يعد المشروع الفكري للمفكر الألمعي الكبير مالك بن نبي من المشاريع الرائدة التي اتسمت بالعمق في الطرح والجدة في التأصيل والانسجام في البناء النسقي للأسس والمنطلقات؛ مشروع يعكس تجربة مفكر عضوي انخرط بشكل علمي في هموم أمته، فحاول الاشتباك مع القضايا والإشكالات الحارقة، وملكت عليه وجدانه وكيانه قضايا عديدة من قبيل: فلسفة الدين والقيم والحضارة والثقافة وشروط النهضة ومقومات الإقلاع الحضاري…
وعالج هذه الحقول المعرفية بأفق استشرافي واعد ونفس استشكالي عميق، وبلور حولها رؤى متماسكة وتصورات رصينة ومحكمة.
ولقد أثبتت التجارب والممارسات الفكرية المسؤولة الحاجة الماسة إلى مشروعه؛ لكن ما يؤسَف له أن هذا المنجز ظل حبيس الكتب ورفوف المكتبات وبعض الصالونات الفكرية والأطروحات الجامعية.
ولِبَثِّ نفس جديد حول إنتاج هذا الرجل الفذ وتسليط الضوء على أهم تمفصلاته وزواياه المشرقة، يستضيف مركز معارف أحد الأعلام المختصين في مشروعه دراسة وتدريسا، ومعرفة وتعريفا، وهو الأستاذ إبراهيم رضا، أستاذ التعليم العالي مادة الفكر الإسلامي ومناهج البحث بجامعة القاضي عياض مراكش.
وتكمن أهمية الحوار مع الأستاذ إبراهيم رضا، بالإضافة إلى تخصصه في مشروع مالك بن نبي، خبرته الواسعة بالمدارس الفكرية واحتكاكه برواد الفكر المعاصرين، ونشاطه الطويل في التدريس والإشراف والمناقشة للأطروحات العلمية ذات الطابع الفكري والمنهجي، والمشاركة الكثيفة في العديد من الندوات والمؤتمرات الوطنية والدولية.
بداية نشكركم فضيلة الأستاذ إبراهيم رضا على تلبية الدعوة من أجل التفاعل مع القراء حول موضوع هذا الحوار.
س 1: من الأمور التي تفيد الباحثين وقوفهم على تجارب الأساتذة المؤطرين، فذلك من شأنه أن يطوي المسافات بين الأجيال، ويتيح لهم امتلاك أدوات البحث المفضية إلى الإنتاج الوازن والوقوف عند كيفية تَخلُّق الأفكار المبدعة وبناء الشخصية العلمية، لذا نود معرفة كيف ومتى بدأ اهتمامكم بمشروع مالك بن نبي؟
بداية لا بد أن أتوجه بدوري ومن خلالكم إلى كل القائمين على هذا المنبر العلمي “مركز معارف للدراسات والأبحاث” الذي تنتسبون إليه وتعملون معه، خاصة وأن رسالته كما يظهر ذلك من خلال اسمه وشعاره، ومن خلال ما نعرفه عن القائمين عليه، ويظهر من خلال ما تنشرونه، كل هذا يبين أنه منبر يحمل رسالة معرفية وحضارية قيمة تهدف إلى التعريف بأعلام ومفكرين وعلماء قدموا للبشرية كثير من عُصارة أفكارهم، وأسسوا مشاريع فكرية مهمة، ولم يكن غرضهم في ذلك غير خدمة مجتمعاتهم وإسعاد إنسانها، وتحقيق نهضتها، لهذا فالدور الذي يقوم به مركزكم هذا، في تقديري، دور مهم، خاصة في أيامنا هذه، حيث يفتقد كثير من الشباب البوصلة التي تقوده وتوضح له الطريق لتحليل أفكار ونظريات ومؤلفات، وتقديم النماذج الفكرية الوسطية التي تستحق أن تُقرأ وتُعرف من لدن شبابنا ومثقفينا، وما أحوجنا اليوم إلى تفعيل فعل القراءة البانية والمرشدة للعقول والمُوجهة نحو البناء والنهوض.
أما ما يتعلق بالسؤال فإن اهتمامي بفكر مالك بن نبي الذي عاش -رحمه الله- بين سنتي: (1905-و1973م) اهتمام يرجع إلى أيام الدراسة في الثمانين من القرن الماضي، حين كانت المؤسسات التعليمية والجامعية على الخصوص تَعُج بالأفكار والنظريات التي يعتنقها الطلبة وتحدد اتجاهاتهم، وكان الطلبة عموما في تلك الفترة وأمام تباين اتجاهاتهم واختلاف مشاربهم الفكرية في حاجة مستمرة إلى التزود والاستمداد من كبار المفكرين وأساطين المعرفة، وفلاسفة الفكر قصد فهم وتفسير بعض ما يصلهم من أخبار، أو قصد دحض فكرة، أو لأجل إجراء حوار مع طالب من تيارات مُخالفة، أو السعي إلى استقطاب أنصار جُدد للفكرة التي تؤمن بها، أو غير ذلك، وكُنت آنذاك مواظبا على قراءة كتابات مالك بن نبي، التي لم تكن مشهورة كما هي اليوم لدى كثير من القراء، حيث وجدتها توافق ميولي أكثر، كما وجدت فيها كثيرا من جوانب القوة المعرفية والمنهجية التي كُنت أفتقدها لدى الآخرين؛ لهذا اخترت أن يكون أول بحث لي لنيل شهادة الإجازة هو قراءة وتحليل لكتاب “الصراع الفكري للبلاد المُستعمرة” لابن نبي وكان ذلك سنة 1986/م. وبعده اخترت موضوع :”المنظومة الحضارية في فكر بن نبي” لرسالة دبلوم الدراسات العليا آنذاك، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أتتبع جل الكتابات والمؤتمرات التي تتناول قضايا الفكر الاسلامي والحضاري عموما سواء عند بن نبي أو غيره.
وترجع أهمية مشروع مالك بن نبي، في نظري، من كون هذا المفكر، كما يشهد بذلك كثير ممن درسوا جوانب من فكره، قد ارتقى بالفكر الاسلامي في العصر الحديث إلى مستوى من التناول المعرفي والمنهجي تجاوز به جُل خطابات الإصلاح والتجديد الفكرية السابقة أو المعاصرة له، حيث كانت تلك الخطابات تتسم على العموم بالتجزيئية والتلقينية والتهويل، وتكاد تحصر مشكلات المسلمين قي قضايا جزئية، ومعضلات فرعية: دينية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وغابت عنها تلك الرؤية الحضارية الكلية والشاملة التي نجدها واضحة عند بن نبي.
وقد استخلص مالك بن نبي رؤيته من قراءاته العديدة العميقة للتاريخ والحضارة، ومن تتبعه لما يحدث على الأرض في بلاده الجزائر أولا، ثم في سائر البلاد العربية الاسلامية بعد ذلك، أن مشكلات المسلمين لا يمكن حصرها في مشكلات جزئية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية كما كان يظن بعض السياسيين، أو حتى بعض المثقفين الذين يكتفون بالنظر إلى ظاهر الأمور وشكلها الخارجي فقط، بل هي في نظره “مشكلات حضارية” التي تمثل في نظره “الإشكال العام” الذي يجب صرف الجهد للبحث عن أجوبة دقيقة ومناسبة لكل تساؤلاته، ولهذا تجد أن كل كتاب من كتبه خصه لتناول جانب من جوانب هذا الإشكال العام ، غير أن كتابه “شروط النهضة” يعتبر -في نظري- جامعا لكثير مما تفرق في كتبه الأخرى، لهذا فإن هذا الكتاب -في نظري- يقدم صورة واضحة عن المشروع الفكري النهضوي لهذا المفكر الفذ.
وقد انتبه مالك بن نبي وهو يبحث قضايا التاريخ والحضارة في عدد من كتبه إلى مسألة مهمة حددت رؤيته للتاريخ والحضارة، وتتحدد هذه المسألة عنده فيما يمكن تسميته بخطورة ما تحمله بعض الدراسات في مجال الحضارة والثقافة من أحكام مُسبقة ومسلمات خاطئة يتمحور أغلبها حول الرؤية الأوربية للتاريخ والحضارات الانسانية، وتختزل تاريخ البشرية في جوانبها المُشرقة في المحور الذي يمتد من أثينا، مرورا بالرومان، ووصولا إلى العصر الأوربي الحديث، وكأنهم بهذا يجعلون هذا المحور هو مركز ومحور التاريخ البشري والحضاري الوحيد للبشرية المُبدعة، في حين يُقدم تاريخ بقية الشعوب والأمم عند بعضهم على أنه مجرد هوامش أو مرآة يُراد لها فقط أن تعكس اكتشافات وإبداعات وإنجازات المركز المتمثل في تراث الغرب. ولهذا جاءت كتابات بن نبي لدحض هذه الرؤية المتحيزة للمركزية الغربية وبيان أن البشرية جمعاء أسهمت في وضع لبنات هذه الحضارة وأن منتجاتها هي نتيجة جهود الانسانية المشتركة.
ويرى أن “التحدي الحضاري” الحقيقي الذي تواجهه المجتمعات العربية الإسلامية منذ مرحلة الاستعمار، تحد خطير يستهدف الكيان الحضاري لهذه المجتمعات برمته: عقيدته، وإنسانه، وتراثه، وثرواته، وبعبارة أوضح يستهدف حاضر الأمة ومستقبلها.
وحتى يكون الإنسان العربي المسلم في مستوى الاستجابة لهذا التحدي الحضاري الشامل، لابد له أن يرتقي بفكره إلى مستوى الفقه لحركة التاريخ والعلم بتقلبات الحضارات قصد امتلاك القدرة على تجاوز أعطاب هذا التحدي الخطير؛ ولهذا اعتبر مالك بن نبي أن من أولويات المسؤولية الملقاة على المثقف العربي الإسلامي حين ذاك مسؤولية بحث “مشكلات الحضارة” والبحث عن أفضل السبل لتحقيق النهوض.
س2: من خلال طول مصاحبتكم لهذا المشروع الرائد، ما هي أهم السمات التي تميزه بالمقارنة مع مشاريع أخرى؟.
من أهم السمات التي تُميز كتابات مالك بن نبي في نظري: عمق الأفكار التي يطرحها ودقة تحليلاته، بالإضافة إلى تماسك الطريقة المنهجية التي يُقدم من خلالها أفكاره تلك. فمالك بن نبي من المفكرين الذين يجعلون القارئ حتى لو نسي بعض التفاصيل التي يقرأها في كتاباتهم، لا ينسى القوالب المنهجية، والرؤية الكلية التي قُدمت من خلالها تلك التفاصيل، فهو من طينة أولئك المفكرين الذين لا يمكن للقارئ أن ينسى كثيرا من المصطلحات، والمفاهيم، والقوالب المنهجية التي قدم من خلالها رؤيته للتاريخ والحضارة، فإذا ذُكرت مثلا علاقة المُستعمر بالمستَعمر تبادر إلى ذهنك مباشرة مجتمع “القابلية للاستعمار” ومبدأ الفاعلية الاجتماعية، وهكذا بالنسبة لكل القوالب المنهجية التي تناول بها مشكلات النهوض الحضاري.
كما أن أهم ما يميز أفكار مالك بن نبي كذلك –في نظري– هو المنطلق الذي تتأسس عنده رؤيته لمشكلاتنا المُختلفة حيث لم يحصرها في مشكلات جزئية أو حزبية محدودة.
وينطلق بن نبي في رؤيته للمشكلات الحضارية التي تطرق إليها في كتاباته المختلفة، من منطلق نظري جامع -يُعتبر في نظري أساس مشروعه الفكري كله- سواء في مجال الحضارة أو النهضة أو في باقي المجالات التي اهتم بها وكتب حولها، هذا المنطلق طالما كرره بن نبي في عدد من كتبه وهو “أن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته مالم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها”[1]،ويعتبر القوانين والسنن التي تحكم التاريخ البشري سننا عامة لا ترتبط بجنس دون جنس آخر، لأنها عبارة عن عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر القرون إلى نهاية الزمن، فهي حلقات لسلسلة واحدة تؤلف الملحمة البشرية منذ أن هبط آدم على الأرض إلى آخر وريث له”[2].
ويؤمن أنه لا يمكن حل “مشكلات الحضارة” أو تحقيق شروط النهضة المنشودة، من دون تحقيق تلك الغلبة الحضارية التي تتأسس عنده على وعي عميق بسنن التاريخ، وقوانين الحضارة، وأنه إذا غاب هذا الوعي غاب الحضور وانعدم الإنجاز، لأن من عادة التاريخ كما يقول أنه “لا يلتفت للأمم التي تغط في نومها، وإنما يتركها لأحلامها التي تطربها حينا، وتزعجها حينا آخر، تطربها إذ ترى في نومها أبطالها الخالدين وقد أدوا رسالتهم، وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة جبار عنيد”[3].
ويرى أن من أهم السبل لتحقيق هذه الغلبة الحضارية الضرورية لبناء النهضة المنشودة هو امتلاك قدرة عميقة على فهم وتفسير حركة الإنسان فردا وجماعة في التاريخ، وفقه مسيرة الحضارات، وإدراك مختلف السنن والقوانين التي تحكمها سواء في تألقها ونهضتها أو في نكوصها واندحارها. ويرى ابن نبي ضرورة الاستقلال الفكري في دراسة مشكلاتنا الحضارية، فلأنه يعتقد كغيره من الدارسين للحضارات الإنسانية بأن هناك خصوصيات كثيرة تتميز بها كل حضارة عن غيرها. “وإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا، ولعل أعظم زيغنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا، ولعل أكبر أخطاء القادة أنهم يسقطون في حسابهم هذه الملاحظة الاجتماعية، ومن هنا تبدأ الكارثة ويخرج قطارنا عن طريقه حيث يسير خبط عشواء”[4].
ومن هذا المنطلق “فالحضارة” عند بن نبي، لا يمكن استيرادها من بلد إلى آخر رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها، لأن “الحضارة” إبداع وليست تقليدا أو استسلاما وتبعية كما يظن الذين يكتفون باستيراد الأشياء التي أنتجتها حضارات أخرى، “فبعض القيم لا تباع ولا تشترى، ولا تكون في حوزة من يتمتع بها كثمرة جهد متواصل أو هبة تهبها السماء، كما يهب الخلد للأرواح الطاهرة، ويضع الخير في قلوب الأبرار. فالحضارة من بين هذه القيم التي لا تباع ولا تشترى … ولا يمكن لأحد من باعة المخلفات أن يبيع لنا منها مثقالا واحدا، ولا يستطيع زائر يدق على بابنا أن يعطينا من حقيبته الدبلوماسية، ذرة واحدة منها”[5].
س3: ما هي في نظركم أهم الروافد التي شكلت وغذت مشروع مالك بن نبي الفكري ؟
ذكر مالك بن نبي في مذكراته “شاهد القرن”: “الطفل” و”الطالب” مصادر عديدة وكتبا كثيرة، اعتبرها محددة لتوجهه المبكر نحو بحث قضايا التاريخ والحضارة في أبعادها الانسانية المختلفة. ويمكن أن نحدد أهم تلك الروافد ترجع إلى ثلاث عوامل أساسية هي:
- العامل الأول: مرتبط بالقيم الأولى التي تلقاها في اسرته وبيته الأولى بالجزائر .
- العامل الثاني: مرتبط بانتقال مالك إلى المجتمع الفرنسي، وقراءاته العديدة لمؤلفات مستمدة من الحضارات الإنسانية وثقافاتها المختلفة.
- العامل الثالث: حيث احتك هناك مباشرة بسر قوة الحضارة الغربية، وأخطبوطها الذي يمدها بقوة.
وقد بدأت المعالم الأولى لهذه الرؤية في التشكل منذ التربية الأولى التي تلقاها في بيته، ثم تدرجت بعد ذلك بتدرجه في كل المستويات الدراسية التي مر بها، حيث نهل من الأسرة والكُتاب والمحيط الذي عاشه في بيئته بالجزائر كثيرا من القيم التي ستلازمه طيلة حياته. إلى أن انتقل بعد ذلك إلى فرنسا لاستكمال دراساته العليا هناك.
ويذكر عددا كبيرا من المؤلفات التي قرأها في تلك الفترة اعتبرها محددة لتوجهه المبكر نحو اعتماد الرؤية التاريخية والحضارية الكلية في أبعادها الانسانية، ومن تلك المؤلفات التي قرأها وتأثر بها: :كتاب الفشل الأخلاقي للسياسة الغربية في الشرق” لمؤلفه أحمد رضا؛ وكتاب “رسالة التوحيد” للشيخ محمد عبده؛ اللذان قال عنهما: “إخال أن ذينك الكتابين طبعا جيلي كله في المدرسة بطابعهما. وأنا مدين لهما بتحول فكري منذ تلك الفترة بأية حال “، كما يذكر لنا كتبا أخرى لا تقل أهمية في تأثيرها على نفسيته عن تأثير الكتابين السابقين منها كتاب: “في ظلال الإسلام الدافئة” لمؤلفته الفرنسية الكاتبة إيزابيل أبرهارت Esabelle Ebrnardt الذي قال عنه: “كان هذا الكتاب …. يكشف لي إسلاما شعريا ولكنه إسلام غير مبال أيضا، يبحث عن النسيان في المخدرات”.
وكتاب “أم القرى” للكواكبي: “الذي كشف له -كما قال- إسلاما كان ينتظم حقا للذود عن الحياض، ويسعى للنهضة، يعبر عن الوعي الذي كان يعتمل في العالم الإسلامي …. أما أنه لم يكن إلا كتابا وليد الخيال فما كنت أشك فيه، ومع ذلك لم يزدد أثره في شعوري إلا عمقا”. وكانت البيئة الجزائرية آنذاك كما سائر البلاد العربية المبتلية بالاستعمار تعج بأصوات المطالبين بالإنعتاق والتحرر من قيود المستعمر الغاشم، من أمثال الشيخ ابن باديس الذي كان ابن نبي يتبع أخباره كما يلتقي ببعض تلاميذه الذين يبثون روح الإصلاح أينما حلوا كما يقول.
ثانيا: الأصول المعرفية المنحدرة من العلوم التطبيقية والهندسية:
مثَل انتقال “بن نبي” سنة (1930) من بلده الجزائر البلد المسلم المحتل بلد “القابلية للاستعمار”، إلى فرنسا البلد المستعمر نقلة كبيرة في حياته، وصدمة فكرية دفعته لتقصي أسباب الظواهر الإنسانية المتباينة بين البلدين فأخذ يجري المقارنات ويتفحص الأسباب العميقة لهذا التباين الحضاري والثقافي، لكن ذلك لم يجعل أضواء بارز وأنوارها ولا كل إغراءاتها تحجب عنه تلك الرؤية الاستعلائية التي تصدر عن بعض المنتسبين لهذه الحضارة من المستشرقين وغيرهم.
وقد مثل دخوله لمعهد الهندسة الكهربائية نقلة نوعية في توجهه الفكري ورؤيته لقضايا الإنسان والمجتمع؛ وانتابه في هذه المرحلة شعور الوارد على دين جديد الذي يقوم بطقوسه في معبد الحضارة الآلية التقنية. فالانتساب لهذا المعهد تتطلب من الطالب أن يكون ملما بمجموعة من العلوم منها: الرياضيات والهندسة والفيزياء وغيرها، مما جعل ابن نبي، قبل دخوله للمعهد، ينكب على قراءة كثير من الكتب العلمية. ويصف تلك المرحة من دراسته فيقول: “وانطلقت… يحركني إيمان الوارد على دين جديد فكانت هذه الفترة الدراسية، بالنسبة لي…”مرحلة” غيرت جذريا اتجاهي الفكري، إذ إنها أسكنت في نفسي شيطان العلوم، …. فتح لي باب عالم جديد، يخضع فيه كل شيء إلى المقياس الدقيق للكم والكيف ويتسم فيه الفرد، أول ما يتسم، بميزات الضبط والملاحظة”[6].
كما أن زياراته المتكررة لبعض المتاحف الصناعية في فرنسا زادت من شعوره هذا، إذ لم يعد المتحف بالنسبة له مجرد مكان جمعت فيه غرائب وعجائب ما أنتجه الإنسان من فن وصناعة، ولكن أصبح المستودع المقدس الذي أودعت فيه هذه الحضارة أعلى ما أنتجته عبقريتها العلمية والتكنولوجية كشهادات أمام التاريخ على مراحلها المختلفة”[7].
وهذا الشعور سيتحول لدى ابن نبي فيما بعد إلى دعوة لضرورة الاستفادة من الجانب التقني الصناعي لتجديد البناء الحضاري للأمة الإسلامية. وبهذا أصبحت المعادلة عنده تكمن في البحث عن طريق بكر جديد للاستفادة من التقنية لتأكيد الذات وتحقيق تحررها من الاستعمار وقرينته الشمطاء “القابلية له”؛ وليس لخلق مزيد من التبعية والذوبان في الآخر.
وأسهمت قراءته لأعمال بعض المستشرقين أمثال لويس ماسنيون، والأب زويمر، و دوزي، وهاملتون جب، وغيرهم ممن خصص لأفكارهم كتابه: “إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي.
وكل هذه المشاهدات والتجارب التي عاشها في الوسط الفرنسي، بالإضافة إلى قراءاته العديدة لمؤلفات ذات مضامين تاريخية واجتماعية وحضارية. ويذكر في مذكراته أن من أهم تلك المؤلفات التي أغنت رؤيته وفلسفته “للتاريخ و الحضارة” على وجه الخصوص، الكتابات الحضارية لارلوند توينبي (J.A Toynbee)، حول تاريخ الحضارات الإنسانية وفلسفتها وكتاب “تدهور الغرب” لشبنجلر، وكتاب “تاريخ الإنسانية الاجتماعي” لكلور تلمون، وما كتبه “كوندياك، وغيرهم من المؤلفين، كجون ديوي، المفكر الأمريكي، وكسرلنج، وديكارت وكتاب “تاريخ الإنسانية الاجتماعي” لكلور تلمون، وما كتبه “كوندياك، وجون ديوي، وكسرلنج، وديكارت، وهيغل وماركس.. وغيرهم من المفكرين والفلاسفة الغربيين الذين يستحضر أراءاهم في كتاباته برؤية تحليلية نقدية فريدة، قلما نجدها في مؤلفات غيره من مفكري عصره.
كما أدى احتكاكه ببعض المستشرقين ونخبة فرنسا المُستعمرة إلى كشفه المُبكر للرؤية المتحيزة للإنسان الغربي لحضارته، ومن ثم الدعوة إلى التحرر من التحيز للمركزية الغربية في النظر إلى التاريخ والحضارة .وينطلق مالك بن نبي من حقيقة مفادها أن تاريخ الإنسانية الحضاري تاريخ واحد مشترك، وأن الإنسانية بأجناسها وأعراقها المختلفة المنتسبة كلها لأب واحد هبط على الأرض من عالم فوقي متجاوز، ويحمل لاشك في جوهره الإنساني بعض سمات ذلك العالم المتعالية والمفارقة للمادة.
س4: ما هي برأيكم أهم العوائق والتحديات التي حالت دون تفعيل مشروع مالك بن نبي؟
أرى أن أفكار “ابن نبي” ومدرسته الفكرية على العموم، لم تحظ بعدُ بالعناية اللازمة التي حظيت بها أفكار كثير ممن هم دونه اهتماما وتنظيرا وعُمقا. وهذا ما جعل جل من اطلع على فكره يفترض أن هناك حصارا مقصودا من داخل الثقافة العربية المعاصرة، ومن خارجها على أفكار هذا المفكر حتى لا تمارس تأثيرها المرتقب في إثراء واقع المسلمين الفكري والحضاري. وأن على المهتمين بالفكر الإسلامي المعاصر أن يفكوا هذا الحصار ويكشفوا القناع عن القيمة الحقيقية لأفكار هذا المفكر ومدرسته، قصد توجيهها لتحقيق التأثير المطلوب منها على الساحة الفكرية والاجتماعية والسياسية للمسلمين في عصرنا الحاضر.
ولا شك أن ما قدمه مالك بن نبي من تحليل لأساليب المُستعمر في فرض سيطرته وخلق النخبة التي تدين له بالولاء والتبعية، من داخل البلاد المُستعمرة جعل مشروعه الفكري يُحاصر بثلاث حواجز تتكامل مصالحها في وأد أفكار هذا المفكر وإجهاض مشروعه، وهذه الحواجز الثلاثة تتمثل:
- أولا: الاستعمار و”مراصده” السياسية والفكرية التي تعمل على إضعاف وتشتيت وتجهيل أبناء البلاد المُستعمرة حتى تحافظ على استعمارها وسلطتها داخل هذه البلاد، وقد خصص ابن نبي كتاب “مشكلة الثقافة” و”مشكلة الأفكار في البلاد الإسلامية” وكذلك كتابه القيم “الصراع الفكري في البلاد المُستعمرة” للكشف عن أهم أساليب المُستعمر في هذا المجال.
- ثانيا: الجهل وأمراض القابلية للاستعمار التي سماها بـ”قرينة الاستعمار الشمطاء” التي سادت المجتمعات العربية الإسلامية “بعد عصر الموحدين”، ومصطلح “القابلية للاستعمار” من المصطلحات التي ابتكرها ابن نبي لفهم ودراسة حالة البلاد العربية الاستعمارية الفكرية والسياسية والحضارية .
- ثالثا: بعض مُكونات النُّخبة المُتعالمة والسياسية المُتحزبة في أكثر البلاد العربية التي لم تكن أفكار مالك بن نبي تروق لها، نظرا لمخالفتها لها في المنطلقات والتوجهات، ونظرا لقلة وعيها بعمق وخطورة التحديات التي تُواجه الأمة.
وإذا كان عدم انتشار أفكار مالك بن نبي في ذلك الوقت يرجع -في جزء كبير منه- إلى هذه الدوائر الثلاثة وإلى أساليبها المُلتوية البارزة والخفية، فإن السبب اليوم -في نظري- يرجع كذلك إلى غلبة الأسلوب الحماسي، والتهييج السياسي، وسيطرة بعض الأطروحات المُتطرفة على بعض الفئات الشابة في البلاد الإسلامية، حيث صار السيف عند بعضهم أصدق أنباء من الكتب، ولم ينتبهوا إلى أن الرأي لازم قبل شجاعة الشجعان.
وفي غمار هذا الاعتقاد، وأمام هذا الانزلاق تُخنق الأفكار وتموت البرامج وتُعدم التخطيطات لتحيا “الشعارات الرنانة”، والأحكام الجاهزة المُتسرعة، ويسود “الهراء” و”الصياح”؛ وكل هذا لا يبني حضارة ولا يُقيم أُمة، ولا يُحقق نهضة، ولا يُسعد الإنسانية.
س5: من دواعي انحسار بعض المشاريع الفكرية، كونها مشاريع نخبوية من حيث نمط التفكير والعدة المفاهيمية المستعملة وآليات التحليل وأدوات الرصد والتشخيص، فهل مشروع مالك بن نبي من هذا القبيل؟
لا شك أن من أهم العوائق التي لم تعمل على تحقيق النهضة وتحقيق الإصلاح والتجديد في البيئة العربية، على الرغم من كثرة من دعا إلى هذا منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم، انشطار مكونات المجتمعات العربية إلى قسمين: قسم شكلته النُّخبة وهي أقلية من المفكرين والإصلاحيين وبعض الأعيان، في مقابل القسم الغالب الذي شكلته جل فئات المجتمع، فحدثت المُفارقة والفجوة بين اهتمامات النخبة وبين انشغالات بقية فئات المجتمع بمشكلاتها اليومية المعيشية التي لم تكن في مستوى تطلعات النخبة.
لذا لم تجد في كثير من تلك الأفكار والنظريات والمشاريع التي قدمتها النخبة سندا ولا استيعابا وفهما من لدن بقية فئات المجتمع، وبهذا فقدت تلك المشاريع والأفكار -على الرغم من أهميتها في الغالب- التربة الخصبة التي تصلح لاحتضانها ومعانقتها، وبذل الجهود لتحويلها إلى برامج وخطط عمل لتحقيق البناء وإقامة متطلبات النهضة المنشودة. ولم تكن أفكار ابن نبي ومشروعه خارجة عن هذا السياق، حيث لم تجد أفكاره ونظرياته لدى كثير من أفراد النخبة العربية والإسلامية حينئذ فضلا عن بقية فئات المُجتمع من يفهم حقيقة مقاصدها ويدرك أبعاد تطلعاتها، ولهذا نجده يتحسر كثيرا في مذكرات شاهد القرن خاصة منها القسم الثالث الذي سماه بـ”العفن” على أن كثيرا من أفكاره ونظرياته لتحقيق النهضة لم يُحاربها المستعمر فقط، نظرا لما تُشكله من خطورة على برامجه وخططه في إبقاء سطلته وسيطرته على المُستَعمَرين، بل حاربتها النخبة السياسية وأدعياء الفكر من المثقفين ذوي الاتجاهات المُخالفة لتوجهه الفكري والحضاري.
ولهذا فإن عدم إدراك البعد الفكري الحضاري العميق، الذي انطلق منه ابن نبي، وعدم امتلاك الثراء المعرفي والتنوع المنهجي الذي تناول به قضاياه من قبل أفراد النخبة العربية، لم يجعل التناول الذي أسسه، والمنهج الذي أرساه يستمر، ويخلق نخبة علمية تتجاوز كثيرا من مظاهر التجزيء والتبسيط والتهويل الأيديولوجي، ولو قدر لكتاباته أن تُعرف وتتحول إلى مدرسة تكمل مسيرته لتحول مسار الفكر النهضوي منذ ذلك التاريخ نحو الأحسن.
كل هذا جعل أفكار الأستاذ ومنظومته الحضارية تحجب عن الأنظار ردحا من الزمن خاصة وأنه كتب أغلب أجزائها باللغة الفرنسية مما حال دون تداولها بين القراء في أغلب البلاد العربية.
وأمام هذا التجاهل المقصود، والتجاوز الملاحظ لأفكار هذا المفكر ومنظومته الحضارية، من المهم إعادة قراءة فكر هذا المفكر، والتعريف بأهم أطروحاته الفكرية العميقة؛ ولهذا أشكركما على اختيار فكر هذا المفكر موضوعا لهذا الحوار لعله يزيل بعض الغموض عن هذه القامة الفكرية البارزة.
س6: تعاني العلوم الإسلامية اليوم من إشكالات إبستمولوجية كبيرة، حالت دون تحقيق الأجيال المتعاقبة لكسبها الذاتي من الوحي، كيف يمكن الإفادة من مشروع ابن نبي لإحداث تجديد حقيقي يتجاوز مجرد الدعوة إليه والحديث عن أهميته.
من قرأ كتب مالك بن نبي أو اطلع على مجمل فكره يُدرك أنه لم يكن مفكرا إصلاحيا بالمعنى المتعارف عليه عند معظم من تناول مؤلفاته، بل كان في جوهره “شخص الفكرة” كان بالأساس تعبيرا عن رؤية منهجية واضحة، ومفكرا معرفيا، أدرك أزمة الأمة الفكرية، ووضع مبضعه على أس الداء، وهو بنيتها المعرفية والمنهجية.
وبسبب هذا تأتي صعوبة تحديد المجال العلمي والمعرفي الذي يُمكن أن تصنف فيه اهتمامات مالك بن نبي، نظرا لموسوعيته وانفتاحه على مجالات وتخصصات علمية عديدة، حيث نجد من يصنفه ضمن قادة التنظير للإصلاح الاجتماعي، ومنهم من صنفه ضمن رجال التجديد الديني، أو في مجال التغيير الثقافي والفكري، في حين نظر إليه البعض الآخر على أنه محلل ثقافي اجتماعي، أو منظر سياسي واقتصادي. وإذا كانت كل هذه الجوانب مجتمعة تندرج ضمن اهتمامات مالك بن نبي نظرا للطابع الموسوعي الذي اتسمت بها كتاباته، إلا أن الناظر المتفحص لكل كتابات مالك بن نبي يلاحظ أنها جميعها تكاد تندرج ضمن مجال الحضارة والتنمية، وهذا ما يؤكده بنفسه من خلال الشعار العام الذي اختاره عنوانا فرعيا لجميع مؤلفاته وسماه “مشكلات الحضارة”.
ولعل أهمية ما قدمه مالك بن نبي في مختلف مؤلفاته لا يتمثل -في نظري- في مجرد قراءاته وإعادة تمثله لما قدمه علماؤنا من أمثال ابن خلدون وغيره، ولا ما اطلع عليه من كتابات فلاسفة التاريخ والحضارة الغربيين البارزين من أمثال (شبنجلير) الألماني أو (فيكو الإيطالي) أو (أرلوند تويمبي) الإنجليزي في هذا المجال بل تتجلى أهميته أكثر في فهم واستيعاب أكثر مما قدمه هؤلاء جميعا، ثم سعيه بعد ذلك إلى تجاوز ما انتهوا إليه ومحاولة إبداع بدائل فكرية ونحت نظريات جديدة قادرة أكثر من سابقاتها على تقديم تفسيرات أكثر صوابا وإعطاء حلولا أكثر قابلية لحل الاشكالات التي تواجه عالم المسلمين .
وفقه النهضة عند مالك بن نبي يكشف أهمية الجانب العملي والتطبيقي في فكره، وأن ما يهمه ليس الجانب الفلسفي النظري للتاريخ والحضارة، وإنما الذي يهمه بالدرجة الأولى هو كيف يمكن توظيف كل تلك المحُصلة النظرية والعلمية التي استمدها ابن نبي من قراءته لما قدمته نصوص القرآن الكريم والتراث الإسلامي عموما من جهة، وتتبعه الدقيق لأكثر ما كتبه الفلاسفة والمفكرون الأوربيون وغيرهم في هذا المجال، والسعي لاستثمار ذلك كله عمليا لتحقيق “النهضة المنشودة” التي تمثل الهدف الأساس الذي يتمحور عليه كل جهده وفكره.
س7: ويرتبط بالسؤال السابق سؤال آخر وهو: كيف يمكن استلهام مشروع مالك بن نبي لتحقيق التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون؟ انطلاقا من كون مالك بن نبي جمع بين حقول معرفية متنوعة.
مما يلاحظه القارئ لمؤلفات ابن نبي كذلك: تنوع المجالات العلمية والروافد المعرفية التي يستمد منها نظرياته، ويستقي منها أفكاره حيث نجده مثلا يكتب كتابا هاما خصصه لبحث “الظاهرة القرآنية” ويتناول فيه قضايا القرآن الكريم كما يرد فيه على أقوال بعض المستشرقين الذين أرادوا الطعن في أساس الإعجاز القرآني عن طريق التشكيك في الوحي؛ كما نجده يكتب كُتبا أخرى عن “شروط النهضة” وعن “ميلاد مجتمع”، وعن “المسلم في عالم الاقتصاد” وغيرها. وهذا ما جعل جل كتاباته تتميز بثراء معرفي، وعمق منهجي تتكامل فيه حقائق الوحي مع مُكتسبات العقل في علوم الكون والإنسان، وهذا التكامل قلما نجده في كتابات معاصريه، وقد استمد هذا التكامل المعرفي والعمق المنهجي، كما يذكر ذلك في مذكراته “شاهد القرن” و”الطفل” و”الطالب”، من تربيته الدينية الأولى، وبعض قراءاته لكتب تُراثية، وحضوره لدروس دينية في بيئته الأولى في الجزائر، ثم بالإضافة إلى ذلك قراءته لمؤلفات في مجالات علمية أخرى متنوعة: علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلوم التربية، و السياسية، والاقتصاد، والهندسة والتاريخ وغيرها.
كما أن النظر التكاملي المعرفي يتجلى عند بن نبي، كذلك، في كونه يلجأ باستمرار، إلى البحث عن أوجه العلاقات المتبادلة بين مختلف النظم المجتمعية: دينية كانت أو ثقافية أو سياسية أو اقتصادية؛ ويسعى إلى تحليلها وكشف أوجه الترابط والعلاقات التي تحكمها, بحيث يخلق هذا الترابط رؤية عامة ومتكاملة ينظر من خلالها بن نبي إلى كل الظواهر التي يبحثها.
واستحضاره لمختلف هذه الفروع المعرفية يرجع إلى إيمانه بكون الظاهرة الحضارية ظاهرة مركبة وأن عمل الإنسان وتفاعله مع الزمن في التاريخ ينطوي على أسرار إيمانية وطاقات روحية كامنة، مما يجعل أحداث التاريخ تتشكل في حالات كثيرة بأسباب يصعب حصرها في العوامل المادية الظاهرة فقط. وكثيرا ما نجده ينظر إلى “مشكلة حضارية” واحدة انطلاقا من رؤى متعددة، فيكرر تفسيرها كل مرة بطريقة ومنهج جديد، بهدف إطلاع القارئ على خفايا “المشكلات الحضارية” التي يعالجها وبهدف إزالة اللبس عن المواقع المظلمة من ساحة الصراع الفكري والحضاري، الذي كانت مراصد الاستعمار الفكري آنذاك تحاول إخفاءه، حتى لا تثير ردود فعل ضدها.
وهذا التكامل المعرفي جعل رؤية ابن نبي تبدو وكأنها منظومة واحدة تتكامل فيها العناصر، وتنصهر فيها الجزئيات، وتتكامل فيها المعارف والعلوم إلى حد لا يمكن معها دراسة أي عنصر إلا من خلال تفاعله وتكامله مع بقية العناصر الأخرى، وهذه هي الرؤية الحضارية الكلية .
وقد أدرك ابن نبي بشكل مبكر أهمية ومكانة العلوم الاجتماعية في التكوين الفكري، والثقافي، والسلوكي، والتطبيقي في عالمنا العربي والإسلامي، ودعا إلى ضرورة ربطها بالأسس المرجعية الإسلامية، لهذا، فإن تحليلاته تُعتبر بمثابة الممهدات التي تدعونا إلى محاولة الوصول إلى علم اجتماع نابع لا تابع، علم يعبر عن المنطلقات الإسلامية من جهة، وطبيعة الإنسان والمجتمع المسلم من جهة ثانية، وطبيعة المرحلة التاريخية التي يعيشها المجتمع من جهة ثالثة. ولم يكتف بإسقاط النظريات الغربية أو الواقع الغربي وما يرتبط به من مشكلات ومناهج بحثية على واقع مجتمعنا ومشاكله المغايرة، إنه ومن دون شك واحد من أهم رواد ما سمي بعد ذلك بمدرسة “إسلامية المعرفة” وإصلاح مناهج العلوم الإنسانية عندنا.
س8: من المشكلات الفلسفية الكبيرة في الواقع المعاصر مشكلة القيم، كيف تناول مالك هذه القضية؟
بما أن موضوع القيم ،كما ذكرتم، يعتبر بحق من المشكلات الفلسفية الكبيرة في الواقع المعاصر فإننا اليوم نرى أن أي بحث من البحوث في العلوم الانسانية والاجتماعية، لا يكاد يخلو، من ذكر لموضوع القيم، أو إشارة مباشرة أو غير مباشرة لجانب من جوانب ذات صلة بالقيم، وهذا ما يدعو إلى التساؤل عن بعض أسباب هذا الاهتمام المتزايد بهذا الموضوع ؟
لعل هذا يرجع -في نظري- إلى جملة أمور:
- إحساس النخبة من المفكرين والتربويين والفلاسفة وغيرهم بانحدار متواصل وتدهور لمنظومة القيم.
- التغيرات المتسارعة في واقع المؤسسات التي كانت إلى وقت قريب تعتبر محضن القيم، ومكان التنشئة عليها. الأسرة، المدرسة، دور العبادة، الحي أو القرية …
- بروز وسائط جديدة تنقل وتبث قيم جديدة خارجة التحكم وتتخطى في زمن العولمة كل الحدود والحواجز شرقا وغربا من دون رقيب ولا حسيب.
وكل هذه التساؤلات وغيرها تؤكد بأن موضوع القيم ومباحثه من المواضيع الهامة والتي تستحق اليوم، أكثر مما مضى، من المهتمين بقضايا المجتمع والتغيير والتنمية مزيد من الدارسة والبحث؛ ولا عجب في هذا إذا علمنا بأن تاريخ الاجتماع البشري هو تاريخ القيم التي تسوده وتوجهه، وهي التي تُمَيِّزُ الجنس البشري عن غيره من الأجناس و المخلوقات الأخرى، فالإنسان كائن مرتبط بالقيم لا ينفك عنها، فهو في مواجهة دائمة مع القيم الداخلية والخارجية، والتراثية والاجتماعية، سواء منها المطلقة أو النسبية، كما أنه في مواجهة بين ما هو كائن، وما ينبغي أن يكون من تلك القيم والمعايير في إطار الموروث الحضاري والتغير الاجتماعي، وثورة العلوم في مواجهة القيم، والقيم في الأخير هي التي تحدد انفعالات الناس وتتحكم في تفاعلاتهم النفسية، وترسم توجهاتهم في الحياة وتضع ضوابط لسلوكهم مع محيطهم الأسري والاجتماعي والبيئي، كما أن القيم ترتبط في مقاصدها بالأهداف والغايات التي يعمل الأفراد والجماعات لإدراكها وتمثلها وتحقيقها على المستوى العملي، فهي الضمير المستتر لتصرفات وانفعالات الإنسان تختفي أحيانا وتظهر بارزة أحيانا أخرى أو إن شئت قلت بأنها هي الحارس الداخلي لأفعال الإنسان ونظام المجتمع .
وبما أن سؤالكم يتعلق ببحث القيم وبيان مكانة هذا المبحث في المشروع الفكري عند ابن نبي لابد من الإقرار أن دراسة هذا الموضوع دراسة عميقة ومفصلة قصد تحرير مفاهيمه، وبيان عناصره وكشف كثير من الإشكالات التي يثيرها بصورة كافية عند بن نبي لم يحظ بعد، في حدود ما أعلم، بما يستحق من الدراسة والبحث، هذا على الرغم من كون موضوع القيم، كما تقدم، شديد الارتباط بمبحث الإنسان فردا وجماعة وثقافة وحضارة، و مالك بن نبي وهو يتناول قضايا الحضارة والثقافة في علاقتهما بالإنسان والمجتمع يستحضر باستمرار موضوع القيم، وإن لم يخصص لبحثها مباحث مستقلة، كما أنه لم يهتم أكثر بجوانبها النظرية والفلسفية، لكنه وظف مباحث القيم للنظر في جوانبها العملية المُحققة لما يسميه بـ”مبدأ الفعالية”، حيث اعتبر الانسان هو المحرك الرئيس للتاريخ والموجه لأحداثه على قدر ما لديه من ” فاعلية”. وبهذا يظهر أن أسئلة القيم وقضاياها المختلفة في فكر ابن نبي وغيره من المفكرين الذين ينتسبون لنفس التوجه الفكري الحضاري، شديدة الارتباط بحياة الإنسان إلى درجة يمكن معها القول بأن قيمة الإنسان تتحدد في النهاية بقيمة القيم التي يحملها، وكما يقال “قيمتنا في قيمنا”.
ويصعب فهم وإدراك جوهر حركة الإنسان في التاريخ ودوره في قيام الحضارات ونهوضها، أو أفولها وانهيارها عند مالك بن نبي من دون إدراك لذلك المعنى القيمي الكامن في رؤيته وتفسيره لدورة الحضارة التي ربط تطورها وتغيرها بتغير القيم الحاكمة؛ فقسم دورة الحضارة الإسلامية إلى ثلاث مراحل كل مرحلة تحكمها قيم معينة، فكانت المرحلة الأولى التي سماها بمرحلة الروح، التي تولدت عنها الحضارة الإسلامية، وحددت ميلادها الأول هي مرحلة القيم الروحية، ثم بعد ذلك مرحلة العقل حيث سادت القيم العقلية التي تجلت في كثير من نواحي الإبداع والابتكار والإنجاز الحضاري الذي حققه علماء الإسلام في مرحلة ازدهار الحضارة الاسلامية، واستمرت إلى عصر الموحدين كما يرى، لتنطلق بعد ذلك مرحلة “ما بعد الموحدين” حيث دب الخمول في النفوس وانحدر سلم قيم الروح المُبدعة وخملت قيم العقل الوهاج ليحل محلها تحكم الغرائز واتباع الشهوات الجسدية مما نشأ عنه ما سماه بمجتمع “القابلية للاستعمار”.
ولهذا يرى أن تجديد واقع الأمة واستئناف عملية النهوض والبناء الحضاري رهين بتفعيل قيم البناء والابداع، واكتشاف الطريق البكر لتحقيق نهضتنا وإعادة تشكيل بناء حضارتنا. و يستنتج ابن نبي من قراءاته العديدة لتاريخ الحضارات الإنسانية، أنه لا يتاح لحضارة في بدئها رأسمال، إلا ذلك الرجل البسيط، الحامل لقيم البناء والنهوض، القادر على توليد “الفعالية” اللازمة للعمل، وتفعيل علاقة الإنسان وتوجيه تفاعله مع عنصر “التراب “الذي يمده بقوته الزهيد، حتى يصل إلى هدفه، كما يحتاج إلى تفعيل واستثمار عامل “الوقت” اللازم لوصوله لتحقيق هدفه المنشود؛ وكل ما عدا ذلك من قصور شامخات ومن جامعات وطائرات، فيرى ابن نبي أنها لا تمثل إلا مكتسبات الحضارة وليست من العناصر الأولية لميلادها.
وفي هذا المجال القيمي يندرج كذلك اهتمام مالك بن نبي ب”الفكرة الدينية “والبحث في كل ما لها من أثر في مسيرة كل الإنجازات الحضارية عبر التاريخ الإنساني، وهذا الاطلاع على التراث الحضاري العربي والإسلامي هو الذي جعل ابن نبي كما يقول عمر كامل مسقاوي “يطرح الإسلام كملهم لقيمنا، وقادر على استعادة دور الإنسان مبرأ من ثقل الحضارة الإمبراطورية (يقصد الحضارة الغربية). وهو يرى أن الإسلام لا يقدم إلى العالم ككتاب، وإنما كواقع اجتماعي يسهم بشخصيته في بناء مصير الإنسانية. وهو من هذا الجانب يمنح الفكر الإسلامي الحديث نظرة في عمق التجربة الحضارية تقيه عثرات التقليد والتقوقع في معطيات الحضارة الغربية والعالم الصناعي المعاصر”.
وبهذا نرى أن عماد حركة التاريخ، ولولب الحضارة عند ابن نبي هي القيم التي تحكم “الإنسان” المؤمن صانع الحضارات ومبدع منتجاتها، طالما أن الإنسان هو العنصر الوحيد الذي يمتلك إرادة تعمير “الأرض” وتسخير “الوقت”، وبهذا فهو المتحكم والموجه لمسيرة الحضارة كلها، لتتحول المسألة كما حددها عنده إلى البحث عن كيفية صناعة الرجال الذين يمشون في التاريخ، مستخدمين التراب والوقت والمواهب في بناء أهدافهم الكبرى .
غير أنني أرى بعد كل هذا، أن موضوع القيم، وعلى الرغم مما يبدو من كثرة الاهتمام به، سواء في فكر ابن نبي أو في فكر غيره، موضوع لا يزال بشكل عام في حاجة إلى مزيد من البحث والرصد الميداني وتجاوز كثير من التناول النظري والفلسفي المجرد الذي يكتفي غالبا بالوصف والتنويه بالقيم أو ببيان أهميتها للفرد والمجتمع على الرغم من أهمية هذا الجانب النظري كذلك، غير أن مباحث القيم إن لم تتحول في نظري إلى برامج عملية ترصدها وتتبعها على أرض الواقع كما هي، وتعمل على غرسها وبثها في النفوس من خلال نماذج للتأسي في كل المجالات التربوية والسياسية والثقافية، إذا لم تركز الدراسات والبحوث التي تدرس قضايا القيم على هذا الجانب العملي، فإن هذا يُعتبر تقصيرا ونقصا كبيرا، وهذا هو حال جل الدراسات حول القيم في العالم العربي .
يتبع الجزء الثاني
[1] – شروط النهضة: (ص: 19).
[2] – نفس المصدر.
[3] – نفس المصدر: (ص: 20).
[4] – شروط النهضة: (ص: 47).
[5] – في مهب المعركة: (ص: 117).
[6] – مذكرات شاهد للقرن (ص: 219)
[7] – نفس المصدر.