قد يكون من المعقول أن نتساءل: لماذا توسع الحديث عن المقاصد في عصرنا، ولماذا أصبحت له مؤتمرات وندوات ومقررات ومؤلفات ومصطلحات ورسائل وكتب وبحوث وبرامج ومراكز وغير ذلك؟
والحق أن الاهتمام بالمقاصد يُستدعى ويتنامى في عصور تشبه عصرنا، تلك العصور التي تشهد تحولات كبيرة وظواهر ضخمة لا يسعف الفقيهَ فيها النصُّ الجزئي وحده، وإنما لابد معه من الاستنجاد فالفقه الحضاري الذي هو فقه السنن وفقه الواقع وفقه الموازنات وفقه الأولويات، وفقه المآلات، ومن هذه المنظومة وعلى رأسها فقه المقاصد الذي أعتبره أبًا لكل هذه الألوان من الفقه.
فطرح نظرية المقاصد ليس جديدا لكن قد يزداد الاهتمام به في مثل عصرنا، فضلا عن الفوائد التي تحققها المقاصد ونظريتها وقد أشرنا لبعضها قبل قليل.
- هل يمكن توسيع نطاق نظرية المقاصد لتشمل سائر نواحي الحياة؟
بالطبع يمكن توسيع نظرية المقاصد لتشمل سائر نواحي الحياة، فبعد أن بُذلت جهود ودراسات في تأصيل العلم وإنضاجه بمسالكه وضوابطه وقواعده ومصطلحاته، بذلت جهود كذلك في تفعيل المقاصد في العلوم، طلبا لضبط العلوم بمقاصدها، ولكنها تحتاج مزيدا من الجهد وتغطية بعض الفراغات الموجودة، والندوات المتخصصة التي تقام في عصرنا حول المقاصد تهتم بهذا الجانب كثيرا.
ونريد في الفترة الحالية والقادمة من الزمان، بعد أن قامت الصحوة المقاصدية المعاصرة بجهد كبير في التأصيل، وجهد يحتاج للمزيد من التفعيل في العلوم، نريد أن نجعل الفكر المقاصدي ثقافة عامة عند أمتنا ولدى العالم كله ..
يقومون بتفعيله على مستواهم الفردي، ومستواهم الأسري، وفي مؤسساتهم ومدارسهم وجمعياتهم وجماعاتهم، بل في الوزارات والحكومات والدول، والهيئات المحلية والإقليمية والدولية؛ بحيث تنضبط كل هيئة أو مؤسسة بمقاصدها، وتحاكم إليها، وتُقوَّم وتُقيَّم على أساسها، وتحدد من الوسائل ما يحقق المقاصد، وتجدد وتطور في هذه الوسائل، وتغير منها إن لزم الأمر.
وبهذا يقوم العلم – علم المقاصد – بوظيفته على أكمل وجه: تأصيلا، وتفعيلا، وتشغيلا .. ونريد أن تكون علومنا كلها على هذا النحو؛ لها أثرها في فكرنا، وفي واقعنا، وحياتنا؛ ترشيدا وضبطا، وتصحيحا وتقويما، فالعلم الذي لا أثر له في الحياة هو والعدم سواء.
- أستاذنا الكريم: ما هو تقييمكم المجمل لتطور الدرس المقاصدي تاريخا وحاضرا؟
لا شك أن العلوم كالكائنات الحية تولد وتتطور وتتجدد، ويُولَد بعضُها من بعض، ويُولّد بعضُها بعضًا، وعلم المقاصد كبقية العلوم نشأ وتطور وتجدد، وبدأت امتداداته من نصوص القرآن والسنة، ثم طبقها الصحابة والتابعون، الذين كانوا أعرف الأمة بالمقاصد؛ حيث قال ابن القيم: “وقد كانت الصحابة أفهمَ الأمة لمراد نبيها وأتبعَ له، وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده”. ووصف شيخ المقاصد أبو إسحاق الشاطبي الصحابةَ بأنهم “عرفوا مقاصد الشريعة فحصّلوها، وأسسوا قواعدها وأصلوها، وجالت أفكارهم في آياتها، وأعملوا الجد في تحقيق مبادئها وغاياتها”.
وكتب أئمة من أئمة الإسلام عن المقاصد منهم: الترمذي الحكيم والجويني والغزالي والعز بن عبد السلام والقرافي وابن تيمية وابن القيم وابن عاشور وعلال الفاسي، ثم ظهرت الصحوة المقاصدية قبل أربعة عقود من الزمان، وانتشر الاهتمام بها انتشارا واسعا.
ومن علامات تطوير علم المقاصد وضْع قواعد له، وفيها رسائل ماجستير ودكتوراه، حتى كان أكبر عمل جامع لها وهو ضمن معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية التي خصصْت قسما منها للقواعد المقاصدية وأحصت أكثر من مائة وثلاين قاعدة، كذلك وضع كتاب: (معجم المصطلحات المقاصدية) لمجموعة من الباحثين بإشراف أستاذنا العلامة أحمد الريسوني، وهو نفسه أصدر كتابا هو الأهم من بين كتبه مؤخرا حول: “قواعد المقاصد”، كل هذه أمور لها دلالتها على نضج العلم واستقلاله، وها هي الندوات والمؤتمرات تعقد للمقاصد تأصيلا وتطبيقا وتفعيلا.
- ثم ما هو تقييمكم لمسارات الدرس المقاصدي في الواقع تفعيلا وتنزيلا؟
يجب أن نعلم أن نظرية المقاصد لم تستخرج لتكون في متناول العوام؛ ذلك أنها علم دقيق، وهو علمُ خاصةِ الخاصة الذين حازوا علوم العربية، وتضلعوا من نصوص القرآن والسنة، وأحاطوا علما بفروع الفقه الإسلامي، وغير ذلك من علوم؛ فهي ليست علمَ عامة ولا خاصة، وإنما هي علم خاصة الخاصة، وحسبنا أن نقرأ قول الإمام الشاطبي عن كتابه الموافقات: (لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد، حتى يكون ريان من علم الشريعة أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مُخْلِدٍ إلى التقليد والتعصب للمذهب).
ورغم ذلك نقول: إن نظرية المقاصد لا ينبغي أن تظل حبيسة الأدراج، ولا أن تكون حكرا على المختصين، أعني نتائجها وثمراتها وفوائدها، أما العلم بها والتخصص فيها فلأهله ورجاله، ولكل علم رجاله، ولكن ينبغي أن تتعدى ثمرات المقاصد وآثارها وفوائد إعمالها إلى المجتمع، وأن يكون لها دورها الفاعل في حياة الناس، وهذا الأمر – كما أشرت سلفا – يحتاج لجهد كبير، ومجموعات عمل نشطة وكثيرة تنقل المقاصد من مجال التنظير والتأصيل إلى ساحات التفعيل وميادين التشغيل وتديّن الأفراد وحياة المجتمع؛ فإن للمقاصد – إذا تعزز وجودُها في حياة الناس والمجال المجتمعي – آثارا عظيمة وفوائد كبيرة في ضبط حركة الحياة وتحقيق مصالح الناس في مناحي الحياة جميعا.
ولقد بدأت ساحات المقاصد والفكر المقاصدي تخطو خطواتها المباركة في هذه السبيل، ولكنه يحتاج لمزيد من الجهود، والعمل بنشاط وهمة واستمرار؛ حتى يؤتي أكله كل حين بإذن ربه.
- يرى بعض الدارسين أن المقاصد اصطبغت بالبعد المذهبي من حيث كثرة الاهتمام ويرون أن نظرية المقاصد عند المالكية مهتم بها أكثر من غيرهم من أتباع المذاهب الإسلامية؟
يعتبر الإمام مالك من أهم الوارثين الشرعيين لهذا الفكر، حتى ادعى أبو بكر ابن العربي في (القبس شرح موطأ مالك بن أنس) أنه انفرد به، فقال: “وأما المقاصد والمصالح فهي أيضًا مما انفرد بها مالك دون سائر العلماء”، وقال أيضًا: “ما كان أغوصه على المقاصد، وما كان أعرَفَه بالمصالح!”.
ومعروف عن المذهب المالكي أنه يتوسع – توسعًا منضبطًا – في الأخذ بالمصالح المرسلة وسد الذرائع، وهما أصلان لهما صلة قوية بمقاصد الشارع ومقاصد المكلف، بالإضافة إلى الاستحسان والعُرف واعتبار مقاصد المكلَّفين، ولا يخفى ما لذلك من صلة بمقاصد الشريعة، ولعل أبواب العقوبات والبيوع والأحوال الشخصية تُعَد من أكثر الأبواب التي يتجلى فيها هذا المسلك، ولا شك أن المصالح المرسلة ومراعاتها، وسد الذرائع وضبطها يعدان منطلقًا للتفكير المقاصدي، ولعل المذهب المالكي هو صاحب اليد الطولى بأعلامه ومؤلفاته في هذا الميدان.
على أن ادعاء أن المقاصد راجت عند المالكية دون غيرهم ادعاء غير صحيح، فللشافعية جهد ملحوظ وريادة بارزة في ذلك، وحسبنا أن نقرأ ما كتبه الجويني والغزالي وابن عبد السلام وغيرهم.
- البعض يتهم نظرية المقاصد بأنها بوابة للعلمانية والتحلل من النصوص، كيف ترون هذا الاتهام؟
هذا الاتهام نابع من عدم فهم المقاصد وعدم فهم الشريعة معا، فتركيب (مقاصد الشريعة) كفيل وحده بدفع هذا الاتهام، ومعناه: أن المقاصد بنت الشريعة ومضافة إليها، وأن الشريعة لا تفهم إلا في ضوء المقاصد، فلا يمكن للمقصد أن يعطل النص، ولا أن يتعارض معه؛ لأن المقاصد مستثمرة من الشريعة، ولا يمكن للمستثمَر أن يتعارض مع المستثمَر منه.
فضلا عما للمقاصد من مسالك يكشف عنها من خلالها، فلا تؤخذ المقاصد إلا عن مسالكها، وما أصبح للمقاصد من قواعد وضوابط اعتبار ومصطلحات، كل هذا يحول دون الإفراط أو التفريط، ودون التهيب أو التسيب في العمل بالمقاصد، والحق أن الذين يستخدمون المقاصد استخداما ملتويًا لا يفقهون الشريعة ولا المقاصد.
وهناك تخوف كبير لدى قطاع عريض من المثقفين وطلبة العلم من استخدام المقاصد وإعمالها في فهم النصوص وتطبيقها وتنزيلها، وهو تخوف نابع من استخدام البعض للمقاصد استخداما خاطئا، سواء أكان هذا الخطأ عن جهل أم عن عمد.
وهذا الاستخدام الخاطئ هو عمل اتجاه في الساحة المعاصرة أطلق عليهم شيخنا الإمام يوسف القرضاوي (المعطلة الجدد) وهي مدرسة تزعم أنها تُعنى بالمقاصد وروح الدين مدعية أن الدين جوهر لا شكل، وحقيقة لا صورة، ترد صحيح الحديث؛ لأنهم في الحقيقة لا يعرفون صحيحه من ضعيفه، يتأولون القرآن تأويلات فاسدة، ويتمسكون بالشبهات، وقد سمّاها الشيخ مدرسة المعطلة الجدد ورمز لها بـ”تعطيل النصوص باسم المصالح والمقاصد”، وقد ذكر من سماتها وخصائصها ثلاثة أمور، هي: الجهل بالشريعة، والجرأة على القول بغير علم، والتبعية للغرب.
أما عن مرتكزات هذه المدرسة فيؤكد الشيخ أنها تعلي منطق العقل على منطق الوحي، وتدعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عطَّل النصوص باسم المصالح ورعاية المقاصد مثلما فهموا من إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم، أو رفعه لحد السرقة عام الرمادة، وناقش الشيخ الشبهتين نقاشًا علميًّا هادئًا.
وأما النتائج والمواقف التي أسفرت عنها هذه المدرسة – بحسب ما أورد شيخنا الإمام في كتابه: دراسة في فقه مقاصد الشريعة – فهي الهروب من النصوص القطعية، والتشبث بالمتشابهات، ومعارضة أركان الإسلام وثوابته باسم المصالح.
وللتخلص من هذا التخوف النابع من تطرف المعطلة الجدد لابد من انتهاج الوسط في التعامل مع المقاصد من خلال البحث عن المقصد بطرقه المعروفة قبل إصدار الحكم، وفهم النص في ضوء أسبابه وملابساته، والتمييز بين المقاصد الثابتة والوسائل المتغيرة، والملاءمة بين الثوابت والمتغيرات، والتمييز في الالتفات إلى المعاني بين العبادات والمعاملات.
1أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية ورئيس مركز الشهود الحضاري للدراسات الشرعية والمستقبلية