لخص محمد مفتاح تاريخ المغرب بعد الفتح الإسلامي في كلمتين متلازمتين: الجهاد والاتحاد. كان الجهاد من أجل نشر الإسلام في مرحلة أولى، والتصدي للفتن والهرطقة والشعوذة والتدخل الأجنبي في مراحل لاحقة. كما أن الاتحاد كان من أجل الجهاد لصيانة المغرب من التفرقة والتفكك. وإذا كان الجهاد ذا بعد ديني كان الاتحاد من أجل بناء الدولة القوية الموحدة. ولا مراء في أن البعدين الديني والسياسي كانا يتأسسان على قاعدة اجتماعية واقتصادية، تخدم مصالح المجتمع. ويؤكد ذلك إيف لاكوست في دراسته عن ابن خلدون، حيث يؤكد أن الدولة المغربية في تاريخها انبنت على قاعدة التجارة مع افريقيا، ولعب دور الوسيط مع أوروبا بسبب الموقع الجيو سياسي الفريد. ولذلك كانت أغلب الدول الناشئة تنطلق من الجنوب، واحتلالها لمراكش العاصمة «الاقتصادية»، هو ما يؤهلها للوصول إلى السلطة عن طريق اكتساب الشرعية بامتلاك فاس العاصمة «الدينية».
جعلني هذا التلازم بين الجهاد (الديني) والاتحاد (السياسي) أرى أن تاريخ المغرب يقوم على ثنائية الولي والأمير، فالولي أو الصالح يؤسس «الزاوية»، أما الأمير فمقصده تشكيل «الدولة»، وكانت العلاقة بين الزاوية والدولة طوال التاريخ تفاعلية سلبا وإيجابا. فضاء الولي ومجال حركته هو البادية، أما الأمير فالمدينة. لكل من الرجلين ضريح يشهد على وجوده التاريخي، وثمة فرق بين الضريحين. صارت لضريح الولي مواسم تقام سنويا في مختلف ربوع المغرب إلى اليوم، ولذلك نجد المغرب مليئا بالأضرحة التي يحج إليها. ونجد بعض الزوايا ما تزال مستمرة، رغم انصرام الزمن، وقد دفعني هذا إلى التساؤل: لماذا سقط الكثير من الدول في تاريخ المغرب، في الوقت الذي نجد فيه الكثير من الزوايا ما تزال قائمة؟ ومن بين هذه الزوايا، على سبيل المثال لا الحصر، زوايا رجراجة التي يقام بها «الدور» في بداية كل ربيع.
انعقد خلال يومي 29 ـ 30 أبريل/نيسان 2025 الملتقى الثقافي الأول في مدينة الصويرة، نظمته «زاوية رجراجة» تحت محور: «المواسم التقليدية رافعة للاقتصاد في الوسط القروي، دور زوايا رجراجة نموذجا». نوه جميع الباحثين مغاربة وافارقة بالملتقى، لأنه يأتي لإعطاء المواسم الشعبية بعدا جديدا، يتمثل في تجاوز ظاهرة الاحتفال الشعبي فقط بربطها بالبحث التاريخي والفكري في المواسم، وتجديد ممارستها في ضوء التطورات الحاصلة ثقافيا وتنمويا.
رجراجة قبيلة أمازيغية لها دور مهم في تاريخ المغرب، تأسست على قاعدة دينية، وتؤكد الروايات الشفاهية أن رجالاتها السبعة زاروا النبي (صلى الله عليه وسلم) إبان البعثة، وعملوا على نشر الإسلام في المغرب، وظلوا محافظين على ذلك إلى اليوم. صارت لهم زوايا وتقاليد وعادات متميزة عن مختلف المواسم التي تقام في البوادي المغربية، كما ظلت الزوايا قاعدة مركزية للتعليم العتيق، وعلى التربية الروحية شأنها في ذلك شأن العديد من الزوايا التي ما تزال مستمرة إلى اليوم، رغم بعض التحولات السلبية التي طرأت على ممارساتها مع الزمن.
دفعتني مشاركتي في هذا الملتقى، إلى طرح السؤال التالي على نفسي: لماذا استمرت زوايا رجراجة، وغيرها، قائمة إلى اليوم، في الوقت الذي لم يبق فيه وجود لدولة بورغواطة، التي تعج وسائل التواصل الاجتماعي بالحديث عنها وتمجيدها، باعتبارها إمارة أمازيغية؟ كان هذا السؤال في الخلفية، وتركزت مداخلتي على: «الاحتفالات الشعبية: تعزيز الهوية الثقافية ورافعة للتنمية»، بهدف تطويرها لتتلاءم مع العصر من جهة، مع الدعوة من جهة أخرى، إلى إعادة قراءة تاريخ المغرب بعيدا عن الأهواء الأيديولوجية والنعرات العرقية، نظرا لما لمسته من أغلب الأحاديث في الفضاء الشبكي، التي تقدم لنا الدولة البورغواطية على أنها ثورة ضد العرب والمشرق لكونها أمازيغية، وأن هذه الإمارة عمرت أكثر من ثلاثة قرون، وأنها تمثل التاريخ الحقيقي للمغرب.
إن تضخيم الدولة البوغرواطية وليد نظرة عرقية إلى التاريخ المغربي، ورغم محاولة بعض من يدعي التخصص في التاريخ إعطاءها بعدا ماديا بسبب خصوصية منطقة تامسنا، فإنه في ما خلا ذلك يعبر عن تأويل عرقي بجعلها أهم من الدولة الإدريسية، وأنها خلافة أمازيغية لها خصوصيتها في تاريخ المغرب. ويتحامل على التاريخ الذي وصفها بأنها ضالة وكافرة، ويدافع عنها باعتبارها تمثل الهوية الأمازيغية الحقيقية، ضد كل ما هو عربي أو مشرقي، وأنها تعرضت للإبادة.
لا مراء في أن المغرب عرف منذ الفتح الإسلامي، اضطرابات وبروز إمارات متعددة، وليست الدولة البورغواطية سوى واحدة منها، لكن تأويل تاريخ المغرب عرقيا هو تأويل لا تاريخي، لأنه لا يأخذ في الاعتبار مجمل العوامل التي ساهمت في تطوره. منذ الفتح الإسلامي صارت العلاقة مع الشرق واقعا ثابتا وقارا، ولا ينكره سوى وثنيي السلفية العرقية. كانت الدولة البورغواطية في بدايتها ضد الفساد، الذي مارسه بعض الأمراء الأمويين. لكنها لم تكن ثورة عرقية أمازيغية. لقد استمدت وجودها من الشرق ومن الإسلام والتيارات الهرطقية، ولذلك نجد بعض ملوكها يتحالفون مع أمويي الأندلس ضد الفاطميين، وأن نجاحهم في السلطة نتاج غياب دولة قوية قادرة على مواجهة الفوضى التي ظلت قائمة. ولذلك نجد قبائل رجراجة الأمازيغية حاربتهم، وحالت دون دخولهم مناطقها. وساندوا المرابطين والموحدين حتى تم القضاء عليهم، لأنهم حاولوا صناعة دين جديد انحرف عما صار عليه المغرب بعد الفتح الإسلامي. ويبين لنا هذا أنها لم تكن حركة عرقية، ولذلك نجح المنافحون عن الإسلام في القضاء على الانحراف الديني. فما معنى استمرار زاوية رجراجة، وزوال دولة بورغواطة؟ هذا هو السؤال التاريخي.
كاتب مغربي
رابط المقال:
https://www.alquds.co.uk/%D8%B2%D8%A7%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%B1%D8%AC%D8%B1%D8%A7%D8%AC%D8%A9-%D9%88%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A8%D8%B1%D8%BA%D9%88%D8%A7%D8%B7%D8%A9/