منذ أن عزمت أمري على مصاحبة ذلك الشارع الطويل راجلة -بدل الغرق في حضن حافلة مكتظة تجوبه- وأنا أفكّر في أنها ستكون محطة مهمة في سلك درب الأنانية الذاتية من أجل الانشراح، والابتعاد عن أهوال الحساسيات العاطفية التي تقف بالمرصاد للمزاج، أن يكون عليك أن تشهد ما لا طاقة لك باحتماله من عبث شركة النقل بكرامة المواطن، وعبث المواطن بالذوق المجتمعي.
نصف ساعة مشي يوميا، خلال الذهاب ثم الإياب في شارع رئيسي كازاوي، كافية لتعيد فيها لملمة كثير من الأوراق المبعثرة، والتطلع بحسرة للأزمات من خارج المركز؛ تتأملها بهدوء نفسي لا تأبه فيه لملاحم المتنافرات التي تعيش بينها ويلومك كل طرف منها على ابتعادك عنه، لأنك أدركت أن ملحمة المجتمع هي هاجسك، وألا شأن لك بعدُ في أن تكون من يمين ولا يسار؛ لأن القضية أوسع من أن تُحصر معالمها في أشكال ومفاهيم محددة مؤطرة.
ألتفت تارة باتجاه اليمين لأرقب منظر حافلة مكتظة عن آخرها، وكأنني ألمح الشباب المعلقين على بابها يحذوهم توق الطيران إلى فضاءات أرحب، يتبوؤون مقاعدهم منها بأعناق مشرئبة للسماء؛ وما أجمله حلما ذاك الذي يُبعد المرءَ عن عاطفة السخط التعيسة، فيكون بهياً بجنون الانعتاق!
أُطأطئ رأسي في اجترار لهذا الخاطر، ثم أمصمص شفتاي بالحمد لملهمي فكرة الهرب من تلك الملحمة المجتمعية الساخنة وأنا أتساءل: “أما كان على تلك المقاطعة الشعبية أن تبدأ من ههنا، من إعادة الاعتبار للمواطن في حقه في الوقوف مستقيما داخل حافلة؟!”
أُجابه سيل خواطر أنانيتي المسوِّلة لي أيضا بأن أنتشي بهذا العتق الرنان، لأصطدم بمنظر متمرد على يساري يحملني على الوقوف دون أدنى تردد؛ زهرةٌ من نوار الشمس تبرز على الرصيف بين الأعشاب البرية متكئة على سور إحدى الفيلات، في تطلع متكبر لا يملك المار عن استغرابه بدلا؛ كيف أمكنها أن تستأسد على كل هذه الفوضى الصاخبة أمامها، دون حاجة لرعاية أو تحويط؟!
وسرعان ما يجيبني رجيع صوتي بما همهم به بداية: ليست آمالا دفينة يا مُهلوسة، بل انعتاقُ واثقة، همٌّ لا تأبه فيه لما يقوله الناس عنك ولا لما يريدونه منك، لأن إرضاءهم غاية لا تُدرك، ولأن قيمة المبادئ الكبرى أهم من كل حنق وتعصب!
أُكمل الطريق متثاقلة وهاجس هذه الأنانية الثائرة يطوقني؛ أليس لنا تاريخ؟ عنفوان؟ ملاحم؟ تراث مشترك؟ وكل ما من شأنه أن يكون بذرة لاشرئباب متماسك مماثل؟
أليس لنا ما يكفي لنكون شعبا بكتلة تاريخية تنشد المحبة والإنسانية والنهضة؟ أليس يمكننا أن نخرج عن ضيق الأنماط الجاهزة ونشهد بوضوح رهانات الواقع متفاعلة أمامنا؟ ألن يكون لضميرنا الجماعي التائق للتفرد أنانيةٌ للسبق، ننبذ بها حواجز الصراع التقليداني حول الأفكار؟
آمر أنفاسي بالخفوت أمام سيل التساؤلات، وخاطر قرآني يمر علي هامسا: {فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالحق وتواصوا بالمرحمة، أولئك أصحاب الميمنة}، ولا يكاد يخترق الجوانح حتى يشتعل بخاطر ملهم آخر: {أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين…}
أقف مستحيية من رحابة هذه المنظومة الإنسانية المؤمنة بقيمة مبادئ التراحم والتضامن والاحتواء، أمام كل الأشكال والألوان والمظاهر والسخافات، وما ألبث منطلقة في انتشاء حتى أجد ريح النسيم يتبعني وهو يهمس:
” بعيدا عن اليسار واليمين يا صديقتي، هناك أصحاب المبادئ، هناك المنصفون الواثقون الصامدون، هناك الأخيار، هناك المؤمنون الصادقون، هناك المحبون بعمق لكل جمال الباحثون عنه في كل مسار وتوجه، هناك التائقون لإنسانية غير مفتعلة، غير متعالمة، تروم تواطؤا على الصدق مع الذات ومع البشريّة.
تلك الزهرة المشرئبة خارج السور، ليست تشهر سلاحا ولا انتهارا، هي لا تتعجب سوى من متعصب مر أمامها ورماها غيظَه، ثم هرب!”.