لم يعد خافيا منذ سحيق الزمان أن الفن استطاع تحقيق توازن مهم، ليس فقط على صعيد حياة الفنان، بل أيضا على مستوى التوازن بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، حتى صار البعض يعتبره مرآة المجتمع، وبديلا للحياة بلغة موندريان.
ولا غرو أن العصور القديمة التي بزغت منذ مطلع وفجر التاريخ تعود لها اليد البيضاء في تبدع جاذبية الفن عبر التاريخ البشري، وفق معايير وخصوصيات أضفت جمالا ساحرة على ذاك الفن. بمعنى آخر من المعاني، لعب الجمال منذ بدايات البشرية دورا هاما في ازدهار الوضع البشري.
وعزة على هذا السياق، نستحضر مقولة إبراهيم هبة، في مقاله الموسوم “بالأنطولوجية الطبيعية” والمنشور بمجلة “الملتقى”، إذ يقول: “صيرورة الكائن تجري وفق ثلاثة إحداثيات، الحق والخير ثم الجمال، وإذا تفاعلت هذه الإحداثيات فيما بينها سينتج عن هذا التفاعل ازدهار الوجود الإنساني”.
ويفيد هذا القول قيمة الجمال في ازدهار الوجود الإنساني وتقدمه.
ولا نبالغ في شيء إذا قلنا إن سؤال جاذبية الفن في البراديغم الكلاسيكي يعد من الأسئلة الشائكة جدا التي لم يتم الحسم فيها رغم العدد الهائل من الدراسات التاريخانية والكرونولوجية المنجزة في هذا الجانب، حيث إن الانقسام ظل سيد الموقف بين من ينظر للفن في البراديغم الكلاسيكي -سواء الفن الذي عرفته الحضارات الشرقية القديمة، ثم الإغريقية وحتى المرحلة الوسيطة- بصفته الفن الحق الذي يجب أن يكون عليه، لكونه يتضمن القيم والمعايير الجمالية المانحة له الجاذبية التي وجب توفرها في أي فن داخل أي مجتمع، وبين من ينظر إليه باعتباره فنا فارغا يغلب عليه السحر والميثولوجيا ولا يحتوي على قيم جمالية تعطيه جاذبية خاصة.
يتغيا ماركس في هذا السياق، إزالة الرثة التي تغطي الأسئلة الممكن طرحها في هذا المنحى. إذ وصف الملحمة على أنها الشكل الفني الملائم للمجتمع المتخلف، وقال: “ليست هناك صعوبة في إدراك أن الفن الإغريقي والملاحم إنما ترتبط بأشكال محددة من أشكال التطور الاجتماعي، ولكن الصعب حقا هو تحديد السبب الذي يجعل من ذلك الفن مصدرا للمتعة الجمالية حتى اليوم، بل ويجعله من بعض الوجوه معيارا أو نموذجا يصعب الوصول إليه. ويفيد الشق الأخير من قول ماركس هذا، صعوبة تحديد المعايير الجمالية للفن الكلاسيكي، مما يجعل الرغبة في إيجاد هذه المعايير ملحة أكثر، لأن ما يميز فنا عن فن آخر، أو ما يعطي للفن جاذيية ساحرة خاصة به، هو المعايير والقيم الجمالية التي يحتويها.
في حين نجد “إرنست فيشر” يقول في كتابه “ضرورة الفن” القول التالي: “أخد الدور السحري للفن يتراجع شيئا فشيئا أمام دوره في كشف العلاقات الاجتماعية وفي تنوير الناس في مجتمعات كان يسطير عليها الظلام، وفي معاونة الناس على إدراك الواقع الاجتماعي وتغييره، فلم يعد في الواسع تصوير المجتمع المعقد بعلاقته المتشابكة وتناقضاته الاجتماعية في شكل أسطورة”.
مقتضى ما سلف أن السر وراء جاذبية الفن هو كما ذكرنا آنفا، الخصوصيات والمعايير والقيم التي يتميز بها الفن. على هذا يهمنا طرح عدة إشكالات وهي كالتالي:
- ما مهمة الفن في البراديغم الكلاسيكي؟
- ماهي المعايير التي كان يعتمد عليها في الفن الكلاسيكي كي يقال هذا الشيء جميل؟
- هل صفة الجميل تتعلق بما هو موضوعي أو ترتبط بحكم شخصي يختلف من فرد لآخر؟
- ماهي الخصوصيات التي تمنح الفن الكلاسيكي جاذبية خاصة به؟
يومئ الشيء الكلاسيكي إلى شيء تقليدي أو قديم وعتيق، ويطلق على الشخص الذي يتمسك ببعض الأشياء القديمة التقليدية. على أن لفظ “كلاسيكي” هو في الأصل لفظ يوناني ويعني الطراز الأول أو الطراز الممتاز. وإذا ما اقترنت هذه الكلمة بكلمة أخرى وهي الفن، -الفن الكلاسيكي- ستتشكل مرآة المجتمع القديم.
إن المرحلة الكلاسيكية في الفن لم تتشكل إلا إبان المرحلة الوسيطة قرب بروز عصر النهضة، حينما ظهرت المدرسة الكلاسيكية. بيد أن البراديغم الكلاسيكي لا يتحدد في بداية هذه المدرسة فقط، وإنما هو امتداد للعصور القديمة، من تعلم الإنسان استخدام الأدوات الموجودة في الطبيعة مرورا بالحضارات القديمة ثم المرحلة اليونانية وصولا إلى تأسيس المدرسة الكلاسيكية التي كانت عصارة لكل هذه المراحل التاريخية طبعا.
وقد ارتبط الفن في البراديغم الكلاسيكي قديما بالعمل، إذ اعتبر صورة من صور العمل الذي يمثل النشاط المميز للجنس البشري، فكما يقول ماركس: “عملية العمل هي نشاط هادف، يرمي إلى جعل المواد الطبيعية ملائمة للاحتياجات البشرية. والعملية هي الشرط العام اللازم لتبادل المواد بين الإنسان والطبيعة وهي الشرط الدائم الذي تفرضه الطبيعة على الحياة الإنسانية، ولذا فهي مستقلة عن أشكال الحياة الاجتماعية أو بالأحرى فهي مشتركة بين مختلف الأشكال الاجتماعية”. وإن دل هذا القول عن شيء فإنه سيدل على قيمة الفن الكلاسيكي، وخصوصيته في الاعتماد على الطبيعة ومحاكاتها. فقد اعتبر الفن كلاسيكيا الطريقة المثلى لصناعة شيء تبعا للمجتمع، وأول صنيع للفنون الجميلة. إذ أن مهمة الفن في البراديغم الكلاسيكي تتحدد في التعبير عن “الجميل”.
على أن التفكير السائد آنذاك أنه يوجد “جمال في ذاته” وهو شيء مثلي كوني، بمعنى أن النظرة التي كان ينظر بها إلى الفن، هي نظرة فنية مبنية على روح مثالية، سيصطلح عليها فيما بعد ب”المثالية الكلاسيكية”، إذ تتأسس هذه الرؤية الكلاسيكية للفن على خواص محددة وهي: التناغم – الصفاء – الأصالة – النضارة – تحريك الأحاسيس، كما هو الحال حينما ننظر إلى صورة العذراء لرفائيل، وكذلك حينما نستمع إلى سوناتا كنائسية، ثم قصائد شعراء الحقبة الكلاسيكية.
إن مهمة الفن في البراديغم الكلاسيكي تكمن في جعل الواقع مثالياً، ثم إقصاء المخيلة والاعتماد فقط على العقل، والتعبير عن الجمال، إضافة إلى البحث عن الجمال الفني الطبيعي لكونه نتاج طبيعي. فقد اعتبر نفر غير هين من المفكرين أن العمل الفني في البراديغم الكلاسيكي توجه نحو ملامسة المثالية العارضة التي تعرضها الطبيعة والاقتراب منها.
فقد كان القدماء يحاكون الطبيعة، بنظرة كونية مثالية، فأضجى سافرا القول، إن الفن في المرحلة الكلاسيكية هو محاكاة الطبيعة وملامسة المثالي والاقتراب منه، بحيث كان الإنسان القديم يعمل على التحكم في الأشياء وجعلها ملك يده عن طريق تحويله إياها، حتى قيل إنه يحلم بالسيطرة على الطبيعة بوسائل خارقة، وبأن يتمكن من تغيير الأشياء وتشكيلها في صورة جديدة بوسائل سحرية.
كما ذكرنا آنفا أن الخصوصيات التي يتميز بها كل براديغم هي التي تضفي على فنه جاذبية خاص به، وعلى هذا المنوال وجب تحديد الخصوصيات والملامح التي تميز بها البراديغم الكلاسيكي.
إذ اعتمد بشكل كبير على الرسم الدقيق للأشكال بحيث تكون الموهبة هي المتحكمة فيها. بيد أن الأصول الجمالية كان لها الدور الأساس في هذا الفن، فمثلا نرى جميع الأعمال الكلاسيكية للمجسمات، أن الرجال عمالقة وأبطال في كمال الأجسام، والنساء ملكات جمال تتحلى بالجمال المثالي. ومن أهم البنود كذلك في الفن الكلاسيكي هو أن يسود العقل حتى يصبح هو المعبود.
وقد تغيا الفن الكلاسيكي تجسيد الجمال في جوهره الخالص المجرد دون أن يتم ترك أي بعد للغيب أو حتى للخيال في ذلك التعبير الفني.
هذا ما يظهر في معظم الأعمال الفنية الكلاسيكية التي تميزت بتحويل الصورة الطبيعية إلى القيم الزخرفية والجمال الهندسي، الذي يخضع لأحكام العقل وهو الجمال الهندسي الذي يتم من خلاله استخدام الخطوط الحادة والبناء المحكم. ومن أهم خصائص الفن الكلاسيكي كذلك أنه غني بالألوان.
وكأنمودج لكل هذا وذاك، نذكر، تصور هوميروس وأسخيلوس وسوفوكليس، الظروف البسيطة لمجتمع قائم على العبودية، كانوا مقيدين بعصرهم وفات آوانهم، ولكن بقدر ما كشفوا في ذلك المجتمع عظمة الإنسان، وسجلوا في شكل فني صراعه، وألمحوا إلى إمكانياته غير المحدودة.
ولا يمكن الحديث عن البراديغم الكلاسيكي دون الوقوف عند المرحلة اليونانية، إذ كان اليونانيون متمكنون من عملية نحت أو رسم الشخص في وضع مثالي للغاية وبالنسبة المثالية. ونجد أقطاب المرحلة اليونانية أفلاطون وأرسطو لهم آراء عديدة في الفن. فقد اعتبرت نظرية أفلاطون أول نظرية في الجمال ذات شأن، بحيث آمن أن لكل موجود حقيقي في عالم الواقع أصلا أو أنموذجا أصلية في عالم المثل الذي يقع خارج نطاق حواس الإنسان. كما أن أرسطو بدوره تكلم عن الفن كتقليد ومحاكاة، إلا أنه ابتعد عن المعنى الأفلاطوني. فقد رأى أن الفنان يقلد الأشياء ويجعلها كما ينبغي أن تكون، إذ إن الفن يكمل ما عجزت الطبيعة عن إكماله. وبالتالي فكل عمل فني هو محاكاة للكمال الكوني.
مقتضى ما سلف، إن النظرة الكلاسيكية للفن هي نظرة شمولية كونية، إذ إن الخصوصيات التي تحلى بها والتي ذكرناها آنفا هي التي أعطته جاذبية خاصة به.
بيد أن وصول العصر الوسيط الذي شهد بروز نفوذ الكنيسة، وتحكمها في السلطة والمجتمع، جعلت من الفن قاصرة عن التعبير على الأمور التي توافق ما ترمي إليه الكنيسة، وبقيت الأمور هكذا حتى ظهرت المدرسة الرومانسية في عصر نهضة، إذ شكل هذا الأخير إرهاصا أوليا وأساسيا لبروز المرحلة الحديثة، بحيث تغيرت القيم الجمالية في مطلع الحداثة، وطبعا تغيرت معها الخصوصيات.
…
____
- المراجع:
- إرنست فيشر – ضروري الفن – ترجمة، أسعد حليم، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- إرنست غومبرتش – قصة الفن – ترجمة، عارف حديفة، هيئة البحرين للثقافة والآثار.
- كلود سيرنسكي – الفن الحديث – تعريب، أحمد صالح غالب الفقيه، المؤسسة اليمنية للتنمية الثقافية.