يستمد الحديث عن موضوع الأسرة أهميته وراهنيته بالنظر إلى الأدوار المحورية والطلائعية التي تضطلع بها هذه المؤسسة، وكذا التحديات التي تواجهها، سواء من قبل وسائل الإعلام أو النماذج المعرفية التي أعلت من شأن الاتجاهات الاستهلاكية.
ونشاهد اليوم تناسبا طرديا بين انحسار دور الأسرة وتنامي الظواهر السلبية، مما يهدد أمن وسلامة المجتمع.
لمناقشة هذا الموضوع يستضيف مركز معارف أحد الأعلام المختصين في موضوع الأسرة تدريسا وتأطيرا وإشرافا، وهو فضيلة الدكتور عبد الرحمان العمراني أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش.
له العديد من المؤلفات والمشاركات العلمية في الموضوع منها:
1 ـ مشروع الحركة النسوية اليسارية بالمغرب: منطلقاته وأهدافه ووسائله”؛ كتاب مجلة “البيان” رقم 75؛ ط1 سنة 1427هـ ـ 2006م؛ دار الكتب المصرية.
2ـ ـ كتاب “الاجتهاد الفقهي المعاصر في أحكام الأسرة”، الطبعة الأولى، طبع مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث؛ دبي؛ الإمارات العربية المتحدة، سنة 2009.
3 ـ الحقوق المالية للزوجة، الطبعة الأولى، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، سنة 2014م.
4 ـ دليل المقاصد التربوية للمرحلة الجنينية، إعداد قراءات لبحوث ودراسات الشباب بالتعاون مع مركز المقاصد للدراسات والبحوث بجدة، الطبعة الثانية، 2017م.
بداية نشكركم فضيلة الأستاذ الكريم على تلبية الدعوة للتفاعل مع قراء معارف.
س1: تعيش الأسرة المسلمة اليوم تحديات مختلفة المشارب ومتنوعة التأثيرات، هل لكم أن تطلعونا على أخطرها وبيان السبل الرشيدة في التعامل معها؟
بسم الله الرحمن الرحيم
أود في البداية أن أتوجه إليكم بالشكر من أجل الاهتمام بمؤسسة الأسرة التي هي نواة المجتمع، ومقياس قوته أو ضعفه، وتماسُكِ علاقات أفراده أو تفككِها، ودرجةِ توادهم وتراحمهم فيما بينهم أو تباغضِهم والتشديد على بعضهم..
وأما عن هذا السؤال فهو سؤال مهم ومتجدد، ويصلح أن يكون موضوع بحث أكاديمي، ولا تسعه إجابة مختصرة، وحسبي أن أشير للجواب عنه ببعض الإشارات؛ ذلك أن موضوع تحديات الأسرة يحتاج إلى دراسة اجتماعية متتبِعة من أجل الوقوف على حقيقتها، وتصنيف نتائجها وترتيبها من حيث حجمها، وكذا معرفة أسبابها ..
ويزيد من عسر الإجابة الدقيقة عنه أن هذه التحديات تتنوع بتنوع أحوال الأسر اجتماعيا واقتصاديا وديمغرافيا وكذا معرفيا (…)؛ فتحديات الأسرة التي تصنف ضمن الطبقة المتوسطة ليست هي تحديات الأسرة التي تصنف ضمن الطبقة الفقيرة، وتحديات أسرة فقيرة تملك مسكنا ليست هي تحديات أخرى تستأجر بيتا قد يسع أفرادها وقد لا يسعهم .. وتقدر على دفع لوازم كرائه أو لا تقدر.. وأيضا فليست تحديات أسرة فقيرة متعددة الأفراد ولا معيل لها إلا الأب، هي تحديات أخرى متعددة الأفراد ويتعاونون في توفير متطلباتها. وتحديات أسرة في البادية تختلف عن تحديات أسرة في المدينة (…) هذا إذا وقفنا فقط عند تحدي الأسرة في جانبه المادي (..) ويتسع الكلام أكثر عند الحديث عن تحديات تربية أبنائها الذين تتعدد وسائل توجيههم المتشاكسة في غالبها.
ويمكن على الإجمال تقسيم التحديات البارزة إلى محورين كبيرين؛ أحدهما تحدي مرحلة ما قبل بناء الأسرة، والثاني تحدي استقرار الأسرة واستمرار بنائها.
أما التحدي الأول وهو تحدي بنائها، فإن متطلبات الحياة وصعوبة توفيرها، تقف مانعا دون تمكين الشباب من اقتحام باب الزواج، وحسب الإحصاء العام للسكان والسكنى بالمغرب الذي تم سنة 2004 فإن نسبة العزوبة ارتفعت في المدينة والبادية معا، وقد مضى على هذا الإحصاء خمس عشرة سنة .. وأما اليوم فيشير تقرير السكان والتنمية لسنة 2019 الصادر عن المندوبية السامية للتخطيط أن ما يقرب من 35% من المغربيات هن من فئة العازبات، وحسب تقارير أخرى فإن متوسط العمر للزواج بلغ 31.3 سنة بالنسبة للرجال و25.7 بالنسبة للنساء.
وهذا يعزى بنسبة كبيرة إلى ارتفاع نسبة البطالة لدى الشباب، إذ جاء في مذكرة إخبارية للمندوبية السامية للتخطيط حول وضعية الشغل ببلادنا أن “معدل بطالة الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و 24 هو 26% في مقابل 8.2% لدى الشباب الذين يفوق سنهم 25 سنة…”، وليس هذا إلا سببا واحدا من أسباب العنوسة وهو سبب قهري، يجد البعض طريقا للتخفيف من حدته بالالتجاء إلى ربط علاقات للاستمتاع الجنسي خارج إطار الزواج الشرعي مع وعد بزواج أو بدونه.. وغير خاف أن هذه العلاقة الغرامية خارج إطار الزواج هي السبب لظهور مواليد ينسبون لأمهات عازبات، ويشارك في الاهتمام بالموضوع بعض جمعيات المجتمع المدني عمليا، وبعض الدراسات الجامعية معرفيا .. وتبقى أسباب أخرى ذاتية واجتماعية.
وأما التحدي الثاني وهو تحدي استقرار الأسرة، فلا شك أن للعامل الأول المانع من بناء الأسرة ـــــــــ وليس هو الوحيد في ذلك، ولكنه العامل الأكبر ــــــــ أثرا في استقرار الأسرة واستمرارها، بحيث نشهد أن من أسباب الفرقة عدم القدرة على الاستجابة لمتطلبات الحياة الأسرية المادية المتجددة. واستحضارا لتأثير هذا العامل يأتي العامل الذاتي للأزواج ومدى تهيئ غالِبِهم نفسيا واستعدادهم معرفيا للانتقال بنَفَس إيجابي مِلؤُه الصبر والصمود للانتقال لحياة زوجية جديدة بعيدا عن أي تأثيرات سلبية أسرية أو عرفية. ويظهر أن أمر التأهيل للزواج من أجل حسن الانطلاق لبنائه عن وعي تما بأهميته ومتطلباته أصبح اليوم ملحا أكثر من أي وقت مضى.
ويرتبط بهذا العامل من حيث الأثر أن مدونة الأسرة وسعت حق المرأة في طلب التطليق بسبب الشقاق ــــــــ وهو الفرقة التي تقضي بها المحكمة استجابة لطلب أحد الزوجين بسبب الشقاق ـــــــ وهو الإجراء الغالب اعتماده للفرقة الزوجية ليسر مسطرته، بحيث لا يكلف صاحبه إثباتا .. ومن نتائجه أنه ارتفع عدد حالات التطليق للشقاق من 4865 حالة سنة 2005 إلى 39836 حالة سنة 2013، ولعل العدد يكون قد ارتفع بعد هذه السنة إلى يومنا هذا لسهولته وخفة تبعاته، وإن الإحصائيات الرسمية تفيد أنه يشكل 82.97% من مجموع حالات التطليق القضائي. وبذلك خرج عن القصد من تشريعه وهو التمكين من الصلح.
ولا يخفى أنه مهما كانت الأسباب الداعية إلى الفرقة؛ فإن آثارها كبيرة على الأطفال والمجتمع معا، خاصة وأنه أحد الأسباب الكبرى لإهمال الأسرة الذي تدل الإحصائيات الرسمية على خطورته وتزايده.
وبالنسبة للحلول الممكن اقتراحها التي وردت في السؤال؛ فباختصار فإن ما يرجع إلى التحدي الأول المادي، فطريق حله هو الاهتمام بالجانب المادي للمواطن من ذكر وأنثى، وتأمين حياة كريمة تمكنه من إنشاء أسرة بِيُسر، وهذه مسؤولية حكومية بالأساس الأول، والمنطلق في الاهتمام بها هو الجواب عن مدى تقدير فئة الشباب وأهميتهم في برامج تظهر على أرض الواقع.
وأما التحدي الثاني المشار إليه؛ وهو استقرار الأسرة ودرء سبل اضطرابها، فإن معالجته تأتي متوازنة مع معالجة التحدي الأول، على اعتبار أن حماية الأسرة اقتصاديا طريق لحماية كرامة شبابها، وتكون هذه المعالجة بالتأهيل للزواج في سبيل بناء أسرة المودة والرحمة، ومجتمع التماسك والتراحم، وقد كان هذا الأمر يحصل في السابق بين أحضان الأبوين، لكن الأسرة يكاد ينحصر دورها في المساعدة على الاختيار متى تيسر لها ذلك، والمشاركة في إقامة حفل الزواج، لذا احتاج الأمر إلى تأطير أسري ومجتمعي للشباب، يُساعد في إنجاحه برامج مؤسسات حكومية وجمعيات مختصة من أجل التأهيل للزواج والمرافقة في بعض سنواته الأولى، وذلك من خلال المقترحات الآتية:
أولا _ تنظيم دورات توعية بحقيقة الزواج معرفيا، وأهميته دينيا وأخلاقيا ونفسيا واجتماعيا بالمساعدة على الإجابة عن الأسئلة التالية:
1 ـ لماذا أتزوج؟
ـ هل أتزوج استجابة لرأي الوالدين أو أحدهما؟
ـ هل أتزوج تقليدا للناس الذين يتزوجون في هذه السن؟
ـ هل أتزوج لرغبة ذاتية في تكوين أسرة؟
ـ هل أتزوج استجابة لشهوة جنسية؟
ـ هل أتزوج من أجل المال؟
ـ هل أتزوج لحاجة الأسرة إلى مساعدة في شؤون البيت؟
ـ هل أتزوج تعبدا أم عادة؟
ـ هل أتزوج لإثبات رجولتي؟
2 ـ ماذا تمثل لك الزوجة؟
ـ هل هي خادمة في البيت؟
ـ هل هي مساعدة بمالها لبناء الأسرة؟
ـ هل هي شريك أساس في بناء الأسرة؟
3 ـ ماذا يمثل الزوج بالنسبة إليك؟
ـ هل يمثل الزوج حصانة للمرأة؟
ـ هل هو مُؤَمِّن نفقتها؟
ـ هل لا يمثل شيئا؟
هذه بعض الأسئلة التي يمكن الاشتغال عليها لفائدة الشباب المقبلين على الزواج، وإن أي جواب عنها لابد أن ينعكس أثره على مصير الأسرة في المستقبل. ولذلك كانت الحاجة ماسة لتقديم معلومات وتصحيح أفكار وتصورات عن الزواج لدى الرجل والمرأة معا.
4 ـ متى أتزوج؟
لا شك أن أمر زواج الولد ذكرا كان أو أنثى موضوع يضعه الوالدان في جدول تفكيرهما ونقاشهما عند بلوغ الأبناء سنا معينة، وكذلك الأبناء يحضر عندهم فيودون السماع عنه، ويناقشونه مع بعضهم أو يسألون عنه … ويدور أمر زواج الشباب اليوم بين متسرع إلى تحقيقه ومتخوف منه. وهذا ما يسعى برنامج التوعية إلى معالجته باعتماد وسيلتين في التوعية:
إحداهما التوعية بمؤشر الشروع في التهيئة للزواج:
يبدأ الزواج فكرة، ومع الوقت يقيس الفرد مدى اختراق الفكرة لكيانه، فإذا صارت فكرة الزواج قضيته الأولى التي تأخذ كل وقته، وتسيطر عليه وتهيمن على تفكيره بحيث يتركها فيجد نفسه عاد إليها، فهذا مؤشر على أنها تقود إلى مرحلة إخراجها إلى الوجود، ومن القوة إلى الفعل، وتحتاج أن تحولها من فكرة إلى قضية ثم إلى مشروع يتطلب إنجازه خطة عمل دقيقة ومرنة. وإن أمر زواج الشباب يدور بين استعجال أو تأخر.
والثانية: التوعية باستحضار الواقعية في الزواج:
وهذا يهم الذكر والأنثى معا، بأن يتم استحضار الواقعية؛ فلا يتخيل الرجل أن يتزوج امرأة معصومة من الخطإ، أو تجد المرأة الرجل الكامل .. وأيضا ليست الحياة الزوجية شرا لا بد منه، ولكن خيرا كله إذا تحقق تعاون الزوجين على تجاوز مخلفاتها، ومن طلب زوجا بلا عيب صار بلا زوج.
5ـ ـ بمن أتزوج أو من له حق اختيار الزوج أو الزوجة؟
يعد الاختيار حقا ينبغي أن يُحفظ لصاحبه دون أن يعني ذلك عدم مشاركة واستشارة الأسرة في الأمر، فالاستشارة مهمة لكن لا ينبغي أن تتحول إلى استقالة الشخص المعني بالزواج، وتسليمه لاختيار والديه من دون رغبة منه. ولا شك أن اختيار الشخص المناسب للرفقة في السفر أمر مهم، فكيف إذا كانت هذه الرفقة طويلة الأمد؟ ينبغي تمكين المعني بالأمر ذكرا وأنثى من التعبير عن رأيه ومن اختيار رفيق عمره، ومساعدته في ذلك دون إكراهه على شيء، وإلا سيظل هذا السؤال يؤرقه في حال فشل الزواج بالقول: كيف اخترت شخصا غير مناسب؟ لماذا لم آخذ وقتا كافيا وتعجلت في الارتباط به؟
ثانيا – تنظيم دورات تصحيح المفاهيم ومعالجة الشبهات في قضايا الأسرة:
لا شك أن للتربية الأسرية والثقافة الاجتماعية والعادات والأعراف أثرها على تصورات أفراد المجتمع، وفي ترسيخ الأفكار لديهم حول مجموعة مصطلحات ومفاهيم تهم الأسرة، وهي قد تكون صحيحة فتكون عاملا لحسن بناء الأسرة واستقراها واستمرارها، أو مغلوطة تحتاج إلى تصحيح، وإن من أكثر ما يهدد الأسرة هو تلك الأفكار والمفاهيم الخاطئة لمصطلحات متداولة اجتماعيا أو وردت في مدونة الأسرة وأسيء فهمها، وتضع مؤسسات الخدمة الأسرية ضمن جدول أعمالها محورا خاصا بها للتصحيح في إطار برامجها التي تعقدها لفائدة المقبلين على الزواج، ومنها مثلا مفهوم الحب والخِطبة والطلاق والمساواة والحرية.
ثالثا – إنجاز دورات للتدريب على الحوار:
وتختص هذه الدورات بتعليم وتنمية مهارة الحوار لدى المقبلين على الزواج، والمتحدثين حديثا من خلال عقد لقاءات يتم فيها التركيز على ما يأتي:
- التنبيه إلى التعرف على أهمية الحوار الأسري وممارسته في تحقيق الألفة والدفء العائلي ومعالجة الاختلافات الأسرية.
- التوجيه إلى تبادل الأفكار عن الحياة المشتركة، وإقامة علاقات حوارية داخل الأسرة.
- الإرشاد إلى طرق وأساليب الحوار الهادف وآدابه، وإلى أهمية توفير الأجواء المناسبة لممارسته.
- بيان خطورة رفض الحوار، والتشكيك في السلوك، واللجوء إلى الاستبداد بالرأي وإقصاء الرأي الآخر، وإساءة المعاملة.
- التنبيه إلى خطورة التواصل السلبي وضعف الحوار والطلاق العاطفي على استقرار الحياة الزوجية.
- تلقين فن إدارة الأسرة وكيفية تدبير الاختلاف واحتوائه، فلا تنشأ عقد ولا أمراض نفسية في البيت، ولا انتكاسة للزوجين مع بداية الزواج.
- تركيز الاهتمام بأسباب الجمع والألفة وبيان مخاطر الفرقة.
ويبدو أن لهذه البرامج أهميتها في توعية الشباب نظريا بمبادئ الزواج وبناء الأسرة والعلاقة الأسرية، وتأهيلهم للزواج تحت إشراف مختصين. وقد صار اليوم واضحا أن من شروط نجاح أي شركة أنْ يتولى تسييرها من له الكفاءة والأهلية في التسيير، وتَشترط فيمن يريد العمل بها أن يكون أهلا في تخصصه، ويخضع لدورات تدريبية وتأهيلية تنظمها لمواكبته تطور الشركة وحاجة السوق، وتصرف على ذلك ميزانية ضخمة، وكل ذلك من أجل نجاحها وضمان تألقها واستمرارها. ويُعد مشروع بناء الأسرة من أخطر المشاريع التي يقيمها المرء، لتعلقه بحفظ النسل وبناء المجتمع، عبر ارتباط رجل وامرأة في علاقة الأصلُ فيها أن تبنى على وجه البقاء والدوام، لكنه المشروع الوحيد الذي يقيمه الناس كما اتفق دون تأهيل معرفي أو نفسي أو اجتماعي، ويُكتفى في إنشائه بتوفر الباءة المادية فينجح ويثمر بنسبة كبيرة أو يفشل.
ولقد كانت الأسر من قبل تُبنى على هذه الصورة، ويحصل نجاحها لعوامل عدة لم تعد متوفرة في غالبها اليوم، منها احتضان ومرافقة الأبوين لها، وتعاونهما لتحصينها وتأمين استمرارها، لكن تغيرت ظروف الاجتماع وأنماط العيش اليوم، وصارت الرغبة في الاستقلال عن سلطة الأبوين ووصايتهما شرطا للزواج، وهو ما يحتم تأهيل وتهييء المقبلين عليه للحياة الجديدة وتبعاتها، وفق برنامج تأهيلي يؤطر فقراته مجموعة أشخاص ذوي كفاءات علمية عالية شرعية وقانونية، واختصاصيون في علم الاجتماع الأسري وعلم النفس من أجل المعرفة وتصحيح الأفكار وبناء التصورات الصحيحة عن العلاقة الزوجية والتربية الأسرية والتوجيه نحو أمثل الأساليب في التعامل والاجتماع، والاستجابة للحقوق والواجبات، وتسلم شهادة خضوع لهذا التكوين لا تختلف عن شهادة رخصة السياقة وأداء مناسك الحج. ويقترح أن تكون هذه الوثيقة من بين الوثائق الإدارية لتوثيق عقد الزواج، بحيث لا يتم الإذن بتوثيقه إلا بإثباتها، و ربما يظهر هذا عسيرا إنجازه، لكن هناك تجارب في بعض البلاد الإسلامية سابقة في العمل وفقه، وكل مشروع إنما ينجح بتنزيله بالتدرج.
ومن هنا نخلص إلى القول إن ما تم بيانه من تحديات، وما تم اقتراحه لمعالجتها، أن هذه المقترحات ينبغي أن تسير في خط متواز، ولا يتحقق الاستقرار الأسري بالاهتمام بواحد منها دون غيره.
س2: يقر كثير من الباحثين في سياق بيان أهمية الفكرة الدينية في البناء الحضاري بأن أصل الأسرة له جذور دينية، ولحد الآن لم يستطع الفكر الإنساني إيجاد البديل عنها، ما هي برأيكم بعض الأدلة والشواهد على هذا الرأي؟
لعل المقصود هو الأدلة والشواهد على عجز الفكر الإنساني عن إيجاد بديل عن كون أصل الأسرة له جذور دينية، وهذا لا يحتاج إلى استدلال، فالمثبِت هو المطالب بالاستدلال، وأما من ينفي فليس من المعقول مطالبته بدليل على ما ينفيه.
وإذا دققنا في السؤال حول الجذور الدينية نجد أنه يكتنفه الغموض أيضا، وأيا ما كان الأمر فالذي يمكن قوله في ارتباط الجانب الديني بإنشاء الأسرة؛ فإن الذي أخبرنا أن آدم عليه السلام أبا البشرية كانت له زوجة هو القرآن الكريم، الذي حين نقرؤه نجده فصل تفصيلا كبيرا في صورة بنائها وطريقة التعامل بين أفرادها وبعض ما لكل واحد منهم نحو الآخر.
س3: إذا أقررنا بالأصل الديني للأسرة، هل يستقيم من الناحية المنهجية جعل القوانين الوضعية محل الأحكام الشرعية في تدبير شؤونها؟
يظهر أن القوانين الوضعية بصفة عامة منها ما يوافق الأحكام الشرعية ومنها ما يخالفها، فما كان يتوافق معها فمقبول شرعا وعقلا، وما كان يخالفها ويعارضها فلا يقبل، وبالنسبة للأسرة فإن القانون الذي ينظمها ببلادنا مثلا هو مدونة الأسرة، وليس فيها ما يخالف الأحكام الشرعية، فهي مثلا تنص على أن الأسرة تتأسس بين رجل وامرأة تحل شرعا للزواج على وجه الدوام، ويؤخذ من هذا أنها لا تعترف بأي ارتباط بين رجل وامرأة خارج دائرة الزواج.
ومن أجل التوضيح أكثر يمكن القول إن الذي حَكمَ فلسفة وضع مدونة الأسرة مبدآن اثنان هما المساواة والحرية الفردية، وهما مبدآن تم التركيز عليهما في الاتفاقيات الدولية ومنها اتفاقية (سيداو cedaw) للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد النساء التي تعتبر مرجعا حقوقيا قويا منذ اعتمادها سنة 1979 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ودخولها حيز التنفيذ سنة 1981، وكذا ميثاق حقوق الإنسان، وما يميزهما هو أن الدعوة إلى هذين المبدأين جاءت مطلقة من دون اعتبار لخصوصيات دينية أو ثقافية للشعوب والأوطان..
ولقد ظهرت آثار هذا التوجه في مدونة الأسرة دون انتهاك الخصوصية الدينية والثقافية للبلاد نحو، وذلك في عدة قضايا منها المساواة في سن الزواج والرعاية المشتركة للأسرة والمساواة في إنهاء الحياة الزوجية عبر التمكين من اعتماد مسطرة الشقاق، والمساواة في تدبير الأموال المكتسبة خلال الحياة الزوجية والمساواة بين الحفيد والحفيدة في الوصية والمساواة في سن الحضانة .. هذا ما يتعلق بالمساواة، وأما ما يتعلق منها بمبدإ الحرية الفردية في المدونة فإن حضورها أقل بالمقارنة مع المبدإ الأول، وتظهر معالمه في توسيع الحرية الفردية في ولاية الرشيدة وتقييد حرية الزوج في التعدد.
ومما يلحظ هنا أن المدونة لم تنسق وراء الدعوة إلى تنزيل هذين المبدأين بصفة مطلقة، فلم يرد فيها مثلا تشريع المساواة في الإرث كما هو وارد في الاتفاقيات الدولية ومدعو إليه محليا من طرف بعض الجمعيات النسوية .. وكذا لم تعترف بأية علاقة بين الجنسين خارج إطار الزواج شرعا .. وقد كان الخطاب الملكي واضحا بهذا الخصوص، إذ جاء فيه: “إن الإصلاحات التي ذكرنا أهمها، لا ينبغي أن ينظر إليها على أنها انتصار لفئة على أخرى، بل هي مكاسب للمغاربة أجمعين” وأيضا جاء فيه : “لا يمكنني بصفتي أميرا للمؤمنين، أن أحل ما حرم الله وأحرم ما أحله”.