لا يخفى على الباحث المتابع للإنتاجات العلمية في ميدان العلوم الشرعية ما يشوبها من اختلالات وما يعتريها من قصور وهنات، وهو الأمر الذي يستدعي التأمل العميق والنظر المستبصر من أجل الوقوف عند الأسباب الكامنة -الظاهرة والمضمرة- في أفق اقتراح أنجع الحلول وأقوم السبل المفضية إلى استئناف العطاء وتجديد الممارسة المثمرة والفعل الناجع تقويما ونقدا وترشيدا وتفاعلا بناء مع الإشكالات الحقيقية والقضايا الحارقة.
ومن تلكم الاختلالات الطافحة بشكل جلي طغيان الجانب الكمي على حساب الجودة والنوعية، مما يحيل على أهمية السؤال البيداغوجي باعتباره اشتغالا في الرؤية والمنهج والأسلوب والغاية والوظيفة.
ولاغرو أن السؤال البيداغوجي يساعدنا على تلمس الأولويات وتحقيق الكفايات وامتلاك المهارات المساعدة على الإبداع والممارسة النقدية، كما يساعدنا على التقدم بالحديث عن الحاجة إلى التجديد إلى تنزيله وممارسته بآليات علمية رصينة بعيدا عن الانطباع أو المزاجية.
ولتجلية الموضوع بطريقة هادفة وقاصدة يسرنا أن نحاور الخبير التربوي الدكتور الحسن قايدة.
وهو أستاذ مكون بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين وجدة، ومحاضر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة.
من مؤلفاته :- المصطلح الأصولي في كتاب المعتمد لأبي الحسين البصري المعتزلي.
- خصائص التعلم الفعال عند الإمام أبي إسحاق الشاطبي: تأصيل الرؤية وتجديد النظر.
له العديد من المشاركات في الندوات الوطنية والدولية.
والعديد من المقالات في المجلات المحكمة.
- 1-هل لكم دكتورنا الفاضل أن تنوروا القراء بتقويم عام لواقع البحث العلمي في العلوم الشرعية اليوم؟
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المصطفى الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد، بداية أتقدم بالشكر الجزيل للأستاذين الفاضلين الدكتور محمد قاسمي والدكتور مصطفى فاتيحي على أنهما أتاحا لي هذه الفرصة لإبداء الرأي والتحاور في مجموعة من القضايا والإشكالات التي تندرج تحت هذا الموضوع الذي تم اختياره، وهو اختيار موفق وراشد، تحت عنوان: (منظومة العلوم الشرعية والسؤال البيداغوجي، لماذا وكيف؟)
والجواب عن السؤال المتعلق بالتقويم العام لواقع البحث العلمي في العلوم الشرعية اليوم، وهو سؤال كبير وعريض، يحتاج في الحقيقة إلى دراسة أكاديمية معمقة تحترم شروط البحث العلمي وضوابطه، وتعتمد الشبكات المعيارية المشخصة، والاستمارات العلمية الواصفة، وكذا مراجعة أهل الخبرة في الميدان، وتصفح حصيلة ما في الكتب، وتشخيص مخرجات المؤتمرات والندوات التي عقدت على الأقل في المراحل الأخيرة، مع تحديد مرحلة زمنية بحثية معينة، لنتكلم بعلم، محترمين ضوابط الموضوعية، والصرامة المنهجية.
ولكن بما أن السؤال يتوجه إلى التقويم العام، فلا بأس أن أدلي برأيي في هذا الموضوع، وأقول وبالله التوفيق:
لا بد من اتخاذ جملة من المعايير والمؤشرات والمحددات المرجعية في التقويم، وأنا سأعتمد على محدد المقارنة من أجل مقايسة وجوه الاختلاف على مستويات عدة، أقارن بين حصيلة اليوم (مؤتمرات وبحوث وندوات …) وبين ما كان على الأقل إلى حدود الستينات والسبعينات والثمانينات وبداية التسعينات من واقع كان عليه البحث العلمي في بلدنا.
أعتمد محدد أو متغير (الجودة)، فإذا أردنا أن نقارن بين واقع البحوث السابقة وواقع البحث العلمي اليوم عامة، على الأقل في المغرب، وفي العلوم الشرعية أساسا، وهو وضع لا شك ينطبق إلى حد كبير على غير المغرب، فإننا نجد أن البحوث السابقة كانت تتسم بالعمق والأصالة والانبناء على (الإشكالات) ما لا نجده في الكثير من بحوثنا أو في البحوث التي نقدر أنها كانت في أواسط التسعينات إلى يوم الناس هذا، والأمر على سبيل التغليب فقط.
والسبب في ذلك أن تلك البحوث كتبها علماء في الشريعة الإسلامية، هم الذين كتبوا وحاضروا، وكانوا يملؤون ساحات البحث العلمي حينئذ، في حين أن الذين تصدوا للبحث الآن هم أساتذة الدراسات الإسلامية، وأساتذة شعبة التربية الإسلامية في الغالب، وفرق كبير بين أن يتكلم العلماء، وبين أن يتكلم أستاذ التربية الإسلامية والدراسات الإسلامية، فهناك فرق كبير في طريقة التكوين، ومرجعية التلقي والجو العام المحيط بالباحث هنا وهناك، مع الإشارة إلى وجود الاستثناءات اللامعة بطبيعة الحال..
ولذلك أقدر بأن البحوث التي ألفت في السبعينات والثمانينات وبعدها بقليل، كانت من العمق والأصالة والتمكن والجودة ما لا نجده في الكثير من بحوثنا اليوم.
ثم المحدد والمتغير الثاني، وهو محدد (تنظيم البحث العلمي)، فقد صار البحث العلمي الآن منظمة أكثر، عندنا فرق ومختبرات بحثية من أجل التعاون وعندنا مراكز بحثية متخصصة، وهي من أجل التنظيم، ومن أجل الهيكلة وتعين على تحقيق التعاون والتكامل بين الباحثين، ومع المؤسسات العلمية..
ففي الصورة والظاهر من حيث التأهيل والتنظيم أقول: إن البحث العلمي صار أكثر تنظيما وأكثر هيكلة بما اتخذ من مختبرات وفرق ومراكز لا تخلو منها شعبة من شعب الدراسات الإسلامية في البلد، وغيرها من الشعب سواء في كليات العلوم أو كليات الآداب، وفي غيرها من المعاهد العليا، ومراكز تكوين الأطر..
هناك إشكالات ذاتية تعود إلى الباحثين، وهي تعيق هذا التنظيم، وتضعف تلك الهياكل في كثير من الأحيان؛ ولذلك نحتاج إلى مزيد من التعاون ونكران الذات، وإلى بناء المشاريع العلمية على مقاصدها الأولى، وجعل مقاصد الحظوظ تبعية مكملة، ورحم الله شيخ المقاصديين أبا إسحاق عندما نحت قاعدته العظمى: ” وكل تكملة من حيث هي تكملة شرطها ألا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال”، وهي قاعدة لا تفهم إلا في سياق ما أصاب الأمة في عهد الشاطبي من رجة في منظومة القيم فاضطربت معها مقاصد المكلفين فدعا رحمه الله إلى إصلاح البواعث والمقاصد بناء على سلم المقاصد الأولى والثانية، أو ما أسماه الأصلية والتبعية. فالبحث العلمي عامة لا يقوم ولا يدوم، ولا ينهض بوظائفه في تكملة الذات، وترقية الآخرين حتى يكون له نصيب وافر من هذا الفقه التربوي.
المتغير الثالث، هو متغير (النشر والطبع)، فهناك تقدم كبير من حيث العدد لكثرة الباحثين أولا مقارنة بالماضي، وهناك نوع من التسابق إلى التأليف والكتابة وعقد الندوات والمؤتمرات الدولية والوطنية، وهذا يعطينا زخما وتراكما كبيرين في البحث العلمي، مع تسجيل أن هناك أحيانا نوعا من العجلة في التأليف، وهناك من يبادر إلى إنهاء العمل وطبعه وإخراجه للوجود قبل إبانه، وعندنا أحيانا بحوث تتسم بالخفة والسرعة قياسا على الوجبات الخفيفة اليوم؛ ولكن نسجل مع ذلك بأن هناك بحوثا قيمة وازنة، فيها من العمق والجدة والإبداع والتمكن ما يحمد لها ولأصحابها، وهؤلاء هم القدوات في هذا الاتجاه، وجهودهم معتبرة، وسعيهم محفوظ جزاهم الله خير الجزاء.
ولا مناص من قفة صارمة وجادة، وفي شعبة الدراسات الإسلامية خاصة من أجل أن نعيد للبحث تألقه ورونقه، لا مفر من وقفة حازمة مع الباحثين حتى يوفروا شروط البحث العلمي وضوابطه، لا يسوغ ترك الفرصة للابتذال في البحث العلمي، واستصغاره، لا يجوز تبخيس ميدان البحث العلمي؛ فنحن في مرحلة تأسيسية، فلا بد من هذه الوقفة الصارمة من أجل أن يحقق هذا البحث مقاصده والمراد منه؛ لأن نهضة المجتمع لا تكون إلا بالبحث العلمي، فالمدخل في الإصلاح مدخل علمي يعتمد على البحث في جميع المجالات، فلا بد أن نكون في مستوى هذه المرحلة، والذين يحاربون الإصلاح تجدهم دائما يبخسون ويميعون.
- 2- أسباب ذاتية وموضوعية تشكل تحديات للباحث في العلوم الشرعية، هل لكم أن توضحوا أهمها مع التركيز على خلاصات تجربتكم؟
نعم، هناك أسباب موضوعية وأخرى ذاتية تعوق مسيرة الباحث، وتشكل تحديات حقيقية له؛ مما ينعكس -أحيانا- سلبا على نتائجه وعلى فعاليته.
أما الأسباب الموضوعية: فهي أسباب البحث العلمي عامة، والحديث عن الأسباب الموضوعية هو حديث عن أسباب البحث العلمي في الأمة بشكل عام، والبحث في العلوم الشرعية والإنسانية بشكل خاص؛ فهناك أسباب تقف في وجه تقدم البحث العلمي وتطور نتائجه ومخرجاته.
أولا: ينبغي أن نعلم بأن البحث العلمي ليس أولوية في الأمة اليوم للأسف الشديد! فلم نصل بعد إلى تلك المرحلة التي يكون فيها العلم هو أعز ما يطلب.. المرحلة التي يكون فيها العلم هو السلطان الموجه لكل شيء، يكون العلم حاكما لا محكوما، فهذه المرحلة لم نصل إليها بعد؛ ولذلك لا نجد الأموال الكبرى والجهود العظمى ترصد في سبيل تطوير البحث العلمي.
ثانيا: هناك مشكل تصنيف العلوم، وجعل العلوم الإنسانية في أسفل السلم، فإذا عدنا إلى مدارس تصنيف العلوم في الحضارة الغربية الأوربية التي نحن إنما نقتبس منها، ونمشي في ركابها ذراعا بذراع، وشبرا بشبر، –مع الأسف الشديد- في مجال البحث العلمي، و في الأفكار والمعارف، وما إلى ذلك، نجدها – المدارس الغربية – تصنف ما يتعلق بالعلوم الإنسانية في أسفل السلم، وخاصة ما يتعلق منها بعلوم الغيب، وهذا نجده في المدرسة الوضعية مع أوكست كونت وغيره؛ ولذلك فإن الاهتمام بالجانب الإنساني ضعف ضعفا شديدا في الحضارة الغربية؛ لأنهم حمَّلوا الدين وزر فشلهم وتقهقرهم؛ ومن ثمة جعلوا الدين هدفا للطعن ومرجعا للتخلف والرجعية.
و لا بد أن نشير كذلك إلى تيار ما بعد الحداثة، وانقلابه على شعارات عصر الأنوار، حيث ضمرت القيم الإنسانية، وأصبح الإنسان مادة للاستثمار من لدن المقاولة؛ مما انعكس انعكاسا خطيرا على مجال البحث في العلوم الإنسانية، وما يرتبط بمجال الغيب بشكل أخص.
هذه الحداثة المنفصلة عن (القيمة) باصطلاح الدكتور عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- الذي لطالما تحدث عن هذا الأمر وأبرزه في كتبه، ونظَّر له كثيرا، وهو بالمناسبة من الذين عايشوا الغرب، ودرسوا في أمريكا وأنتجوا ما أنتجوا هناك من نظريات وأبحاث، ومنها آراؤه وطروحاته المعمقة في قضية الحداثة، وما بعد الحداثة، فهو -رحمه الله- يرى أن الحداثة المنفصلة عن القيمة هي رؤية فلسفية متكاملة للوجود والمعرفة والمصير، فهي تتبنى العلم والتقنية، ولكن تتبناهما مفصولتين عن القيم، والانفصال عن القيم معناه الانفصال عن الإنسان. لمَّا ينفصل العلم عن القيم معناه أن هذا العلم انفصل عن مطالب الإنسان وجوهره؛ فيصبح العلم في خدمة أغراض أخرى مادية بهيمية.
وسيلة هذه الرؤية الفلسفية الهجوم على اليقينيات المعرفية، والدينية، وإشاعة النسبية المطلقة والشاملة في كل شيء، ليست هناك يقينيات معرفية، ولا دينية، ولا مسلمات فلسفية في نظرها، فالكل أصبح نسبيا، ولا حديث إلا عن النسبية المطلقة والشاملة.
هذا التغول والاستنساخ المادي جعل الإنسان كما أشرت عنصرا للاستعمال فقط، فأصبح الإنسان يُرد إلى المادة، والمادية كما هو معلوم هي حركة بلا غاية ولا هدف، ليس لها من قصد إلا إشباع الغرائز الإنسانية، وهي غاية لا تدرك؛ فيصبح الإنسان في نوع من الصراع مع الغرائز فيدور في حلقة سيزيفية لتحقيق هذه الغاية.
هذه هي الحداثة المسماة (حداثة التمركز حول المادة والطبيعة)، لا التمركز حول الإنسان، وهي لا تسمح بوجود معايير جمالية، ولا بوجود مطلقات إنسانية قيمية، ولا بوجود قيم وحقائق غيبية توجه السلوك والتصرف، ولا شك أن هذه الرؤية الفلسفية ستكون مهددة للبحث في العلوم الإنسانية، ومهددة للبحث فيما له علاقة بالجماليات، والأذواق، وما له علاقة بالضبط والتقعيد، وبتنظيم الحياة وفق معايير، ومنظومات أخلاقية وقيمية.
هذا أدى بنا في آخر المطاف إلى حداثة معادية للمعنى ومعادية لفكرة الخصوصية، حداثة تقوم على تبخيس العلوم الإنسانية أمام الكفايات والمهارات، فلا سلطة فوق سلطة المهارات الحياتية؛ فتصبح المعادلة الجديدة: كيف يستطيع الإنسان أن ينتج المادة أكثر؟ ما سبيله ليستنزف أكثر ويأخذ أكثر؟ هذا هو الذي أدى إلى إضعاف البحث في العلوم الإنسانية خاصة، وانعكس هذا علينا؛ لأننا إنما نستورد النماذج التفسيرية الغربية، ونقتفي آثار المدارس التربوية الغربية في فهمها لقضايا الفرد والأسرة والمجتمع. ونحن – للأسف الشديد- نقارب قضايانا المصيرية الكبرى في التربية والتعليم والثقافة والبحث العلمي وغير ذلك من هذا المنظور المبخس للعلوم الإنسانية والمستهين بها؛ فلا نوليها ما تستحق من عناية وتقدير.
ثم هناك أمر آخر يتعلق بالأسباب الموضوعية التي أدت إلى ضعف البحث في العلوم الإنسانية، وهو ما يتعلق بضعف استثمار نتائج البحث العلمي وخلاصاته في العلوم الشرعية والإنسانية، فنحن في الغالب لا نستثمر خلاصات البحث العلمي في العلوم الإنسانية والشرعية خاصة في حل مشكلاتنا المجتمعية؛ بمعنى أن هناك تراكما مهما؛ لكنه يبقى حبيس الرفوف، معطلا، لا يجد سبيلا للتنفيذ والتفعيل في معالجة مشكلات حياتنا اليومية؛ وهذا ما يجعل الباحث لا يهتم بهذا الجانب، ولا يلتفت إليه، ويجعله من الاهتمامات الثانوية لا الرئيسة في الحياة.
- 3- إذا كانت الأسباب الموضوعية خارج إرادة الباحث فإن الأسباب الذاتية مقدور عليها، ما هي مقترحاتكم لتجاوز هذه الأسباب وترشيد التعامل معها؟
الأسباب الذاتية كثيرة جدا، وهي التي ترد إلى ذات الباحث.
وأبدأ ذلك بمشكلة (الضابط التعبدي)، فعندما لا نبني البحث في العلوم كافة والعلوم الشرعية خاصة على المقاصد الأولى التي هي مطالب الآخرة، ونبني ذلك على مقاصد الحظ الفانية كما سبقت الإشارة؛ فإن ذلك يضعف البحث العلمي، بحيث لا يتحرك الطالب للبحث إلا إذا كانت هناك حظوظ عاجلة، وقد حفظ للإمام سفيان الثوري رحمه الله قوله: “طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله”، لما يطلب العلم للدنيا فقط فهو يرفض ولا يرضى إلا أن يكون لله تعالى والدار الآخرة، هذا هو الذي أدى إلى التعجل، وترك الصبر وهجران مكابدة قراءة كتب التراث.
فصاحب الحظ يكون دائما عجولا، ولا يطيق الصبر والثبات؛ لأنه يريد تحقيق مآربه في أقرب وقت ممكن، وبأقل كلفة وجهد، طالب الحظ يقع في هذه الآفة (التعجل)، ويقع في آفات أخطر كالتحايل في البحث العلمي، ويعمد إلى ظاهرة الاستنساخ والسرقات العلمية؛ وهذا موجود مع الأسف، بل لقد عم داؤه وطم! ونسأل الله العافية.
ولذلك لا بد أن يبنى البحث العلمي عامة، وفي مجال الشرعيات من باب أولى وأحرى على هذا المقصد (ضابط التعبد)، فالباحث في بحثه هو في محراب التعبد، يتقرب به إلى الله تعالى، وهذا من أعظم القربات، وأسمى المقامات في هذا الدين؛ لأن السعادة لا يعبر إليها إلا على سفينة المشاق، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما نقله ابن القيم في تهذيب مدارج السالكين في منزلة الصبر: “بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين”.
الأمر الآخر: وهو أننا نلاحظ ضعف القدرة في التعامل مع كتب التراث؛ وذلك راجع لضعف الملكات اللسانية، وهو عامل يجعل الطالب لا يجسر على طرق هذا المجال، مطالعة وقراءة؛ نظرا لما تتميز به من رصانة في لغتها، ومتانة في أسلوبها؛ وبالتالي يتركها إلى غيرها.
ونلاحظ أيضا أن هناك من الطلبة من عندهم الزاد المهم في مجال فقه اللغة: في النحو والصرف والبلاغة، ومع ذلك لا يطيق التواصل مع كتب التراث، والمشكلة عند هؤلاء أنهم أخذوا اللغة من جهة فقه اللغة، لا من جهة فقه اللسان العربي، وفرق كبير بين (فقه اللغة) و(فقه اللسان)، ففقه اللسان يحصل بالقدرة على فهم اللغة العربية، والتعبير بخفة وسلاسة عن المعاني والخواطر والأفكار، والآخر يحفظ القواعد والضوابط فلا تشايعه تلك القواعد والضوابط، بل تأسره أحيانا وتقيده أحيانا أخرى.
ولذلك كثير من الطلبة -وهذا نجده في بعض طلبة الجامعة، والأساتذة المتدربين في مادة التربية الإسلامية- ممن عندهم هذا الزاد الوافر من الرصيد اللغوي القاعدي النظري؛ ولكنه لا يكاد يبين في مواطن المناظرة والمحاضرة، وهاهنا أعتقد بأننا نحتاج إلى معالجة قضية منهجية تعلم اللغة، سواء في الجامعة، أو في معاهدنا في التعليم العتيق، وقبل ذلك في مدارسنا منذ التعليم الأولي والابتدائي إلى آخر شوط من التعلم. والغرض هنا أن يكون فقه اللغة وسيلة لفقه اللسان. والقرآن المجيد إنما ينوه باللسان المبين ويحتفي به؛ إذ تفتيقه وإمهاره هو المدار في تعلم القواعد..
أمر آخر كذلك، أحسب أنه من الأسباب الذاتية وهو أن الطالب لا يرجع إلى الكتب المؤسسة للعلوم، ولا يرجع إلى مراحل تأسيس العلوم، ويكتفي بالكتب التي تهتم بالمقاربات التقريرية والمقاربات الوصفية، كما نجد في الكتب التي ألفت في القرن العشرين مثلا، كالتي تتحدث في علوم القرآن والحديث وأصول الفقه، فهذه إنما هي عبارة عن محاضرات تقريبية للطلبة تصف المعالجات؛ ولكنها في الغالب لا تنفذ إلى عمق الإشكالات، هذه كتب لا تعمد إلى تفكيك النسق المعرفي، ولا تنفذ إلى العمق الإشكالي.
فتجد المحاضر مثلا لا يخرج عن وصف أسباب النزول مثلا بأنها كذا وكذا، مفهوما وموجبات، وضوابط، وروايات..، وحتى في الفكر المقاصدي – بؤرة تأسيس النظر والتجديد والاجتهاد- فمدار بعض المحاضرات على التعريفات، والتقسيمات والمداخل العامة، بنوع من التناول الظاهري. وأما أن نهتم بلماذا وضع فلان هذا المصطلح أو هذه القاعدة أو هذا النسيج من القواعد؟ وما السياقات التاريخية والحضارية المولدة لذلك؟ وما الإشكالات المنهجية الدافعة والمثيرة للقول؟ لا نهتم كثيرا بتحرير مناطات الأقوال بقدر ما نهتم بوصف المعالجات، وتقرير المخرجات..
وفي المحصلة تجد الطالب يحفظ كثيرا من المعالجات والتوصيفات للعلوم، ولكنه لا يعرف سياقاتها وإشكالاتها ومناطاتها، ومقاصدها وهو أهم ما في العلوم والفنون، وحينما يغيب المناط عن الطالب، فإنه لا يستطيع أن يقيس، ولا يستطيع تعدية الرؤية، وتطوير المعرفة والعلم، فيدور في حلقة مفرغة رغم ما عنده من زاد معتبر.
والأمر الآخر الذي أحسبه يرجع كذلك إلى الأسباب الذاتية في قضية البحث العلمي، فهو أن الطالب حينما لا يتلقى العلوم من باب إشكالاتها، فعندما يأتي إلى مرحلة تسجيل بحث في الماستر أو في الدكتوراه يصعب عليه جدا اختيار الموضوع المبني على الإشكال الحقيقي؛ لأنه تلقى العلوم هكذا بطريقة تقريرية سردية كما ذكرت، لم يلتفت إلى إشكالاتها، ولم يُعَنْ على ذلك في مراحل الطلب، وحينما يريد تسجيل البحث فإنه يعجز عن اختيار الموضوع، فتجده يطوف حول الموضوعات، ولا تقر عينه على أمر ما، فكلما لاح له النور من جهة انقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير! فيظل هكذا حتى ييسر الله له أستاذا يقوده إلى بحث ما، فيتبنى ذلك البحث على عدم فهمه للإشكال أو ضعف ذلك. ومعلوم أن عدم فهم الإشكال يعني أن شأن الطالب وهو يبحث كالذي يرمي في عماية، أو الذي يعمل في غير معمل.. وليس ذلك إلا أن الطالب لم يتدرب على تلقي العلوم انطلاقا من إشكالاتها، ونحن نعلم أن البحث بإشكاله، وأن الإشكالية هي روح البحث العلمي، وأن بحثا علميا بلا إشكال هو بحث بلا جدوى وبدون قيمة ولا هدف. ورحم الله الإمام القرافي شهاب الدين الذي سجل القاعدة الذهبية القائلة في الفرق الرابع عشر من فروقه: إن معرفة الإشكال علم في نفسه، وفتح من الله تعالى.
تلكم أقدر أنها جملة الأسباب الموضوعية والذاتية التي تقف في وجه طلبة البحث في العلوم الشرعية، وتعوق مسيرة البحث عندهم، والأمر يحتاج إلى مدارسة ومعالجة وإلى مذاكرة مع أهل الشأن؛ من أجل التغلب على هذه الإشكالات الذاتية على الأقل. وأما الموضوعية فهي متعلقة باختيارات الأمة وبسياسات الدولة.
- 4- نلاحظ أن البحوث في الدراسات الشرعية لا تزال تحوم حول مشكلة التأصيل (تأصيل الاجتهاد، التجديد، المقاصد…) وهذا يؤدي إلى اجترار كثير من الأفكار، ونظل نناقش القضايا نفسها: (أحكام جزئية حول حكم عقد أو معاملة)؛ ولكن الحاجة ماسة اليوم إلى معالجة قضايا كبرى: نظرية المعرفة، فلسفة الدين، قضايا الحرية، وحقوق الإنسان، والتنمية، والتربية والتعليم، وقضايا الدولة والنظم الإدراية …. ما هي مقترحاتكم النظرية والعملية في هذا الصدد؟
أعتقد أن قضية اجترار الأفكار، ومناقشة القضايا نفسها في أمور جزئية كما جاء في سؤالكم، فهذه المشكلة في نظري لا ترجع إلى بعد التأصيل لقضايانا، كتأصيل أمور الاجتهاد والتجديد والمقاصد.. وإنما ترجع إلى شيء آخر، هو ما يسميه البعض (تدوير المعرفة)، وإعادة إنتاج المعرفة بإعادة تعريف المعرف، وشرح المشروح، وتركيب المركب، هذه في الحقيقة من آفات البحث العلمي، فالأمر هنا لا يرجع إلى قضية البحث في التأصيل، وإنما يرجع المشكل بالأساس إلى أننا نبحث فيما لسنا بحاجة إليه، أو نبحث في أمور هامشية وثانوية لا تدعو الحاجة إليها، هي بحوث بعيدة جدا عن الحاجة العلمية والمعرفية.. وأحيانا نبحث في قضايا بُحث فيها إلى درجة الاحتراق، فهنا يمكننا الحديث عن الاجترار والتَكرار.
أما عندما نبحث في قضايا الاجتهاد في أمور التجديد والمقاصد، فأعتقد أن البحث فيها يكون طبيعيا، فطبيعي جدا أن تهتم الأمة بمشكلات التأصيل؛ لأنها فقدت ذاتها الحضارية إبان احتكاكها بالاحتلال، فحادثة الاحتلال وما نجم عنها، وما نفثته في جسم الأمة من تغييرات جذرية أدت إلى تفكيك منظوماتنا في التفكير والتعبير والتدبير، وتفكيك نمطنا المعرفي والقيمي والتشريعي والسياسي وهلم جرا.. هذه الاختيارات والثوابت تعرضت إلى هجمات خطيرة هزت بنياتنا هزا عنيفا أدى إلى تذويب النماذج الأصيلة الراسخة.
أضف إلى ذلك أمرا آخر، وهو أن الموروث الفكري عندنا لما بعد سيادة قرون التقليد المحض – بتعبير العلامة الحجوي الثعالبي رحمه الله- الذي يؤكد بأن الأمة الإسلامية في أواسط القرن الثامن الهجري دخلت في طور التقليد المحض؛ فتدحرجت مناهج الأمة في التفكير والاستدلال والاستنباط، وانتقلت من الاجتهاد المطلق إلى الاجتهاد المقيد، ثم إلى اجتهاد الفتوى المعتمد على التخريج على الفتاوى الجاهزة، كأنها هي الأصول، تقوم مقام الدليل من الوحي كتابا أو سنة؛ فأصبحنا نخرج على هذه الفتاوى، وندور حول ما أنتجه الفقهاء والعلماء، وهذا طبعا ما أدى بالثقافة الإسلامية إلى هذا النوع من التكرار والاجترار كما تفضلتم.
ولذلك فطبيعي جدا أن تعود الأمة إلى مسالك العقلية التأصيلية المتوسلة بالأصول؛ لأن هذه العودة نتيجة طبيعة لما قدمنا من أسباب وغيرها، ولعل أجود التأصيل وأعلاه وقمتَه – في نظري – كان في ذلكم التأصيل الكلي النسقي الذي لا يستهدف تأصيل عقد معين أو معاملة بعينها، وإنما يعمد إلى التأصيل الكلي النسقي، وإلى بناء النظريات المفسرة الجامعة، ثم اعتمادها نماذج تفسيرية في تراثنا، ووضعها بين يدي الباحثين منارات في المنهج تعين الطالب على تملك مهارات الفهم الاستنباط والتحليل والتعليل، وتسدد النظر المنهجي؛ حتى تتعمق مخاييل البحث العلمي بأركانه وشروطه وضوابطه.
وأنا أستطيع هنا ذكر بعض النماذج الرائدة في هذا الصدد، كنظرية التقعيد الفقهي للفقيه العلامة سيدي محمد الروكَي حفظه الله أستاذنا الجليل النحرير، ونموذج نظرية التقريب والتغليب لأستاذنا الدكتور سيدي أحمد الريسوني شيخ المقاصديين المعاصرين بلا منازع، وصاحب نظرية المقاصد عند الشاطبي، وكذلك نموذج الدراسة المصطلحية من حيث هي منهج علمي لقراءة الذات بالذات، يكشف الواقع الدلالي للمصطلحات بناء على أركان الدراسة الستة التي نظر لها رائد هذه المدرسة، شيخنا العلامة سيدي الشاهد البوشيخي حفظه الله الذي لا يمكنك أن تخرج من عنده بغير أن يطبع وعيك بشيء من قواعد المنهج وأساسياته، وكل من عاشره قليلا أو كثيرا غنم من قواعد الهدى المنهاجي وفوائده حفظه الله وبارك في عمره وصحته.
فهذه النماذج التفسيرية.. وهذه النظريات، والأنساق الكلية أعتقد أنها تدخل في صميم قضية التأصيل، غير أنها أصلت تأصيلا علميا كليا ونسقيا، وقد تولد من رحم ذلك دراسات عديدة هي الآن بالعشرات، وهي دراسات وازنة خدمت الأمة خدمات نافعة؛ لأنها بنيت على محك الإشكال المنهجي، ووضعت جزاء وفاقا على مواطن الحاجة كنزول الدواء على الداء فجزاهم الله أحسن الجزاء؛ فنعم التشخيص الدقيق، ونعم المعالجة الشافية، وبوركت تلك الجهود الطيبة التي سالت من معينها أودية بقدرها.
والسر في ذلك أن مصممي تلك النماذج التفسيرية ومهندسيها هم من طراز العلماء الذين خبروا المنهاج العتيق وتحققوا من مزاياه، ونجوا من مضايقه، ووظفوا ذلك في خدمة البحث العلمي المعاصر وقضاياه.
وأنا معكما فيما أشرتما إليه من أن الأمة تحتاج إلى دراسات أخرى، نعم، الأمة في حاجة إلى نماذج بديلة عن النظريات الوافدة، بدائل في قضية المعرفة الإسلامية والإنسانية طبعا، والمعرفة الإسلامية معرفة إنسانية بالضرورة بحكم كونها من رب الناس ملك الناس إله الناس.. نحتاج إلى دراسات عميقة في قضايا الحرية، وحقوق الإنسان، والدولة، ونظم الإدارة إلى غير ذلك، فالأمة لا شك لها زاد مقدر في هذا، وقُدمت من أجل ذلك بحوث متنوعة؛ لكنها تحتاج إلى المزيد من التراكم؛ لأن التراكم هو الذي يبني الحضارة، وشرط ذلك أن تتجه البوصلة إلى إنتاج النظرية المعرفية الإسلامية المستمدة من الوحي، وما تفرع عنه من علوم بانية.
- 5- هناك من يرى أن كثرة السقوف والمحاذير في العلوم الشرعية يعد عائقا أمام تحقيق الفعالية والإنجاز، ما هو ردكم العلمي على ذلك؟
هذا الكلام غير دقيق وغير واقعي في نظري، بل ينم عن ضرب من الجهل بطبيعة العلوم الشرعية من جهة، وبسياقات العلوم الكونية التي تطورت في الحضارة الغربية المسيحية في نهضتها الأوربية من جهة أخرى.
بداية لا بد من التعرف على طبيعة العلوم عامة، شرعية كانت أم وجودية، فالعلوم عامة من حيث هي علوم تكون مسيجة بالخواص العلمية التي سطرها الشاطبي في الموافقات: (العموم، والاطراد، والثبوت والحاكمية)، فهذه العلوم إما أنها تنطلق من سقوف ومحاذير، أو تنطلق في اتجاه إقرار السقوف والمحاذير، ولا تخرج عن ذلك؛ فالعلوم في مرحلة النضج والقوة والازدهار والتألق تتشكل سقوفها، وسقوفها هي أصولها وقواعدها وشروطها وضوابطها وموانعها، والعلوم في بداياتها تكون عبارة عن مفاهيم بسيطة، وتصورات أولية، عبارة عن جزئيات وتطبيقات مرسلة، أو هي عبارة عن حالات معزولة وقضايا أعيان؛ فتكون هذه العلوم في حاجة إلى اللم والضم والجمع؛ أي إلى الاستقراء والاستقصاء للانتقال بها من دائرة الجزئيات إلى الكليات، ومن الفروع إلى الأصول، ومن التصرفات إلى التصورات..
العلوم عامة لا تخرج عن هذا؛ ولذلك فإننا نجد في المناهج طريقتين كبيرتين في التأليف والتدريس، وهما: الطريقة الاستنباطية القياسية، والطريقة الاستقرائية الاستقصائية.
أما الطريقة الاستنباطية: فهي التي تنطلق من الكل إلى الجزء، أي من القواعد والقوانين والنصوص العامة، ومن المسلمات واليقينيات في اتجاه الفروع والجزئيات، ففي التدريس مثلا: الذي يدرس بهذه الطريقة فهو ينطلق من القاعدة العامة، ويعمد إلى شرحها وبسطها وتفكيكها وتدريب المتعلمين عن طريق التمرين؛ من أجل حسن تصور هذه القاعدة، وحسن فهمها، وفي هذه الطريقة أيضا يكون استدرار الفروع على الأصول، وتعتمد هذه الطريقة بغية استخراج المجهول من المعلوم بالقياس على ذلك المعلوم.
وإذا أردنا أن نمثل لذلك من ثقافتنا الشرعية، فلنمثل له بالإمام الشافعي -رحمه الله- المؤسس لعلوم المسلمين، والمؤسس لطرائق التربية والتدريس، وهو صاحب المنطق الأصولي كما هو معروف، نأخذ مثلا تعريفه للبيان، فقد عرفه تعريفا كليا ومجملا، فعندما أثار سؤال: كيف البيان؟ جاء مباشرة بالتعريف، هذا التعريف بعد التأمل فيه، نجده محتاجا إلى الشرح والتمثيل والتفصيل؛ ولذلك وجدناه يعمد فورا إلى التفصيل، وإبراز وجوه هذا البيان، ثم يبدأ بالاستدلال لكل وجه من الكتاب والسنة ومن العقل؛ حتى صار الأمر واضحا وبينا، فهو رحمه الله قد انطلق من الكل، وهو هذا النص الكلي في اتجاه التفصيل والبيان والتفريع والتمثيل، هذه تسمى الطريقة الاستنباطية والقياسية.
ثم بالمقابل هناك الطريقة الاستقرائية: والتقابل بينهما تقابل تكامل لا تناقض وتضاد، فهذه الطريقة تنطلق من الجزء إلى الكل، فتعتمد على آلية إحصاء الحالات والأفراد والفروع، وتبحث عن العلاقات والروابط من أجل الوصول إلى القانون المفسر الحاكم على التصرفات والأحوال، فهو منهج ينطلق من الفروع إلى الأصول، ومن الجزئيات إلى الكليات.
وإذا أردنا أن نمثل لهذا المنهج، فلنمثل له انطلاقا من الشافعي الإمام دائما حتى يتبين بأن الأمة هي التي أصلت لهذه المناهج، مستنبطة إياها من مشكاة الوحي المعصوم المسطور، ومن رحاب آيات الكون المنظور. ومثال ذلك ما صنعه -رحمه الله- في تناوله لخبر الواحد، حيث استدل لمشروعيته استدلالا يشبه التواتر، كأنه يبحث عن خيط ناظم، وقضية كلية تعطي لهذا الخبر الوثوق واليقينية والحجة الكلية، فوجدناه -رحمه الله- يستقري الحالات، ويأتي بوجوه الاستدلال بخبر الواحد؛ حتى ظفر ببغيته في إنتاج القانون الكلي المفيد للقطع الدال على حجيته من حيث هو دليل كلي ثابت، يقاس عليه ولا يقاس هو على غيره، وهو ما صرح به في الرسالة.
فصار شأنه ههنا كشأن كليات الشريعة، كأصل اعتبار المآل وفروعه التي هي (الاستحسان، وسد الذرائع، والحيل، ومراعاة الخلاف)، وكالمصلحة المرسلة، وقواعد الترجيح، وقواعد فقه الموازنات والأولويات.. ، من حيث هي حجة ظنية في التطبيق، بيد أنها حجة كلية من حيث التصور والنظر؛ إذ للكثرة ما ليس للقلة، فالكثرة تعطي المشروعية القانونية الدستورية؛ فترتقي بالأمور من دائرة التصرفات إلى فضاء المفاهيم الكلية والتصورات العظيمة، وكذلكم صنع الشافعي الإمام رحمه الله بخبر الواحد، فقد كان يبحث له عن هذا التصور العام الشائع الذي لا تنقضه الأفراد الجزئية؛ وكل هذا من أجل أن يرد على أولئك الموهنين لخبر الواحد المقللين من شأنه، والحال أن الفقه الإسلامي أسس على خبر الواحد.
والآن نعود للسؤال بعد هذا التمهيد الضروري، فنقول وبالله التوفيق:
ليس صحيحا أن كثرة السقوف والمحاذير عائق أمام الفعالية، ولو قلنا العكس لكان هو الأصح، والأمور بنتائجها، والذين يزعمون خلاف هذا ربما تتحكم فيهم خلفية رفض اشتقاق العلوم الإسلامية عامة من النص، و تشاغب على أذهانهم عقدة استنباطها منه ، وكأني أشم رائحة هذه العقدة والخلفية الإيديولوجية التي لا يعجب أصحابها أن تكون ثقافتنا وعلومنا صادرة من النص الشرعي؛ فثقافتنا وحضارتنا وعلومنا جميعا بنيت على الوحي، في حين أن التراث الغربي المسيحي لم يستمد من الكتاب المقدس، وليس هو مصدره، يعني أن التراث سبق الكتاب المقدس في التدوين، فالكتاب المقدس دوِّن بعد قرون من التراث، في حين أن التراث الإسلامي كله فرع عن الوحي، وتفسير له، وأدوات لذلك التفسير والبيان، فأول ما دون عندنا هو الوحي، الكتاب ثم السنة، ثم جاء بعدهما تدوين التراث الإسلامي من علوم ومعارف، وهذه مفارقة جوهرية بيننا وبين القوم، فهو فارق محوري جوهري حاسم بين الحضارتين، فحضارة الغرب المسيحي بموجب هذا هي حضارة طردية بلا مركز، كتابها المقدس خرج من التراث، لم تكتب الأناجيل إلا بعد اكتمال الدعوة المسيحية، ليست الكتب المقدسة مصدرا للعقيدة كما هو معلوم مؤكد.
ثم جاء طور علم النقد التاريخي مع سبينوزا وريتشارد … ليتناولا تحريفا وتبديلا وتغييرا وقع في الكتب المقدسة، إذن لا بد هنا أن نسجل هذه المفارقة الجوهرية بين الحضارة العربية الإسلامية، والحضارة المسيحية الغربية، فحضارتنا حضارة النص، وهو مركز ثقلها، ومبعث نهضتها، حتى من جهة الفهم والبيان، فإن النص حسم أمر فهمه مع صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم؛ لأن وظيفته البيان “وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون” [النحل: 44]. وقد أكد هذا العلماء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه “مقدمة في أصول التفسير”، حيث بين بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلتحق بالرفيق الأعلى حتى بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه؛ ولذلك فالأمة الإسلامية متعبدة بالرجوع إلى النص في كل شيء، في أفهامها وآدابها وتصرفاتها… هي مأمورة بالرجوع إلى النص.
على العكس من ذلك، بالنسبة للحضارة الغربية لا بد أن نذكر التحريف الذي تعرض له الكتاب المقدس، وقد كشف هذا القرآن الكريم في قوله تعال: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79]
ثم جاء بعد ذلك تيار الهيرومينوطيقا الذي أزال القدسية عن النص، وأزال العصمة عنه وأزال المسافة بين النص وقارئه، وبين الكاتب وما كتب، وجاءت مقالة: (موت الكاتب)، وأن النص مفتوح، وأن للقارئ أن يفعل به ما يشاء، وأن له أن يعبث به كيف يشاء، في غياب الضوابط والقواعد، وهذه هي الفوضى التي جاءت مع هذا التيار في القرن السابع عشر الميلادي. أضف إلى ذلك تيار الحداثة المتمركزة حول الطبيعة، هذه الحداثة المفصولة عن القيمة كما رأينا مع الدكتور المسيري -رحمه الله- الأمر الذي أدى في آخر المطاف إلى إعلان إفلاس الإنسان، واندحار القيم، وسيادة المادة، فأصبحت السلطة للمادة، والكلمة العليا للطبيعة. وأما الإنسان فصار -كما رأينا- عنصرا استعماليا، وكتلة من الشهوات قيمته في قدرته على تحقيق الإشباع الغريزي إلى أبعد مدى ممكن.
والخلاصة أن إزالة السقوف عن العلم، أو فصل العلم عن السقوف العلمية التي هي القواعد والضوابط والأصول، والسقوف الأخلاقية القيمية، هذا إعلان إفلاس العلم؛ وهو الذي أنتج العدوان على الإنسان والحيوان والأكوان. نعم انطلق هذا الغرب في نهضته من المنهج الاستكشافي والتجريبي، وهو في ذلك عالة على المسلمين كما يقول غوستاف لوبون وأكده الدكتور علي سامي النشار في كتابه “مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي”؛ فالغرب انطلق من هذا المنهج المستفاد من المسلمين، كما تبين من تجربة الشافعي الإمام، وقبله فقه الأحناف المؤسس على الفروع، وعلى وزان ذلك وضعت علوم المسلمين حتى نضجت وتقعدت.
فالغرب الذي أسس حضارته في مرحلة عصر الأنوار على الأنسنة والعقلنة كما زعموا، هو الغرب نفسه الذي انقلب على عقلانيته، وثار على إنسانيته، وتدحرج إلى درك غرائزه وأنانيته، وقد انكشف القناع وظهر الزيف، والآن لا مناص من العودة إلى السقوف العلمية والقيمية، فبعد جائحة كورونا، وبعد إفلاس التوجه الليبرالي الجديد المتوحش الذي ضحى بالإنسان من أجل المادة.
وعليه، فإن الذين يقولون: إن هذه السقوف أدت إلى ضعف الفعالية والمردودية والإنتاجية، فهم لا يدركون حقا ما قدمته علوم الإنسان الإسلامية للبشرية من تطور وتقدم في كافة الميادين، والبشرية اليوم مدعوة للعودة إلى العلوم المنطلقة من بيئة الوحي، ومن بيئة القيم والأخلاق، مصداقا لقوله تعال ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾[ العلق: 1-5].
- ماهي أساليب قراءة المظان المؤسسة في الحقول المعرفية لبناء شخصية الباحث، وترشيد الممارسة البيداغوجية؟
صحيح، هناك حاجة ماسة لترشيد الممارسة البيداغوجية، وذلك بناء على تشخيص واقع التدريس في معاهد العلوم الشرعية، وفي كليات الشريعة، وشعب الدراسات الإسلامية..
لا شك أن الحاجة أصبحت ماسة لإعادة النظر في كثير من الطرق المسلوكة المعتادة في التدريس؛ من أجل النهوض بالعلوم الشرعية، وجعلها تحقق مقاصدها وأهدافها التي من المفروض أن تكون متجهة لتخريج الملكة الفقهية، وإكساب الطلاب صفة العالمية للقيام بواجب النذارة، وتبليغ الرسالة.
ومن هنا – في تقديري- لا بد من إعادة النظر في اختيار بعض الكتب في التدريس؛ وذلك لأهمية التأليف في جودة التدريس، فقد علم أن الكتاب الجيد يسهم إلى حد كبير في جودة التدريس، والعكس بالعكس طبعا؛ لأن التآليف الحسنة نصف الطريق أو أكثر، فهي تعوض ضعف الكفاءة لدى المدرسين.. التأليف الحسن السهل البسيط المبني على إشكالات حقيقية من شأنه أن يبلغنا المقصود في أقرب الأوقات وبأقل كلفة، فنحقق به أفضل مردود بأقل مجهود. والتأليف عامة من طرائق التعليم ووسائله؛ ولذلك فأيها كان أيسر وأجود وجب أن نتوخاه ونسلكه؛ لأنه يبلغنا كما قلت المقصود …
ومن هنا أعتقد أنه بات من الضروري توخي الكتب العلمية التي ألفت أصالة بغرض التدريس، فما دام أن الاختيار عندنا هو اختيار التربية والتعليم، والهدف تأهيل قدرات المتعلمين، والنهوض بكفاياتهم، ومهاراتهم في العلوم الشرعية؛ فينبغي أن نعتمد الكتب التي أسست لذلك قصدا.
ومعنى ذلك أنه ينبغي تجنب الكتب التي ألفت لأغراض أخرى، كغرض الإفتاء، أو القضاء، أو ألفت بدافع الحجاج والمناظرة، نصرة للمذهب وردا على الخصوم وغيرها، فهذه الكتب ألفت لمقاصد غير تعليمية وإن كنا قد نستفيد منها في مجالاتها المخصوصة؛ فحينما نعتمدها في التدريس والتعليم ونترك الأصيلة العريقة في الصناعة التدريسية، فأعتقد أننا نجانب المقصود من التربية والتعليم، ونكون بذلك نعلم المتعلمين بوسائل ووسائط لم يضعها أهلها من أجل التربية والتعليم، وإنما وضعوها لأغراض أخرى، فالكتاب الذي ألف للإفتاء أو القضاء أو للرد والحجاج والمناظرة.. فهو لا يصلح إلى حد كبير للتربية والتعليم، ويصلح طبعا في بابه ومقصوده.
كتب المختصرات كما قال الكثير من العلماء وعلى رأسهم المجددان العالمان: الشيخ الطاهر ابن عاشور، والإمام محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي- صاحب المجلس التحسيني لإصلاح مناهج التدريس بالقرويين رحمهما الله رحمة واسعة- لا تخرج الملكة الفقهية في آخر المطاف؛ لأنها ألفت لمقصدين اثنين:
الأول: هو مقصد التقليل من العبارات والألفاظ لتسهيل الحفظ. والثاني: جعلها على نحو لتكتنز أكبر قدر ممكن من المسائل والفروع، فهي كتب جماعة للفروع، ثم هي كتب مختزلة وقليلة العبارة حتى يسهل حفظها على الطلبة، وهي كذلك ألفت في سياقات معينة، فلو رجعنا إلى سياق اعتماد منهجية الاختصار، فإننا نجدها قد ظهرت في وقت كثرت فيه العلوم وتشعبت وتفرعت، في حين ضعفت فيه ملكة الحفظ ولانت عزائم الطلاب، وأصبح الفقيه لا يوثق به حتى يكون مشاركا، صاحب يد في جميع العلوم والفنون، والعمر لا يسعف، وقد يقضي عمره ولا يدرك بغيته؛ فسيق الناس إلى الاختصار اضطرارا بسبب هذه الإكراهات التي سلم منها المتقدمون.
فهذه المختصرات أضحت في حاجة إلى الشروحات الكثيرة لفهمها وتبين عباراتها؛ فالطالب يقضي عمره كله في هذه الشروحات والحواشي، ولا يأتي على فهمها وفك لغزها؛ فكأنها أدت في آخر المطاف إلى نقيض مقصودها.. فجمع الأسفار في سفر واحد، وتقريب المسافة، وتخفيف المشاق، وتكثير العلم، وتقليل الزمن، بل انعكس الأمر، وكثرت المشاق في فتح الإغلاق، وضاع الزمن من غير ثمن، كما أكد الشيخ الحجوي الثعالبي.
ومثاله: كتاب مختصر خليل رحمه الله، فهو في وضعه الذي عليه قطع أشواطا من الاختصارات ففي البداية نجد ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله ألف “اختصار المدونة والمختلطة”، ثم اختصره البراذعي في التهذيب، ثم اختصر التهذيب ابن الحاجب، ثم اختصر خليل رحمه الله مختصر ابن الحاجب؛ فمختصر خليل هو مختصر مختصر المختصر، أي ثلاثة اختصارات لكتاب واحد، ثم جاء ابن عرفة وفاق بمختصره جميع المختصرات؛ ولذلك من أجل فهم مختصر خليل احتجنا كما قال الثعالبي -رحمه الله- إلى شروحات كثيرة جدا، وحواشي كثيرة كذلك.
فالمدونة مثلا فيها نحو ثلاثة أسفار ضخام، وهي مفهومة بنفسها لا تحتاج لشرح في غالب مواضعها؛ لكن خليل لا يمكن أن نفهمه ونثق بما فهمنا منه إلا بستة أسفار للخرشي، وثمانية للزرقاني، وثمانية للرهوني؛ فتأتي الحصيلة من الشروح اثنين وعشرين سفرا مع طول الزمن المتضاعف في الدروس والمطالعة في تفهم العبارات المغلقة؛ فلم يحصل المقصود من الاختصار، بل انعكس الأمر.. والطامة الكبرى عدم الوثوق بما فهمناه ويقضي الطالب عمره كله في هذه الشروحات ولا يخرج منها على ما أكده الحجوي الثعالبي رحمه الله.
فهذا مشكل منهجي في الحقيقة؛ لأن هذه الاختصارات لم تراع المقاصد التي ألفت من أجلها العلوم، وإنما ألفت من أجل عوارض استجدت في الأمة، كضعف القدرة على الحفظ، وظهور بدعة الإكثار من العلوم والفنون، وأن الناس لا تثق إلا بمن اتصف بالموسوعية والمشاركة..
وكذلك إذا نظرنا في كتاب “جمع الجوامع” لابن السبكي رحمه الله الذي وصل اختصاره مداه إلى درجة أن صاحبه ادعى استحالة اختصاره، لتمكن فكرة الاختصار منه. وهذا الكتاب الآن يدرس للطلبة في المعاهد وربما في بعض الكليات، فهذا الكتاب على شهرته وذيوعه، لا يمكنه أن يقوم بمهمة تخريج الملكة العلمية عموما؛ إذ المدار ههنا هو هل هذا الكتاب من شأنه أن يخرج الملكة العلمية أم لا؟ وهل هذا الاختصار الذي يستحيل اختصاره مقصد تعليمي معتبر؟ وهل هكذا صنع المتقدمون في تعليم الناشئة؟ فالصناعة الأصولية انبثقت من حل إشكالات منهجية ومعرفية معلومة كمشكلة البيان، والاستدلال، ومشكلة الاستنباط، والترجيح، والتنزيل وغيرها.. وتظل هي هي مقاصد هذا العلم، وأعز ما يطلب فيه، ولابد من توخي أحسن الوسائل لهذه المقاصد؛ إذ أن (أحسن الوسائل إلى أحسن المقاصد هي أحسن الوسائل) كما في القاعدة المقررة، والكلية المحررة لسلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى.
والأمر الثاني: لا بد من تجديد النظر في عملية التدريس بالمظان التعليمية، ثم مراعاة التدرج المعرفي، ولا بد من ترك الكتب التي حذفت منها الأدلة، لا بد إذن من تجديد النظر في عملية التدريس بالمظان، نحتاج إلى تجديد، وذلك أولا باعتماد المظان العلمية، والتواليف السهلة للمبتدئين والمتوسطين، ومراعاة التدرج العلمي وترك المختصرات..
ينبغي الاشتغال بكتب المتقدمين كما أشرنا في السؤال السابق خاصة، وبكتب الأحكام التي اهتمت بشرح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم على أصول المذاهب، هذه كتب قصدت تخريج الملكة، فهي تجعل الطالب على محك الاجتهاد والنظر، ينظر في النص من القرآن والسنة، ثم يبصره بمجهر الأصول الشرعية؛ فيخرج الأحكام الشرعية والفروع الفقهية في ضوء ذلك، فعين الطالب على النص من جهة، وعينه على أدوات الفهم والاستنباط والتخريج من جهة أخرى، كأننا ندرب بهذا قدرات الطالب على كيفية الفهم والاستنباط والترجيح وتحقيق المناط والتنزيل.
فلا بد إذن من الاهتمام بمثل هذه الكتب التي اهتمت بشرح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأحاديث الأحكام، كما صنع ابن عبد البر في الاستذكار، وابن العربي في القبس، والباجي في المنتقى وغيرهم رحمهم الله تعالى. وينبغي أن نجتهد في تأليف كتب للتعليم، كتب تراعي المقاصد التعليمية التعلمية، إنتاج كتب جديدة غايتها تخريج الملكة الفقهية.
الأمر الآخر لا مناص من احترام التدرج المعرفي، ومراعاة درجة تقبل الأفكار بناء على المستوى العمري للمتعلمين؛ ولذلك وجدنا التعليم العتيق الأصيل قسم الأطوار التعليمية إلى ثلاثة: الطور الابتدائي، ثم التوسط، فالنهائي، وجعلوا لكل طور مقاصد وأهدافا تدريسية، ولكن للأسف نجد في عهود التخلف أنه وقع نوع من الاضطراب، ونوع من عدم احترام سلم التدرج والترقي شيئا فشيئا إلى أن يتخرج الطالب على عين النظار الخبراء في الترقية والتأهيل.
فالطور الابتدائي: هو للحفظ أساسا، والتأدب بالشعائر الإسلامية والأخلاق الدينية، فرهان هذه المحطة أن يحفظ الطالب القرآن الكريم، والسنة، والمتون العلمية المختارة بعناية فائقة، ويحفظ كل ما يعد للحفظ في هذه المرحلة، والمقصود من ذلك أن نغني معجم الطالب بهذه المحفوظات، فهو حينما يحفظ إنما يخزن المصطلحات القرآنية، والعلمية، ويحفظ القواعد والأنساق، وهذه الأمور سيحتاجها في آخر المطاف، سيحتاج لاستحضارها؛ ولذلك سماها ابن عاشور بمرحلة الاستحضار، كأننا نحضر الطالب في الأقسام التحضيرية لما بعدها، وهو في هذه المرحلة يحفظ، وعقول الأطفال بالحفظ أسعد.
ولأن هذا الحفظ هو الذي سيجري على لسانه في المستقبل، وهذه الكلمات والقواعد والأنساق هي التي سيتلفظ بها، ويعملها عندما يتخرج، ولا ننسى منفعة تذكر واستدعاء كل ما يحتاجه الطالب في كل وقت وحين، فهذا الطالب معه آلة حافظة تجعله كلما احتاج إلى أمر وقع بين يديه؛ ولذلك نجد الفرق شاسعا بين الذين يحفظون وبين الذين لا يحفظون، شتان بينهما، فمن يحفظ حجة على من لا يحفظ؛ ولذلك ينبغي أن نهتم بالحفظ وننوه به، ونعطيه قيمته، و ألا نتبع الأصوات النشاز التي تدعوا إلى التقليل من شأن الحفظ، فهذه الأمة ميزها الله بهذه الخاصية، ولكن ينبغي أن يكون الحفظ بهذا المعنى وبهذا القصد، وهو أننا نحفظ هذه الأشياء لما بعدها. ولا ينبغي أن نكون كأولئك الذين أوقفوا أعمارهم على تكرار المحفوظ خشية ضياعه ونسيانه؛ حتى أنهم حرموا أنفسهم من مطالعة كتب قيمة، ودراسة علوم نافعة؛ فإذا بغيرهم انطلق في التأليف والإسهام في تطوير المعرفة، ومعالجة قضايا العصر، في حين بقي الذين يحمون محفوظاتهم من المتون والمختصرات لا يبرحون أماكنهم، وعنايتهم بذلك منعتهم من التقدم والرقي والتألق!
ثم تأتي المرحلة الثانية: وهي طور التوسط، ففي طور التوسط نعود إلى ما حفظناه، وحضرناه في الطور الأول، فنعود عليه بالدراسة والتحليل، نعود على تلك المصطلحات والقواعد والمناهج، بالتعرف على معاني هذه الأمور ومقاصدها، هذه هي مرحلة التعرف على المحفوظ، بتحرير القول في المحفوظات، ومعرفة الأسرار والغايات والوشائج والعلاقات والمناسبات التي تجمع بين هذه القضايا.
ويمكن تسميتها باختصار مرحلة الدراسة والتحليل، وفرق كبير بين من يتوجه إلى القاعدة من أجل فهمها وفقه أسرارها، وبين من يتوجه إلى العبارة ليحفظها حفظا، ومن يحفظها ليستوعبها ويوظفها في آخر المطاف. والمشكلة أننا نحفظ عبارات السابقين ثم نرددها ونلقنها للطلاب فيما بعد، وهكذا ندور في المحفوظات فقط، وحتى أولئك الذين يدرسون بعض الكتب تجدهم يدرسونها؛ لأنهم يحفظون عباراتها فقط، فرق بين الارتجال وبين الحفظ، فالذي يرتجل هو الذي يأتي باصطلاحات من عنده، يعبر بها عن مقاصده ومعانيه، وبين ذلك الذي يردد ما يحفظه من متون الكتب وبطون الكتب، أنت إذا رأيته في الصورة تقول إنه يضبط، وما هو إلا يردد الذي يحفظه، على ما أكده الشيخ ابن عاشور في نقده لم آل إليه الوضع في جامع القيروان حينئذ، وهو في ذلك ينبه إلى ما يقع في غيره كلما كانت العلل جامعة.
ثم يأتي الطور الأخير وهو الطور العالي النهائي، وهو طور التخرج، ههنا ينبغي أن نرى ملكة بدأت تؤتي أكلها بإذن ربها، ونرى الطالب قد انطلق، وأصبحت لديه القدرة على الاستنباط، بأن يعود إلى النص لاستخراج الحكم الشرعي بما عنده من القواعد والمصطلحات والأنساق التي حفظها في الطور الابتدائي، ودرسها وفهمها في طور التوسط.. فتكون للطالب مهارة الاستنباط والترجيح والمناظرة والتنزيل، مع صقل ذلك كله بالتداريب الميدانية، بأن يدرس الكتب التي تلقاها، وتكون له الفرصة للمحاضرة، وفرصة للمشاركة في الندوات، وإعطاء الرأي في القضايا ويكتب ويناظر ويتابع.. حتى تتخرج الملكة على الوجه المطلوب..
هذه أعتقد جملة من النقاط والآراء والمقترحات، أرى بأنها -إن شاء الله تعالى- تعيننا في قضية التدريس بالمظان، وتجعلنا نستطيع أن نرشد الأداء والممارسة البيداغوجية في هذا الاتجاه.
وإني، إذ أقدم هذه النظرات المتواضعة، إنما قصدي منها إثارة قضية تجديد الدرس الشرعي في ضوء تشخيص بسيط لواقعه كما انتهى به الأمر في عهود التخلف العام الذي أصاب الأمة، وكان سببا في خضوعها لسلطة أعدائها. ثم التنبيه إلى ضرورة اقتراح البديل البيداغوجي الفعال المأمول. وإني إن لم أجب على الأسئلة المثارة فحسبي أني قد طرقت بعض الإشكالات ليخوض فيها أهل التخصص والخبرة من السادة الباحثين المتمرسين بالمناهج، والسادة العلماء خريجي التعليم الأصيل أهل الثغر والدار.
ومعلوم أن النهوض بالأمة لا يكون إلا من خلال إصلاح مناهج التربية والتعليم، ولا مناص أن يتم ذلك على يد من يحملون هم هذا التعليم، وخبروا خباياه، استئنافا لمشروع رواد الإصلاح المجددين الذين رسموا بدايات هذا المسار كالشيخ الطاهر ابن عاشور بتونس، والشيخ الثعالبي في المغرب وغيرهما.
والحمد لله رب العالمين، وصلى اللهم وسلم على معلم الناس الخير، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.