توطئة..
تفرّد المثقّف البوسني الراحل علي عزّت بيغوفيتش بالـجَمْع في شَخصيته بين رَهافة الأديب وعُمق المفكِّر وجِدية الباحث ودينامية الفاعل السياسي، مقروناً ذلك بقُدرة هائلة على التأليف في قضايا إنسانية واجتماعية وفكرية بنَفَس تَجديدي ومقاربات ومُعالجات نوعية، ومَقدُرة على الإفصاح في النص المكتوب وفي القولِ الـمسموع وفي الموقف السياسي؛ عن الانتماء إلى حضارة الإسلام والأمة الإسلامية، والـجُرأة في النظر إليهما بعقلية الفيلسوف الـمُسَدّدة بالخلفية الشرعية والـمرجعية الإسلامية الـمُستنيرة، ومِن ثَمَّ؛ الكتابة عن أحوالهما في زَمنها الذي عاصَر فيه كُبرى الانتقالات والانقلابات في مسار الحضارة الإسلامية ومَصير الأمة الإسلامية، فجاءت إصداراته مسكونةً بهاجِس النهوض بالأوضاع الإسلامية، مُنتمية بأصالة وصدْق قافلةِ الـمُجدّدين والإصلاحيين العرب والـمُسلمين.
- نصوصٌ صامِدة لأزمنة متجدِّدة:
يَنطبِق على بعض النَّصوص الثَّرة ما يمكن نَعْتُه بــ”بالنُّصوص الصامِدة”، تلك النصوص التي تُقرَأ كلَّ مرَّة فتتجدَّدُ وتتمدّد وتَصمُد، وتَصْلُح جُملةُ الرؤى المبثوثة فيها نماذِجَ تفسيرية لثوابِت ومتغيِّرات الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري للأمة العربية الإسلامية.
وكُــتُب المفكِّر البوسني المتميّز علي عِزَّت بيغوفيتش تندرِج ضمن هذا الصِّنف، لما تُقدِّمه من قراءات جادَّة لوقائع التاريخ ولـمُتون الفِكر الإنساني، ولما تَـبْذُله مِن جُهْدٍ للتأسيس لنسَقٍ من الأفكار والمفاهيم والتصوّرات إزاء الدين والحياة والناس والأفراد، ومِن محاوَلاتها القيِّمة إعطاءَ مضمون ثالث[2] للرؤية الحضارية للإسلام، مضمون يتجاوَزُ الرؤية التي تنظر إلى الإسلام باعتباره ديناً فحسب، دين خمول وكَسَلٍ وانتهاء صلاحية، والرؤية التي تنظر إليه إسلاماً مُسالِماً وديعاً زاهِداً.
ففي “الإسلام بين الشرق والغرب”[3] و“هروبي إلى الحرية”[4] و“عوائق النهضة الإسلامية”؛ رؤى وتصورات ومُقاربات ولَفيفُ نَظَرٍ وفِكْر تجِد امتِدادها في المرحلة الشبابية للكاتب[5]، وأفكارٌ أوْدَت به في السّجون غَداة قيام الحكم الشيوعي في يوغوسلافيا، وهي أفكاره التي ظَلَّ يحيا من أجْلِها، وبقِيَ حريصاً على تبليغها، وإعادة النَّظر فيها، وتوسيع مجالِ أفكاره لتصِل إلى دُول وشعوب العالم الإسلامي، والعالم الغربي أيضاً[6].
وفي “البيان الإسلامي” _ الذي أثاَر زوبعة في الإعلام الغربي بسببٍ من تحْرِيضٍ غير أخلاقِي ولا مُبَرَّر قام به المتطرِّفون الشيوعيون، فاتَّهموا صاحِبه بالتأسيس للأصولية في قَلب أوربا، وتأليب المسلمين ضدّ المعسكر الاشتراكي _ تتجلّى مهاراتُ ومَقْدُرات مُفكِّرٍ لا يشكّ اثنان في تميُّزهِ وموهبته وبراعته. إنه صَرخته/نداؤه ودعوته التي صدَحَ بِها مِن قَلْبِ منطَقة أُحْصِرَ فيها الإسلام وحوصِرَ المسلمون؛[7] نداؤه للاقتناع بأحكام وتعاليم الدين، والإيمان بالإسلام دينَ قوّةٍ وثقافةٍ وحضارةٍ وسياسةٍ وعَطاءٍ وبناءٍ، دعوة للمجتمع والقادة والأفْراد لأداء رسالَتِهم المنوطَة بهم، لاستِئناف الدَّور والمهمّة الحضارية، للنزول إلى ساحة الأداءً معاً على طريق النهضة الإسلامية الطويل والشاق.
و”البيان” على صِغَرَ حجْمِه، عريقٌ في أصْلِ مَبناه وقاصِدٌ في معناه، مُتراصَّةٌ قضاياه، ومتماسِكَةٌ مضامينه. والعودةُ إلى ما كَتَب ع.بيغوفيتش وهذا النصّ بالخصوص؛ هي عَودة وجودية، بمعنى انِطلاقها مِن الواقع العَيْني للأمّة والعالم العربي الذي يصيرُ اليوم إلى مزيدٍ مِن التفكك والتجزئة وتسلُّطِ الغرب والشرق وأروبا علينا، نَهْشاً للخيرات والثروات الوطنية وتدخُّلا في القضايا الداخلية وسَلْباً لقوامة السُّلطة العربية. وتشهد مناطِق أخرى[8] ما عاشَته البوسنة سابِقا، مِن تشريدٍ وظُلمٍ وانتهاكٍ للسيادةِ وحَرْبٍ طائفية ممقوتة وتحايُلٍ دولي.
بَعضُ الكُــتَّاب يمتازون بخاصِية القراءة الكثيرة والتَّـعبير القليل، أو بعبارة أخرى، يَقَرأ كثيراً ويكتُب قليلاً، ومِن قِلَّته تِلك؛ تَظْـهَر أمَارات النبوغ في تَقديم عُصارة قراءاته الـموسَّعة ونظراته في الفكر والحياة، ولا وجودَ لكاتِبٍ جيِّدٍ إنْ لَم يَكن قارئاً جيّدا. وصاحِبُـنا الأستاذ علي عِزَّت بيغوفيتش[9] مِن هذه القِلَّة النابِغة، الـمُجِدَّة الـمُتْقِنة، أتْحَفَنا بمُصنَّفاتٍ[10] وكُتيباتٍ تدلُّ على عُلُوِّ كَعبه في استيعابِ الظواهر الكبرى من حوله والنّفاذِ إلى عوائق النَّهَضَات ومعضِلات الحركات وإخفاق النظريات وبواعِث النهوض في الأمم والمجتمعات، وَمَقْدُرَتِه العالية على تقديم نماذج تفسيرية لما عاينَ وفهِمَ واستنتَج.
ومما يجعل نُصُوصَهُ جديرةً بالقراءة والتأمُّل والتعلُّم واستِخلاص الفوائد؛ القضايا التي أتى على مُدارَستِها بروح الـمُسلِم المجتهِد الغيور، وبقريحةِ المثقَّفِ الحِذِق الماهر، والإشكالات الصلبة والقديمة – المتجدِّدة في العالم الإسلامي، مِن قَبيل: (الوحدة – وجود مجتمع إسلامي منظّم – الاستثمار في الطاقة الروحية والأخلاقية الكامنة – خوض طريق العمل والتضحية والكفاح المشترك – استمداد الدعم من بركة الله ورضا الأمّة – معضِلة التخلف – ضُعف التعليم..) وهِيَ؛ إذ يتأمَّل فيها القارئ والباحث وابن كُل قُطر عربي وإسلامي؛ يجدِها ذاتُ القضايا والإشكالات التي لا تزالُ تُسيِل مِدادَ الكثيرين وتَذْهَب في سبيلها أفئدة الـمؤمنين وتُعقَد لها الندوات والدَّورات. ولا يَفوتنا أنْ نستَحْضِرَ أنَّ إصدارات الرجل مراراً ما كانت تفتَحُ الطريق _ كما حصل غداةَ نشر (البيان الإسلامي) وتداوُله _ لاعتقال الأستاذ علي عِزّت[11] سنة 1983، ومحاكَمَته بــأربعة عشر سنة سِجنا نافِذة، بما يجعل مِن الكتاب نصّا صامِدا، ومِن صاحِبِه أحَد الرموز الفكرية والثقافية والسياسية الخالِدة في أفئدة الشُّجعان.
- نداءٌ للأحياء.. صرخة العربِي وزَفرة الـمُسْلِم:
يتجلَّى للقارئ عند الوهلة الأولى لَدى بيغوفيتش ذلك الفَهْم الناضج العارِف بطبيعة أحوال بلاد المسلمين، وبالاعتزاز الكبير بالتاريخ الزاهر والإمكانات الهائلة لدى العالم الإسلامي، ودرايةٍ كذلك بمساعي الآخَر العامِل على الهدْم والتفكيك والجَــوْس خِلال الدّيار. لذا يُفْصِح النص/البيان عن مقْصَدِه، إنَّهُ رِسالة مُوجَّهة إلى المسلمين بصفة خاصة، ونداء إليهم ليَكْرَعُوا مِن مَعين إسلامِهِم ما به يضطلعون بواجباتهم تجاه أنفسهم ومُحيطهم والإنسانية. وهو في جانِبٍ منه، الكِتابُ والكاتب؛ امتِداد لصَرخة الإصلاح العربي منذ مطالع القرن العشرين.
ليسَ ثَـمَّةَ مِن مخرج لاستعادة المبادرة وتجاوُزِ حالة التخلف والفقر والذّل والقَهر إلا مِن خلال تحديد الطريق المؤدية إلى الهدف، إنَّه طريق “تحقيق الإسلام في جميع الميادين، إنَّه طريق تطبيق الإسلام في حياة الفرد والأسرة والمجتمعِ بتجديدِ الفكر الإسلامي وإيجاد مجتمع إسلامي من مراكش إلى أندونيسيا”[12]، وليس من التهويل ولا الافتئات على الواقع والحقيقة جعْل هذا الهدف نُصب العين العربية – الإسلامية، لا سيما إذا اعتَبَرْنا أنَّ قَدْراً مِن هزائمنا ومظاهر السلبية والخمول فينا مَردّها لانحرافنا عن منهج الإسلام، وهو الانحراف الذي طالَما كان محطَّ نقْدٍ وتذكيرٍ من لدُن رجالات الإصلاحية العربية[13]، ويُوَجِّه الكاتب عناية أنظارنا للتاريخ[14] لنفهم ما جَرى، ومنطِق التحولات فينا، ومن حولِنا.
اختيارات الأستاذ علِي عِزّت لمفاهيمه وعباراته وعناوين مباحِثِ وفُصول كُتُبه دقيقة ودالّة، يَنتاقُها بعناية شديدةٍ تُصيبُ كبِدَ السياق والـمَساقِ وتخُدم الفكرة العامة للـمرادِ تبليغه. ولا يُـحَمِّل “بَـيَانَهُ” فوقَ طاقته، ولا يَسِمُ ما يجيء فيه “جديدا”، وإنّما هو استكمال لصرخة العربي[15] ووفاء لمكافحين سابقين ومجايلين[16] له مِن أجْل الإسلام، ومُطالَبة بالانتقال مِن مستوى الأفكار المجـرّدة إلى مستوى التخطيط والعمل والإنجاز.
ثلاثُ كلماتٍ جامعاتٍ قاصِداتٍ مُعبِّراتٍ متحسِّراتٍ “تَـخَلُّف الشعوب الإسلامية” تتصدَّر الاشتِغال الذِّهني والثقافي والواقِعي للسيد بيغوفيتش، حتى ليُخالُ للقارئ أنْ لا يُتِمَّ القراءة، إذِ القَضيةُ قَـد فُصِلَ فيها القَوْلُ ودَلَّ مختَصَرُ الكلام على واقع الحال. ولكن علَامَ صاغَ هذا الحُكم الجامِع _ حَتمية تَخلُّف الشعوب الإسلامية _؟
إنَّ المقدُرَة الفائقة التي نلْمَسُها لدى كاتِبنا عندَ دفاعه عن الإسلام الـمُنَـزَّل، مأتاها مِن استِيعابه الكبير للكليات الأساسية للشريعة ووعْيٍ لرسالة الدين في التاريخ، ولإيمانه العقلاني العميق بكونِ تعاليم الإسلام تُقِرُّ بوجودِ الإنسان كصِلة بين العالمين الطبيعي والروحي، وبالذّهول عن هذهِ الوِحدةِ؛ فإنَّ الدِّين الذي يعتَقِده المسلمون مُؤَدٍّ لا شكَّ إلى التخلف والانحطاط ورفض الحيوية والنشاط.
لتَصِل إلى خلاصَةٍ تتعرّف فيها على أسباب الضعف الرئيسية وتُميَّزُ فيها بين فُسطاسين من الناس أصابَت أفكارَهُم وأفعالَهُم فاعلية التجديد الإسلامي في الصَّميم؛ يتطلَّب الأمر معرفة شامِلة ورصينة، ذاكَ ما نراه عندَ أوَّلِ “الغيثِ” في “بيانِ بيغوفيتش“، فالكِبارُ في عالم الأفكار يَضَعُونَ أفكارَهُم الثَّـرَّة في خِدْمةِ المعنى عندَ أوَّلِ سَطْرٍ يكتبونه. حَقاً؛ إننا إزاء رجُل تجاوَز حالة “الإيمان” إلى “التأمُّل والاستِخلاصِ” وتقديمِ قراءاتٍ لواقعٍ بلدان العالم الإسلامي، رجل يجمع بين الفكر وأصول الفقه وفقه التاريخ، ويأخُذ زِمام الـمبادَرة ليُوجِّه هذا النداء للأحياء في العالم العربي والإسلامي.
هذا العالم الممتدُّ من مراكش إلى سومطَرة اعتَرضته تحديات ومُهدِّدات أثناء قرونٍ من نزول الرسالة، فأَفْرَزت مناطِقهُ حالاتِ هَدْمٍ داخِلِي تأتَّى من الجهل والتخلُّف والتأخُّر عن رَكب العِلم والإغراق في تصوُّفِ سُكْرٍ[17]، إلا أنَّ ما يُعْنى بهِ (بيغوفيتش) هو رَصْدُ تلك الكوابح التي وُضِعَت أمام مسيرة وأفُق التَّجديد الإسلامي مِن قِـبَلِ فِعْل فَريقين:[18]
- المحافِظين المتزمِّـتين الذين أوْدَوا بالإسلام والتّجديد الإسلامي إلى الجمود.
- والعصريين الـمُـشْتَطِّينَ الذين لا يتناهَونَ عن تغريبهِ.
والعالم الإسلامي وإنْ لم تَكن لنهوضهِ علاقة بقيام التجديد الإسلامي؛ فإنَّه في سَعْـيِه للنهضة وشروعِه في تجاوُزِ حالَة الانْسداد؛ غالبا ما لا يُـقيم اعتبارا للفريقين معا، ويرى في رؤاهما وتأويلاتهما واختزالهما للدين وتشويههما لتعاليمه؛ أفعالٌ صادِرةٌ عن كائنات جامدة كابحة للمسيرة، عابِدَة للمستوى[19] الذي وصَله الغرب، وغير مُسَاعِدة على ثقافة البِـناء. وفي الوقت الذي يُـنَــبّـِــئُـــنا تاريخ بعض الأمم والشعوب أنّ هلاكها وموتها الحضاري كان في تذبذبها إزاء الحضارة الغربية بين “التقليد منها” و”رفضها”؛ تُصِرُّ طَائفتا “المحافظين المتزمّتين” و”العصريين التّبعيين” في العالم الإسلامي على البقاء في منطقة لا تملك معها جوابا على هذا الإشكال المصيري.
(يُـتْـبَع..)
الهوامش:
[1] باحث مهتم بقضايا الفكر الإسلامي والتاريخ، وباحث في سلك الدكتوراه، جامعة عبد الملك السعدي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تطوان.
[2] لا نقصِدُ هنا ما عَناه في الفصل الرابع من كتابه (هروبي إلى الحرية) بقوله: “الإسلام هو فَرضية الطريق الثالث بين المسيحية واليهودية”، ولا مَا قَصَده من الفصل الحادي عَشر المـعَنونِ به (الطريق الثالث؛ خارج الإسلام) من كتابه المفيد “الإسلام بين الشرق والغرب”.
[3] انظر: (بيغوفيتش) علي عزّت: “الإسلام بين الشرق والغرب”، ترجمة محمد يوسف عدس، تقديم عبد الوهاب المسيري، دار الشروق، مصر، الطبعة 6، سنة 2015.
[4] انظر: (بيغوفيتش) علي عزّت: “هروبي إلى الحرية”، ترجمة إسماعيل أبو البندورة، دار الفكر المعاصر، بيروت، الطبعة الأولى، 2002.
[5] أكَّد المفكِّر البوسني المسلم علي عِزّت بيغوفيتش في بعض الحوارات والمقابلات التَّـلفزية التي أُجْرِيت معه قَبل رحيله؛ ولَعه منذ مرحلة شبابه بالمؤلفات ذاتِ التأثير الكبير في مجالات الفلسفة والفكر الإنساني والتاريخ، وقد انصبَّ اهتمامه على قراءة أعمال (إيمانويل كانط) و(مايكل أنجلو) و(داروين)، و(جورج هيغل) و(إنجلز) و(كارل ماركس) وغيرهم، فتملَّك ناصية اللغة الألمانية والإنجليزية إضافة إلى اللغة العربية والبوسنية. وظلَّ كذلك طوال حياته غاصَّا في دراسة أمهات المراجع، وكُبرى النظريات والأفكار، فتشكَّلت لديه ثقافة علمية واسعة، ودراية بالحضارتين العربية الإسلامية والأوربية الغربية. الأمر الذي بوّأه مكانة مُـعتَبَرة بين مفكِّري القرن العشرين، ولا يزالُ تأثير كتاباته وأفكاره ساريَ المفعول، يُرجَع إليه إلى يومنا هذا.
[6] فقد تُرجِمَ كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب” أوَّلَ ما تُرْجِمَ إلى الإنجليزية، وبدَأ انتشاره من كندا، ليُترجَم إلى العربية ثمَّ يجدَ طريقه لاحقا إلى العالم العربي والإسلامي.
[7] كانت البوسنة والهرسك واقِعة بين كُمّاشة الكروات البروتستانت والصِّرب الكاثوليك والشيوعية العاتية، وخُيِّرت بعد تفكُّك الاتحاد اليوغسلافي على الانضمام لكرواتيا أو الانضمام لصربيا دونَ حقّ في اختيار المصير. وعانى لذلكَ المسلمون معاناة أليمة، بين اضطهاد وظُلم وتشريدٍ ومحنة واعتداء عسكري سافِر تابَعه العالم أجمع..؛ وباستِماتة شبابها وجنودها وبَسالة المجاهد البوسني الكبير (علي عِزّت بيغوفيتش) ويَقَظَته وكُتبه التي أعادَت رَبْط البوسنيين بإسلامهم؛ خَرَجت جمهورية البوسنة والهرسك حُرَّة منتصِرة مُسلِمة ظافِرة من ملحمة ومحنة شديدة.
[8] يعيشُ (اليمن) اليوم حرباً وإنهاكاً وتجويعاً ومأساة إنسانية أشدُّ ضراوة مما تعرضَّت له البوسنة في التسعينات، ومناطِق أخرى من عالمنا العربي والإسلامي تعانِي من الطائفية ودَمار الحروب والفقر والتشريد والاعتداء الاستعماري الجديد (بورما، فلسطين، الصومال، السودان)
[9] أشْهَر من نارٍ على عَلَم، مفكِّر وكاتب مُجيد، ومحاميٌّ حاصل على دكتوراه الدولة في القانون سنة 1962، دافعَ عن سيادة بلاده وحقها في الاستِقلال، وكافح إلى جانب أبناء شَعبه في ملحمة نضالية مَجيدة. وُلِد الدكتور علي عِزّت بيغوفيتش يوم 8 غُشت 1925، وتوفيَ يوم 19 أكتوبر 2003، بعد حياةٍ حافِلة بالعطاء وقِيم البِناء والنضال الديمقراطي، وخِدمة الإسلام. ويُعَدُّ بالنظر إلى ما خلَّفه من مؤلَّفات قيّمة، ومسيرة غنية بالتجارب والكفاح والمزاوَجة بين المدارسة والممارسة والعمل السياسي؛ رمزاً فِكريا كبيراً وأبز مُثقَّفي وسياسيي القرن العشرين.
[10] منها: كتابه الرائد: “الإسلام بين الشرق والغرب”، و“هروبي إلى الحرية”، و“عوائق النهضة الإسلامية”، و“البيان الإسلامي”، وفيها جميعاً يحضر الإسلام/الدين الإسلامي وقَضايا الـمُسلمين، وتَظهَر شخصية علي عِزَّت متجاوِزَة حدود الإقليمية البوسنية والانتماء إلى مُسلمي البوسنة، وتخرُج لآفاقٍ أرحَب، إنها أمة الإسلام والعالم الإسلامي. وذاك ما نلمَسُه بجلاءٍ أكبرَ في كتابه الموسوم بـــ (البيان الإسلامي).
[11] سَبَق وأن اعتُقِلَ سنة 1949 على خَلفية اتّهامِه بنشر الإسلام عن طريق جمعية غير مرَّخَصة كانت تحمل اسم (نادي الـمُسلِمين الشُّـبّان)، ثمَّ اعتُقِل ثانية سنة 1983 على خَلفية نَشْرِ كتابِه (البيان الإسلامي)، وحوكِم بــ 14 سنة سجنا نافِذاً، قضى منها خَمْسَةَ أعوامٍ.
[12] (بيغوفيتش) علي عِزّت: “البيان الإسلامي”، منشورات الراية، مطبعة الساحل، الرباط، الطبعة الأولى 1994، ص: 7
[13] في المشرق العربي: (جمال الدين الأفغاني) و(محمد عبده) و(رشيد رِضا) و(عبد الرحمن الكواكِبي)، وفي الغرب الإسلامي (الطاهر حدّاد) و(البشير الإبراهيمي) و(الحجوي الثعالبي) و(علال الفاسي) و(محمد بلعربي العلوي)؛ من أعلام القرن العشرين.
[14] فالإسلام حَسْب الكاتب قوّة دفع خلاقة، وفكرة حيوية حرّكت شعوبنا على مدار 14 قرنا، وعامِل أساس في مجال الثقافة والسياسة عندنا، ومنه وإليه وفيه صلاح معاش العباد ومآلهم الأخروي.
[15] التعبير هنا لنا، ونقصد به؛ الصرخة التي عبّر عنها الإصلاحي العربي الكبير (عبد الرحمن الكواكبي) في كتابه الشهير “طبائع الاستبداد ومصارع الاستبداد” بقوله: “وهي كلمة حَقّ وصرخة في واد، إنْ ذَهبتْ اليوم مع الريح؛ قد تَـذهَــب غدا بالأوتاد”.
[16] حرّر الكاتب نصّه هذا بتاريخ يوليوز 1980، وبالتالي فإنّ المعطيات الواردة فيه، والأشخاص والرموز المحال عليها والمشار إليها، والقضايا التي يثيرها؛ إنما هي في جانب كبير منها ابنة وقتِها وسياقها. إنما قَـصَدْنا من الوقوف عليها؛ إطْلاع مَن لَـم يتعرَّف بعدُ على فِكر الأستاذ علي عزّت بيغوفيتش وتقريبُ جانِبٍ من أفكاره القيمة ومقارباته ورُؤاه، والانتفاع بها في فَهمِ ما جَرى.
[17] يميّز الدكتور أحمد الريسوني في قراءته لمسار وتاريخ التصوف في العالم الإسلامي بين ما أسماه (تصوُّفَ صَحْوٍ) و(تصوّفَ سُكْرٍ). لمزيدِ فائدةٍ يطالَع كتابه “الاختيارات المغربية في التديّن والتمذهب”، منشورات دار الكلمة المصرية، وحركة التوحيد والإصلاح، الطبعة الأولى 2017.
[18] يختلف هذان التياران عن بعضهما، لكنهما يشتركان في أمر واحد: رؤية الإسلام دينا بالمعنى الأوربي للكلمة، و“انطلاقا من الدعوى بأنّ الإسلام دين؛ يَـستَـنتِج الجامدون أنّ الإسلام لا ينبغي له أنْ يُـنَـظِّم الحياة الدنيا، ويَــستَـنتِج العصريون أنّ الإسلام لا يستطيع ذلك، والنتيجة العملية في كِـلتا الحالتين؛ واحدة”، انظر: “البيان الإسلامي”، مرجع سابق، ص: 12
[19] للكاتِب جهاز مفاهيمي خاص، إذ يقفِ الباحث والقارئ لكُتُب علي عِزّت بيغوفيتش على مفاهيم ومُصطَلحات يستعملها ويُوظِّفها بطريقته الخاصة. وفي كتابه هذا (البيان الإسلامي) قُمنا بِجرْدِ بضعة مفاهيم، منها: “عِبادة الـمُستوى”، “الطاقة الساكنة”، “العصريون الـمُـشْـتَطُّون”، “الاقتصاد الانتِـشاري”، “الرأسمالية الاحتكارية”، “الـمُحال الـمُزدَوَج”، “المجتمَع الاعتباري”، “دواوين التفتيش والإرهاب”، “الإسلام النّاهض”، “الإخفاق الأخلاقي”، “هوس حتمية التاريخ”، “الجيل الإسلامي الجديد”، “القومية الـلّأقومية”، “الـتَّـفَـرْنُج”.