بدأ طه عبدالرحمن انشغاله الفكري بعد حرب ٦٧ ونتائجها الكارثية، وقد داهمه طوال مشروعه سؤلان يمكن بسهولة ملاحظة علاقتهما بحال مئات الملايين من العرب الذي انكسروا -طوال عقود- أمام شرذمة من الصهاينة؛ يمكن اعتبار كل مسار هذا الفيلسوف المتميز جوابًا عن هذين السؤالين، كما أشار لهذا هو نفسه،
كان السؤال الأول هو سؤال العقل، يتعلق بالتحرر الفكري من التقليد للغرب، وامتلاك القدرة على الإبداع الفلسفي والفكري، أو كما يقول هو (إقدار العربي والمسلم على الإبداع الفلسفي) ويُعتبر النصف الأول من مشروعه إجابة لهذا السؤال، والذي يلخصّه هو بـ”الفلسفة التداولية”، يتعلق بتحديد الوسائل والأدوات التي تمكن عقل العربي المسلم من الإبداع بلسانه وقيمه وانتاج مفاهيمه الخاصة، استغرق هذا المشروع قرابة الأربعة عقود.
السؤال الثاني هو سؤال الإرادة، أو قل (سؤال العمل)،
كيف ينبعث العرب والمسلمون، كيف يفعلون،
كيف يتجاوزون حالة الخمول واللاعمل، او كما يقول هو (حالة الكلالة) التي أصيب بها العرب اليوم،
فكان جواب هذا السؤال هو (الفلسفة الائتمانية)، فلسفة عملية بديعة وأصيلة، يجد القاريء أصولها فطريةً في وجدانه، لم تكن الائتمانية منعطفا يتجاوز (الفلسفة التداولية) بل هما ركنان لهذا المشروع الفلسفي الفريد،
العقل والابداع والنظر المستقل عن التقليد.
والإرادة والعزم والفعل والمسؤولية التي يؤتمن عليها الانسان.
انطلق طه عبدالرحمن من تأسيس فطري،
فالانسان مفطور على المعرفة، ومفطور على الإرادة.
علّمه ربّه كيف يعرف، وعلّمه كيف يريد.
وهل يعاني العرب اليوم إلا من عجزهم عن هذين الأمرين، كيف نعرف ونبدع؟ وكيف نريد ونفعل!؟
عودًا على بدء، إذ يتضح الان رابط هذين السؤالين الذي استغرقا حياة هذا الفيلسوف، ارتباطهما بهزيمة ٦٧ النكراء، وبالمناسبة كانت ردود فعل الناس على تلك الهزيمة متباينة أشد التباين، منهم من أودت به للانتحار، يأسًا وقهرًا، ومنهم من دفعته للانشغال والإبداع،
ادوارد سعيد لم يسلك طريق الفكر إلا نتيجةً لتلك الهزيمة، فكان مشروعه النقدي الجلل الذي له اعظم الأثر في الدراسات الغربية ذات العلاقة
أما مشروع طه عبدالرحمن فهو أحد أبرز المشاريع الفكرية الأصيلة والمتينة التي رسمت خارطة طريق للخروج من هذا المأزق الفظيع الذي علِق فيه العرب منذ عقود، وينبغي للدارسين والباحثين العناية بهذا المشروع دراسة وفهما وتكميلا وتقويما واستثمارا وتطويرا وتوليدا للمزيد من الأفكار والإبداع، بعيدًا عن التعصب والتنافس والانشغال بتفاهات من جنس هذا المفكر أفضل من هذا، وهذا فيلسوف وهذا ليس فيلسوفًا، وما شابهها، فتلك هموم بطّالين قد عموا عن الخطر الداهم الماحق المحيط بناء، فمرحبا بكل جهد مبذول لاصلاح الأوضاع، ومرحبا بكل نقد وكل تقويم باعثهما الصدق والشفقة والرحمة بهذه الأمة، وعلّ الله أن يُخرج من هذا الجيل مَن تدفعه هذه المنعطفات الخطيرة والحزينة التي نعايشها اليوم إلى استثمار تلك الجهود وتكميلها وليس إعادة اختراع العجلة، “إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّرواما بأنفسهم”
والله المستعان.







