دهشةٌ طفوليّة، واندفاع ممتلكٌ للطبيعة ومنصهرٌ فيها؛ هكذا تبدو شخصية “زوربا” بطل رواية الكاتب اليوناني نيكوس كازنتزاكي التي يحمل عنوانها الاسم ذاته، وتمضي لتستغرق أحداثَها في وصف مشاهد الحياة التي تجمع الستينيّ الشغوف، والبدائي المثرثر، بالثلاثيني القارئ المتأمّل الذي بات معجبا بحكمة رفيقه، ينشُد فيها عفويّة رسالة الحياة وصدقها ليطرد حيرة الكُتب وتلاوينها.
يلتقي اليونانيّان في سفر إلى المجهول، وينخرطان في شراكة رئيس ومدير شركة، ليحطّا الرحال بأحد شواطئ جزيرة كريت اليونانية، حيث تقرّر أن يبدأ عملها كمنجم للفحم في التنقيب والتصدير؛ ويظهر الرئيس الشاب وهو مشدود لحنكة مدير أعماله عجوزاً قويّا بساعده ونبيها بتدبيره للعمّال وقيادتهم، وديبلوماسيّا في علاقته بأعيان ورهبان القرية التي نزلا جوارها، وفوق كل ذلك منطلقا لشهواتِ الحياة بروح شبابيّة لها منطقها البدائي الذي تدافعُ به عن اختياراتها، وتضربُ حكمة الشرق التي يتدثّر بها رئيسُه عرض الحائط، حتى أنّ هذا الأخير يقف عاجزا عن أن ينتقدها، بل إنّها تلهمه وتسعده، وتفتح له أبواب ما غاب عنه.
لماذا زوربا أمام شخصيات فاتحة مرشيد؟
التّمرّد هي السمة المرافقة لأوجه التشابه في هذه المقارنة، أمّا الزمكان فمختلف تماما ومؤثر على الديكور سواء من حيث الأدوات (البنادق والبغال والسفن والرسائل الورقية أمام وسائل المواصلات والاتصالات والأجهزة الحديثة)، أو من حيث التاريخ والقوميّات (ذاكرة يونانيَّيْن حديثي عهد بحروب عالميّة أوروبية مع منتصف القرن العشرين، أمام ذاكرة شخصيات مغربيّة منخرطة في حداثة القرن الحادي والعشرين ومأخوذة بعراقة الانتماء)، أو من حيث المجال الترابي (القرية اليونانيّة القديمة أمام المدينة الحضرية الحديثة).
تحاول الروائية المغربية فاتحة مرشيد أن تصوّر كواليس الواقع الاجتماعي الحضريّ في معاناته النفسيّة أمام نوازع جسده المحرومة، ولهذا يوصف أبطال رواياتها بالتطرّف، إذ لا يبدو هناك أي تحسّس من تلك النزوعات، بل تحرص الكاتبة على تجسيد تفاصيلها وتسجيل أنّاتها وسرد خلفيات النشأة لتحيلنا على ذلك التضارب في النظر لفعل الإنسان إن كان حُرّا يستمد معناه من ذاته أم هو نتاج لقهريّة تمارس عليه من طرف الوعي الجمعيّ. ولذلك تأتي صفة التمرّد المشتركة في الولع الذي يحمله “ادريس”، كاتبٌ يستمدّ الطاقة لكتاباته من مغامراته الجنسيّة مع مُلهماته في رواية “الملهمات” ويصرّ على تخليد التجربة كتابة، أو في التمرد الذي يحمل شاف عالمية “إسلان” على الرغبة في إنهاء حياتها لإنهاء آلام مرض السرطان التي تحتجزها في أجهزة، وتمتلك أنفاسها وتحصرها في اجترار الإحساس بشفقة من حولها تجاهها، وهكذا تتضاعف جروحها وهي تبصر السواد الذي يلفّ زوجها المغرم بها وهما ينتظران موتها الأكيد، في رواية “الحق في الرحيل”.
التمرد كذلك يبرز في حميّة الشاعر المكتئب “وحيد” الذي طالما كان منخرطا في علاقات جنسية متعددة لإشباع لذّته، في رواية “لحظات لا غير”، هو المستأنس بمحبة زوجته وحياته الهادئة معها دون أن ترفضه أو يرفضها، بل يرى استمرار علاقتهما في استمرار لذّته البعيدة عن معنى الخيانة، أو التمرّد مجددا في حياة نساء رواية “مخالب المتعة” الثريات، الباحثات عن سبل تعويض حرمانهنّ الجنسي الذي فرضه زواج يشتري جمال الفتيات من الأهل دون أن يمنحهنّ حقّ الاختيار…
التمرّد في حياة زوربا وحيوات أبطال فاتحة مرشيد إذن ينزعُ إلى الثورة، إلى الاطمئنان بالفعل المناقض لخلفية المجتمع وما تحاكمه به من أعراف وقوانين ومُثل، تعيش كل مشهد كحقّ أصيل تتشبث بالدفاع عنه انطلاقا من بشريّتها التي تريده، والتي تظن أنه لا يمسّ حق أحد.
يقول زوربا وهو يحدث رئيسه، حسب ترجمة جورش طرابيشي للرواية الصادرة عن دار الآداب عام 1987: “إنّني كلما كبرتُ ازددتُ توحشا، ليكُفوا عن القول لي إنّ الشيخوخة تُشذّب الإنسان وتهدّئ حرارته، وأنّه يمد عنقه للموت عندما يراه وهو يقول: ‘اقطع رأسي من فضلك، كي أذهب إلى السماء!’. أمّا أنا فكلما تقدّم بي العمر، ازددت تمرُّدا، إنني لا أستسلم، بل أريد أن أغزو العالم.”
ويردُّ الشاعر وحيد على سؤال معالجته النفسية عن علاقته بزوجته: “سوزان إنسانة رائعة خارج مؤسّسة الزواج، المشكلة في المؤسسة ذاتها، اليوميّ يقتل الحب، والرتابة ضد الإبداع. الشاعر طائر حُرّ والزواج قفص.”
ليس يهُمّ في فعل التمرد على المؤسسات حسب هؤلاء الأبطال، مهنة معينة أو مستوى معيشي أو مكانة اجتماعية، كل المراتب أخذت حقّها من الانخراط. فإذا كان وحيد شاعرا مثقفا ورومانسيّا مهموما، فإن أشواق الحرية كثيرا ما تتراءى له في شغفه الدائم بخرق نظام لا يريد أن ينتمي إليه، وكذلك الأمر بالنسبة لزوربا القرن العشرين، هو لا يعدو كونه بدائيا ضئيل الثقافة، يتنقّل بين حرف وأعمال عديدة شاقة، لكنه كثيرا ما يوجّه أسلحته لهدم أسس المؤسسات التي لا تخدم منطق الإنسان الذي يريده، ويعبر عن ذلك بعفوية سرده ووصفه:
” أصغِ إليّ، وستحكم عليّ فيما بعد، أنا، إنني سندباد بحري. ليس ذلك لأني جبتُ العالم، ليس لذلك، مطلقاً! لكنّني سرقت، وقتلت، وكذبت، ونمت مع مجموعة من النساء، وانتهكت كلّ الوصايا. كم وصيّة هناك؟ عشر؟ آه ! أودُّ لو كان هناك عشرون، خمسون، مئة، كي أنتهكها جميعا. ومع ذلك، لو أن الله موجود، لما خفت مطلقاً أن أمثل أمامه، حين يجيء اليوم الموعود، لست أدري كيف أشرح لك كي تفهم. كل هذا أعتقد ألا أهمية له. هل يتنازل الله ويعير اهتمامه دود الأرض ويحاسبه؟ ويغضب ويثور لأننا خطونا خطوة خاطئة، ودسنا على أنثى الدود من طرفها؟ أو لأننا أكلنا لقمة لحم، يوم الجمعة المقدّس؟ أفّ، ما أدعاكم إلى السخرية أيها الكهنة المليئون بالحساء! “
هذه الآن مؤسسة الدين، والتي لا يتورّع زوربا على احتقار ممثليها، وهو الذي رآهم في خدمة مطامعهم وخدمة السلط الفاسدة، ويستهزئ من اللامعقولية التي يفسّر بها رجال الدين معجزات يختلقونها، عدا ادعاء الفضيلة التي ينتهكونها في الخفاء. في حين كان زوربا يحترم روحانية رئيسه المتعلق ببوذا، لأنه كان متصالحا مع أفكاره ورحيما بجميع البدائيين حوله، بل أحبّا بعضهما لدرجة استصعب معها الفراق ثم استحال إلى أشواق.
يصوّر كازنتزاكي شخصية زوربا الحسّاسة أيضا رغم دهائها وشيطنتها وشهوانيتها، ويصف نزوعات الطبيعة البشرية التي لا تفتقد الإخلاص والمحبة والشفقة، وترنو لحياة سعيدة تحتكم فيها لقلبها، في إشارة لطبيعة النفس البشرية الهائمة حول التملّك تارة والكينونة تارة، والبحث في كنه الوجود والحيرة منه تارات أخرى. وفي هذا يتحدث الراوي ليفسّر التمرّد عند هذه الشخصية: ” التمرد، إذن؟ قفزة الإنسان الدونكيشوتية لقهر الضرورة، لإخضاع القانون الخارجي لقانون روحه الداخليّ، لنفي كلّ ما هو كائن، ولخلق عالم جديد أفضل، وأكثر نقاء وأخلاقية، لخلقه حسب قوانين قلبه، التي هي نقيض قوانين الطبيعة غير الإنسانية.”
هذا التفسير تماما هو ما تحاول فاتحة مرشيد أن تجعله أساسا للغتها الشعرية السردية، صحيح أن شخوصها مختلفة لا تمت لقضية اجتماعية واحدة تنتصر الكاتبة لها على حساب الأخرى، بقدر ما تحاول صلب الواقع على الورق ورسمه، حتى باستعارة خطاب المتكلم الرجل في العديد من رواياتها، كما وأنه رغم كون أبطالها من نخبة المجتمع المغربي (صحفي، شاف عالميّة، كاتب، زوجة رئيس دار نشر تنازلت عن إدارة العمل في الدار بعد الزواج، طبيبة نفسيانية، شاعر…) المتنقلين شرقا وغربا، والحداثيين المتغلغلين في عراقة وطن يعيشون بذاكرته أكثر من تصوير عيشهم بثقافته، إلا أنها تحكي علاقاتهم بشخصيات ثانوية حبيسة ثقافة معينة، لكنّها تتشارك معها الاضطراب الإنساني نفسه.
“كان دائما يتأرجح بين الشيء وضده، تتضارب داخله أسمى العواطف وأرذلها، ما إن يجد ملاذاً في فكرة من الأفكار حتى تقتحمه الفكرة النقيض، مما جعل الملاك والشيطان يتضاربان في داخله باستمرار.” هكذا تصف الكاتبة شخصية “صلاح” الثانوية بين مشاهد رواية “الحق في الرحيل”، والذي يمكن أن نلخّص به السمات المشتركة لجلّ الشخصيات.
الآن وبالعودة لكنه العنوان، وبعد تعداد التمثلات وأوجه التشابه، أيُّ حقيقة تختبئ وراء ضعف الإنسان في الاحتكام للدين والمثُل، وضجره من المؤسسات، بنزوعه للحرية الغرائزية النازعة لإشباع اللذة، وهو ما يبدو جليا في اضطراب مجتمع بين القول والفعل، وبين الاعتقاد والسلوك، إذ ليس بالضرورة أن يكون قد عانق تمرّد زوربا وأبطال مرشيد؟
هل حقّا عجزت المنظومات الشرائعية أن تحتوي طبيعةً هذا قدرها في استمرار الاضطراب؟
وهل الاضطراب خللٌ ما دمنا نتحدث عن “طبيعة بشريّة”؟
ما القوة التي جعلت الطبيعة الروحية أكثر عمقا لدى بعض الناس؟ أو بطريقة أخرى، لماذا يكون الرئيس في رواية “زوربا” والياباني هيروكي في رواية “الحق في الرحيل” مختلفان؟
أسئلةٌ يبدو أنها أساس البحث الوجودي والاستمرار…