يعد النقد الذاتي حاجة منهجية وضرورة علمية لما يفتح من آفاق للتغيير نحو الأفضل، ومن واجب الوقت الذي يستدعي النقد والتحقيق من قبل العلماء والمختصين -الخطاب الإسلامي المعاصر- الذي يحتاج إلى ترشيد وتسديد ليعكس جوهر التصور الإسلامي؛ لأن عين الناظر المدقق لا تخطئ إبصار كثير من الاختلالات التي شابت هذا الخطاب فانحرف منتجوه عن جادة الصواب.
ولمعرفة الأسباب الكامنة وراء ذلك وتقديم بعض مخارج الحل يسرنا أن نحاور فضيلة الدكتور محمد خروبات باعتباره من القامات العلمية التي لها تأثير أكاديمي وصوت مسموع في الساحة الفكرية والثقافية.
1_ بداية الأستاذ الكريم نريد منكم تعريفا للخطاب الإسلامي حتى يسعفنا ذلك في استيعاب القضية التي نناقشها بصدده ويتميز عن أنماط أخرى من الخطاب.
أشكركم على اختيار هذا الموضوع الذي طالما شغل بالي كثيرا، الخطاب الإسلامي ليس واحدا ، فقد اطلعتُ على خطابات عديدة ومتنوعة ، وكل نوع متعدّد في ذاته : خطاب إسلامي سياسي ، خطاب إسلامي أكاديمي ، خطاب إسلامي وعظي ، وخطاب إسلامي شعبي …
(الخطاب) تُدركون مغزاه ، وتَعرفون معناه ، ولا يمكنكم أن تسألوا عن شيء لا تعرفونه ، إنه مُجمل الأفكار المعبر عنها بالمكتوب أو الشفاهي والتي تجعل من التصور الإسلامي منطلقا ، فخطاب الشارع كلامُه ، ولا نرغب في حشد تعاريف للخطاب عند المناطقة والأصوليين واللغويين واللسانيين ، نعني ب “الخطاب الإسلامي المعاصر ” تعبير الباحثين والكتّاب والمحاضرين المتخصّصين في أمور الدراسات الإسلامية، أو المتدخلين باسمها مما نقرأه اليوم ونسمعه ، هذا باختصار شديد.
2_ فضيلة الأستاذ الكريم ما هي برأيكم موجبات وصف الخطاب الإسلامي بأنه يعاني من أزمة؟ وهل في ذلك من مبالغة؟
حينما نقول ” الخطاب الإسلامي” ونقارن بين ” الاسلام ” و ” الخطاب” نجد بعض التباينات من الناحية الأخلاقية والمعرفية والمنهجية ، هنا تكمن الأزمة ، أزمة الخطاب الإسلامي في ابتعاده عن عنصر الإسلامية ومقوماتها ومبادئها ، وليس في ذلك مبالغة فقد اطلعت على بعض الخطابات لأساتذة من ذوي الشهادات العليا في الدراسات الإسلامية ، وهالني ما وقفتُ عليه من غِلظة وقسوة وشدّة وعنف في الكلام ، والتركيز عن النواقص والعيوب ، ورمي التهم وتصيد العثرات وافتعال المشكلات ، وخطاب آخر من نوعية فريدة ينتعل الصفة ويغير عليها بالتنقيص والهدم ، أي أنه باسم الخطاب الإسلامي يغير على الثوابت والأصول ، وغير ذلك ، فقلت: هل هذا هو الخطاب الإسلامي ؟ أين هي مقومات الخطاب وخصائصه وآدابه وأخلاقه ؟ ، لا توجد مبالغة في القول بأن هذا الخطاب يعاني من أزمة .
3_ ما هي في نظركم أهم مظاهر تلك الأزمة إن اتفقنا على وجودها ؟
من مظاهر تلك الأزمة هو ما تفضلتم بالإشارة إليه في مطلع تقديمكم بأن الخطاب الإسلامي لم يعد يعكس جوهر التصور الإسلامي ، هذا الخطاب في واد ومبادئ الإسلام في واد آخر ، لا نرغب في التطاول على أي خطاب لو أنّه أزال صفة ” الإسلامية ” عليه ، لأن هذه الصفة هي التي تُضفي عليه ” المشروعية ” ، فهو يستغل الصفة الإسلامية ليبث خطابا فاقدا للمشروعية ،وفي الحديث ( من خدعنا في الله انخدعنا له) ، لكن في حديث آخر: ( المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين) .
من مواصفات الخطاب الإسلامي ” التواضع ” في الكلام ، فقد ساد خطاب ” التعجرف” ، كما يوجد في مقابله خطاب التشدد والتطرف ، والتطرف والتعجرف وجهان لسلبية واحدة ، الأول مفتقر إلى أخلاق الإسلام ، والثاني مفتقر إلى قواعد العلم ومناهج الكلام ، ومع هذا وذاك يسود خطاب ” العقلان” ، واسمحوا لي باستعمال هذا المصطلح إذ العبرة فيه بالمعنى لا بسلامة المبنى، فهو الذي يتكأ على البرهان في النيل من الثوابت والأصول والمعتقدات ، يعتمد الخطاب العقلاني على مناهج ورؤى وتصورات من العلوم الإنسانية لغرض تحصيل رؤية غير متماسكة وغير متجانسة، وهي مع ذلك خاضعة لمحاكمة علمية ترصدها وتتابعها وتجعلها تحت محك البحث العلمي ، مثلما جعلتْ من التراث الإسلامي مجالا للبحث والدرس فالدرس الإسلامي يجعل منها مجالا للبحث والدرس ، وقد علّمنا المنهج النّقلي أن نفكر في الشيء قبل العمل به ولو كان حديثا منسوبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يُجوِّز المنهج العمل به إلا إذا صح وسلم من العوارض والآفات ، إذا كان هذا في الكلام المنسوب إلى النبي فكيف بخطاب البشر ؟.
4_ لاشك أن المظاهر هي انعكاس لأعطاب جذرية وبُنى تصورية وأنساق فكرية، فما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك؟
كل هذه الظواهر التي أشرنا إليها هي انعكاس لأعطاب جذرية كما تفضلتم ، ولها أسباب كامنة تحركها ، “التعجرف” في الخطاب هو نتيجة حالة نفسية انهزامية ، لا يتعجرف إلا من أحس بالدونية في فكره وثقافته ، والعصر الذي يعيشه المفكر هو عصر النواقص والتردّي من الداخل ومن الخارج ، كل هؤلاء الذين يخرجون بخطابات “خالف تُعرف” يعانون من انهزامات نفسية ، وهم مُخطئون حين يعتقدون بأن العلاج يكمن في النيل من الشعائر والثوابت والمقدسات ، تماما كالطفل حين يكسر الأواني رغبة في جلب الانتباه إليه ، فلكي يشعر المتكلم بالفوقية على أقرانه ومن معه في الحقل فهو يتكلم بخطاب متعجرف ، والتّعجرف تكبر، والتكبر مذموم شرعا ، كيف يصبح المذموم خاصيةً وسمةً في خطاب البعض ، زد على هذا أن خطاب “التعجرف” لا يحقق شيئا من مقاصده ، تحقيق مقصد معالجة ظاهرة معينة لا يتم بالتعجرف ، كما أنه لا يتم بالتطرف ، كلاهما لا يحققان شيئا من مقاصدهما ، لا أحد يقبل هذا النوع من الخطاب ، ولا تُرجى منه فائدة .
أما خطاب ” العقلان” فهذا يتحقق معه شيء لأنه يثير قضايا نُغيرعليها بالتأصيل والمعالجة ، وقد عالجنا شبهات كثيرة بالأسلوب العلمي وبالأفكار المنهجية الهادئة.
5 – من الإشكالات المنهجية أثناء تشخيص بعض الظواهر هي غياب الوسائل المُمَكِّنة من حسن التشخيص، ما هي مقترحاتكم في هذا الصدد؟
الأزمة حاضرة وظاهرة ، ونكرانها هو أزمة مُضاعفة ، تشخيصها يختلف بين من يعنيه الموضوع وبين من لا يعنيه ، فالذين لا تعنيهم الأزمة هم الأكثر حضورا والأوفر حظا في الكلام عنها وتشخيصها ، وهؤلاء لا يزيدون في الطين إلا بلّة ، فالكلام في التشخيص هو لأهل الميدان ، هناك طرق مشتركة كثيرة تستوحى من قواعد العلوم وأساليب المنهج داخل الحقل العلمي الذي ينتمي إليه الخطاب، هذا علاوة على مبادئ القيم والأخلاق التي تتصف بها المعرفة الإسلامية ، ولذلك فوسائل التشخيص قد تكون أخلاقية ، وقد تكون منهجية متعلقة بصفة الخطاب وخصائصه ، وقد تكون علمية لها صلة بحقل الخطاب ومجاله ، وقد تكون لها صلة بمقاصد الخطاب وأهدافه ، للأسف السائد اليوم هو خطاب التضاد والمعاكسة ، ولا أتكلم عن خطاب “السرقات الناعمة” ، حين يعمد البعض إلى الترجمة من “العربية إلى العربية” بحيث يبقى الموضوع واحدا ولا تتغير سوى الأساليب والأشكال .
علّمتنا مناهجُنا النظر في الخطاب أولا بُغية تقويمه ، نحن نُعاين ذلك من موقع مرجعية معينة كسائر الباحثين والدارسين في مختلف بقاع العالم ،كل واحد يُعاين الثقافة من موقع مرجعياته ، واسمحوا لي أن أقول بأن مُجمل الثقافات العالمية تحترم خصوصياتها وثوابتها سوى خطابنا اليوم ، فهو يتكلم في الثوابت والأصول ويطعن في المرجعيات والأعلام والشيوخ باسم ” التصور الإسلامي ” ، إنه الضحك على الأذقان حين يدعي البعض أنه يخدم الثوابت حين يُغِير على السنة النبوية أو القرآن أوالسيرة أوالصحابة الكرام أو ينكر ثابتا من ثوابت العقيدة الإسلامية أو يحارب الفقه الإسلامي إلخ، كل الأمم متصالحة مع ثوابتها ومتجانسة مع مرجعياتها إلا بعض الخطابات التي تنتحل الصفة الإسلامية، ولا أتكلم هنا عن تيار “الخِرفانية المعاصرة ” ، هؤلاء الذين ولّدوا خطابا متخصصا في نطح النصوص، يطلعون علينا كل يوم بنطح نص حديثي أو علم من أعلام الصحابة أو مصنِّف من المصنفين مثل البخاري أو مصدر من مصادر السنة مثل صحيح البخاري ، كل يوم ينطحون ركنا أو مبدءا أو حكما أو علما …لا أتكلم على هؤلاء لأن خطابهم خطاب مهلهل ، متهافت ،سطحي وساذج إلى أبعد الحدود ، ولا يتحركون إلا بدافع الارتزاق والمصلحة ، هؤلاء يبحثون عن الشهرة فلا نُحقق لهم ما يريدون .
من الظواهر التي عشتها وأحس بها ، هو سيادة “اللّامفهوم” في الخطاب الإسلامي المعاصر.
اللّامفهوم هو غير المفهوم ، و ” اللا” هنا مشددة ، ف “اللامفهوم” هو ما لا يفهمه العقل المدرك للأمور لأنه غير قابل للفهم ، وهنا سر الإشكال .
نثير هذا الموضوع لأننا نخشى أن يُتخذ صنعةً ، وحرفةً يتعاطاها أولئك الذين ينتجون ما لا يفهم ، وفعلا قد تسارعوا وتكاثروا لأن السوق الرائجة اليوم هي الترويج لهذا المنتوج الغامض ، والكتاب الغامض هو الكتاب الأكثر رواجا في سوق الكتب، وهو المذيل بالإشهار، أما القراء فقد وجدوا فيه ضالتهم لأنهم سئموا مما هو مفهوم ، ولعلّ هذا ذريعة للهروب من المعقول إلى اللّامعقول ، ومن الواقعية إلى التجريد ، وقد سارت فئة من الطلبة الباحثين في هذا المسار فراحوا يكتبون أشياء لا يفهمونها حق الفهم ، والمطلوب هو إنتاج خطاب إسلامي يتحلى بما يلي:
الأولى: معرفة مفهومة ، واضحة وبيّنة ، يدركها العقل ويفهمها .
الثانية: معرفة لها صلة بالعمل ، تُفيد الناس في حياتهم الخاصة والعامة .
الأولى قابلة للمعرفة فكريا ، والثانية قابلة للتطبيق عمليا ، وقد تقدم في مقال سابق منشور على موقعنا الأكاديمي قابلنا فيه بين المعارف والأعمال ، فالمعرفة المفهومة يتبين صلاحها من فاسدها ، ومنافعها من مضارها ، ” ما نهيتكم عنه فانتهوا ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ” ، وهذا لن يكون إلا بعد ” الفهم” ، فالذي لا يفهم تختلط عليه الأوامر بالنواهي ، فلا يدرك المغزى من النهي ولا يقف على سبب الأمر.
أما المعرفة التي لا تُفهم فمرجعها إلى سببين:
الأول : أن الذين أنتجوها هم متخصصون في إنتاج ما لا يُفهم ، ف “الكلام لأجل الكلام” أصبح من السمات الفكرية المعاصرة ، وهو ” جديد” بلا مغزى .
الثاني: أن بعض المنتجين لهذا النوع من ” المعرفة” هم أنفسهم لا يفهمون كلامهم ، فإذا كان لا يفهم ما يقول كيف يفهم عنه الناس ما يقول ، وقد أدركنا جيلا من الملتهمين لهذا النوع من المعارف يتناظرون فيما بينهم ، بعضهم يقول : إن الكاتب أراد كذا ، ويجيبه الآخر: إنك لم تفهم إنه يريد كذا وكذا ، وقد يُضاف إليهم الثالث والرابع ، دون أن يدرك هؤلاء جميعا أن العيب في صاحبهم أولا وفيهم ثانيا ، في صاحبهم لأنه قال كلاما لا يُفهم ، وفيهم لأنهم لم يقفوا على عيب سوء الفهم .
بعض من هؤلاء تخصّصوا في هذا النوع من المعارف المعتّمة ، وأصبح الميل اليوم إلى التسابق في إنتاج ما لا يُفهم مسعورا ، وزادت الحدّة أكثر حين ساهموا في ” تعوير” المعرفة المفهومة ، وقد سُخرت بعض العلوم الإسلامية في هذا للأسف الشديد، تحشد من معارف الغرب والشرق والجنوب والشمال ما يجعلها بعيدة عن التدبر والفهم .
6_ في حوار سابق معكم تكلمتم عن مشكلات التأطير البيداغوجي، أين يكمن دور البحث الجامعي في معالجة مثل هذه القضايا؟
دائما نتسائل فنقول : كيف خرج هذا الخطاب من رحم الجامعة ؟ هل الأساتذة المؤطرون للطلبة الباحثين يتحمّلون مسؤولية هذه الرداءة في الخطاب ؟
لا يوجد تأطير بيداغوجي ، يوجد إشراف فقط ، وإذا ما فكر الأساتذة يوما في برمجة تكوين أو لقاء علمي بيداغوجي لا يحضره إلا القليل ، وخير دليل على ذلك غياب الطلبة الباحثين عن حضور مناقشات الرسائل والأطروحات في الماستر والدكتوراه ، ونحن نفعل ما علينا من جهة إشهار تواريخ المناقشات على صفحاتنا الرسمية ، ونبهنا في موقعنا الأكاديمي على فوائد حضور المناقشات، لكن لا حياة لمن تنادي.
لا نُنكر بأن شعبة الدراسات الإسلامية الممتدة عبر أرجاء الوطن ولها تاريخ لا يستهان به قدمت نماذج مشرفة ، هذه النماذج تراها اليوم في المحافل الدولية وفي المسؤوليات الوطنية ، ولها دور كبير في إنعاش الثقافة في داخل الوطن وخارجه بخطاب علمي يتسم بالرصانة والرزانة والتكامل المعرفي والانضباط المنهجي ،ويتحلى بمواصفات الوسطية والاعتدال ، لكن توجد بعض الحالات القليلة ، المعدودة على رؤوس الأصابع تتصف بالرداءة العلمية والمنهجية بل النيل من الثوابت والمرجعيات ، هذه تمثل حالات شاذة لا يقاس عليها ، وهؤلاء تحولوا إلى خلل مدسوس في البناء العام رغبة في التشويش والهدم ، لا أقول بأن هؤلاء ضحية تكوين أكاديمي فاسد بل هم ضحية تربية فاسدة ، وضحية أمراض نفسية وعقدة المصالح وقضايا أخرى كثيرة يطول بنا المقال في سردها ، الذي أراه اليوم هو أن المتخصص في الحديث مثلا يلعن كل العلوم إلا الحديث ، ومن هو متخصص في الفقه والأصول يغمز الحديث والسنة ، ومن هو متخصص في المقاصد تبدو له كل العلوم غيوم إلا المقاصد ، أما الفكر الإسلامي فهو كل شيء والعلوم الإسلامية لا شيء ،وهكذا يحاول البعض أن يدفع بالعلوم الشرعية وبالتخصصات إلى ساحة الصراع الممقوت ، وهي أمور لا توجد في العلوم بل في الذوات الحاملة للعلوم .
7_ يرتبط بالسؤال السابق الحديث عن نمط التربية التلقينية التي تنتج عقلية أحادية تعاني من عمى الألوان، في مقابل التربية التكوينية التي تروم بناء عقلية متسائلة ناقدة ومستوعبة، لكن ذلك يصطدم بإشكالات وتحديات التنزيل، فكيف السبيل إلى تجاوز ذلك؟
صحيح ما تقولون ، لا يمكن التعويل على التربية التلقينية وحدها ، كما لا يمكن محاربتها في التكوين لصلتها ببنية بعض الأصول والمعارف ، فالقرآن مثلا حفظا وقراءة يتم بالتلقين ، نصوص الحديث النبوي الصحيحة في مجال الحفظ هي تلقين ، قواعد اللغة العربية في النحو والصرف والبلاغة هي تلقين ، القواعد الفقهية والأصولية والمقاصدية ، القواعد المنطقية جانب منها يقوم على التلقين، وتجد التلقين في قواعد الرياضيات والهندسة وغير ذلك ، لكن في جانب التحليل والتنظير وإعمال التفكير بالاستقراء والاستنباط والمقارنة والاستنتاج والنقد لا بد في هذا من تكوين خاص ، وأنا هنا أتكلم عن خصوصية الثقافة الإسلامية ولا أعمّم ، فإذا أرادت بعض العلوم الإنسانية طرد التلقين بمرة فهذا قد لا يسبب ضررا على المعرفة في هذه العلوم لكن أصول الثقافة الإسلامية من خصوصياتها التلقين ، ومع ذلك لا نريد أن يسود التلقين في التعليم الجامعي ، نريد من الطالب الملتحق بالدراسات الإسلامية أن يكون قد اكتسب التلقين في الابتدائي والثانوي والإعدادي ، وفي معاهد تحفيظ القرآن والسنة وقواعد اللغة حتى يتفرّغ إلى ما أطلقتم عليه ” التربية التكوينية” ، وحتى يكون الأستاذ الجامعي قادرا على إخراج “عقول بنائية ناقدة متسائلة ومستوعبة ” بما يتوافق مع ” المُخرجات” ، لكن إذا أردنا تحقيق هذه المخرجات بنجاح فلا بد من وضع شروط دقيقة في ” المُدخلات ” ، وهذه الشروط التي تحقق المخرجات لا وجود لها في المُدخلات ، الطالب يتسجل في الدراسات الإسلامية بشهادة الباكلوريا فقط ، لا توجد لديه مكتسبات سابقة، فيصبح عالة على الجامعة وعلى الأستاذ وعلى الشعبة ، وينتج عن هذا ما تفضلتم بالإشارة إليه ، ولا يسلم من هذا إلا القليل .
8_ شغلتكم المسألة المنهجية من خلال كتاباتكم وتأطيركم، ما هي برأيكم أهم الاختلالات المنهجية التي وقفتم عندها والتي تؤدي إلى سوء الفهم في قراءة المصادر والمظان في العلوم الشرعية وغيرها، مما يفضي إلى إنتاج خطاب قاصر وغير سليم؟
يكتسب المنهج بالقراءة والاحتكاك المستمر بالمكتبة ، وبالقراءة والمطالعة يكتسب الطالب اللغة والأسلوب والأفكار فضلا عن المعارف ، وقد تكلمتُ في كتاب مناهج الدراسة الجامعية عن الطالب والطالب الباحث ، الأول غير الثاني ، فالأول باحث عن الشهادة ، والثاني عن العلم والمعرفة ، فللأول خطاب ، وللثاني خطاب ، عقل الأول عقل جامد، وعقل الثّاني عقل ناقد ، العقل إذا لم تُشغله بالقراءة والمطالعة انشغل بغيرها ، فيصبح عاطلا عن القيام بهمة التفكير العلمي ، والبحث العلمي ، وبما أنه عقل مفطور على البحث والتفكير فهو يصرف طاقته في التفكير السلبي والبحث في كل شيء إلا في البحث العلمي ، وهذا كله يظهر في الخطاب ، الباحث يحمل شهادة بدون مستوى ، وله عقل لا يفكر في العلم وبالعلم ، وإذا فشل في التعمير أغار على العلوم والمعارف والمناهج بالتدمير ، فأسلوب الهدم ولغة الردم هي أمور سهلة ، والبناء شاق وعسير، فهو يختار الطريق السهل.
إذُا القراءة والمطالعة تقربك من المنهج ، تجعلك تتذوق أساليب العلوم لتفرق بينها أولا ، ثم تتملكها بعد ذلك ، فلا يمكن أن نقرأ كل العلوم بلغة علم واحد .
بعد القراءة والمطالعة يأتي التكوين ، حيث يتكون الباحث على كيفية البحث العلمي وطرقه وخطواته واصطلاحاته إلخ ، ثم يضع عمله العلمي تحت إشراف أستاذ باحث يشرف عليه ويؤطره .
ومعلوم أن الطالب الباحث يتدرج في البحث العلمي من الفروض والعروض إلى بحث الإجازة فبحث الماستر ثم أخيرا بحث الدكتوراه ، هذه المراحل والمحطات تتيح للطالب فرصة تملك المنهج لينتج خطابا علميا في فن من الفنون العلمية، وهذه التجربة التي اكتسبها يساهم بها هو بدوره في التعليم والتكوين والتأطير.
يمكن أن نُجمل الكلام في موضوع الاختلالات المنهجية فيما يلي:
– عدم تملك المنهج العلمي بغياب المطالعة ، الباحثون لا يقرأون ، فالتأطير لا ينجح في غياب القراءة والمطالعة .
– بعض الطلاب يقرأون لكنهم يفرطون في حضور حصص التأطير وملتقياته ، وحضور مناقشة الرسائل الجامعية ، فالملاحظات تبقى هي هي في كل البحوث تقريبا.
– ميل البعض إلى سرقة الأبحاث العلمية من الأنترنت ومن غيره ، سرقات جزئية وقد تكون كلية .
– سوء اختيار الموضوع ، بحيث يكون الموضوع عبئا على صاحبه ، لا يحس بالتجاوب معه ، وقد يكون الإشراف غير سليم ، فلا يتجاوب الأستاذ الباحث مع الطالب الباحث فيضيع البحث.
من آفات الخطاب اليوم هو الإقبال على قراءة المصادر والمراجع من دون تقنية علمية ، لا في كيفية القراءة ، ولا في طرق الاقتباس والتوثيق، ولا في أسلوب البحث والمعالجة، ولا في أخلاق النقد والتقويم ، تحس بذوقك العلمي أن صاحب هذا الخطاب لم يتعلم درسا واحدا في كيفية البحث العلمي.