صحيح البخاري على المحك
أولا
إلى الآن أثبتنا أن السنة النبوية الحقيقية هي مجرد حكمة وقتية، لكنها للأسف لا توجد خالصة في كتاب، وأما المحاولات التي ذكرها المؤرخون فقد باءت كلها بالفشل، لأنها استبعدت شهادة القرآن، وبُنيت على مقدمات اعتقادية طائفية، وانطوت على خلل منهجي قاتل.
وقاعدة العدالة التي هي أهم قاعدة في التصحيح والتضعيف، قد بينا أنها قاعدة زائفة، فلا أحد له القدرة على أن يحكم بعدالة أحد، ولا حتى بعدالة نفسه، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 49-50]
وبهذا تنهار أسطورة منهج النقد الحديثي الذي لا يشق له غبار، بقي أن نقف على شواهد حية ناطقة بالتزوير الفج الذي تسلل إلى كتب الحديث، وسنختار إن شاء الله أمثلة مما يقال له (حديث صحيح) وبالأخص مما في صحيح البخاري.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ» [رواه البخاري]
هذا الحديث مبني على أن الشمس تشرق على جميع الناس دفعة واحدة وتغيب عنهم أجمعين، وأن شروقها في اليوم الموالي يكون من تحت العرش بعد أن يأذن لها ربها بشروق جديد.
والحس اليوم يكذّب ذلك، بل أطفال العالم المعاصر لا يقبلون هذا التصور الطفولي البالي، إلا من باب التسلية بعيدا عن الحقائق القاطعة. لكن حماة العقيدة لا زالوا يكابرون، ويأتون بالتفاسير الخرقاء التي يهينون بها النبي (ص)، ويشوهون الإسلام، وهذا الحديث للأسف من الأحاديث التي يتداولها الملاحدة، ويعتبرونه من الشواهد الصارخة على أن الإسلام صناعة بشرية، خاصة وأن البخاري جعله في صحيحه تفسيرا لقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]، فتوصلوا إلى الطعن في القرآن من خلال الطعن في الحديث.
حديث آخر من صحيح البخاري عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الوَزَغِ، وَقَالَ: كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
أيعقل هذا؟
يعني أن الوزغ الذي يجب قتله هو نفسه الذي نفخ ليؤجج النار؟ أم هي ذريته؟ أم أن المقصود من قتل (أبرياء) الوزغ أن يكون طقسا انتقاميا لإظهار التعاطف مع خليل الله؟
وماذا كان يا ترى موقف باقي الحيوانات حينما وصلها خبر المحرقة التي تعد لإبراهيم عليه السلام، أيعقل أن لا يكون قد تعاطف مع إبراهيم بعضٌ منها فحركته حمية الإيمان. لا بد أن تكون مثل هذه التساؤلات قد ثارت في خاطر أحد الذين خرّجتهم هذه الثقافة الأسطورية فجاءنا بخبر النملة التي غضبت لإبراهيم عليه السلام، تقول الحكاية:
عندما قام النمرود بإلقاء سيدنا إبراهيم عليه السلام في النار، سمعت بهذا الخبر نملة، فقالت لنفسها: ما العمل؟ كيف أستطيع أن أساعد خليل الله؟ لا ينبغي أن أقف مكتوفة اليدين، فإن الله سيسألني يوم القيامة.
صنعت النملة وعاءً مُحكماً، ثم اتجهت إلى البحيرة وملأته ماء، ثم حملته بشقِّ الأنفس على ظهرها، وأخذت تحث الخطى نحو النار المؤججة.
في الطريق رآها غراب فسألها: إلى أين أيتها النملة؟
النملة: إلى مدينة النمرود.
الغراب: وما هذا الذي يثقل ظهرك، ويعثر سيرك؟
النملة: وعاء ماء.
الغراب: ولماذا تتجشمين حمله؟
النملة: ألم تسمع أن النمرود لعنه الله أوقد ناراً عظيمة لإحراق خليل الله إبراهيم عليه السلام؟
الغراب: لا، لم أسمع! ولكن لم أفهم ما علاقة ذلك بما تعملين؟
النملة: أريد أن أساهم في إطفاء هذه النار.
الغراب ساخراً: هل تعتقدين يا غبية أنك تستطيعين بهذا الوعاء الصغير إطفاء نارٍ كبيرة كنار النمرود.
النملة: أعلم أنني لن أستطيع إطفاء النار، لكنني أفعل ذلك معذرة إلى الله، حتى إذا سألني يوم القيامة تكون حجتي معي.
سخر الغراب من كلامها ومضى، أما النملة الصادقة فاستمرت تسير نحو نار النمرود، مملوءة إيمانا وعزما.
هذه قصة من الأدب الصوفي الإسلامي، لم ينقصها إلا أن تكون في عصر الرواية لتتشرف بسند متصل إلى النبي (ص)، وإلا فما الفرق بينها وبين قصة الوزغ اللعين؟
قد نضطر لقتل الوزغ أو غيره من المؤذيات، ولكن ليس بناء على هذه العلة الأسطورية.
ثانيا
أخرج البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (ص) وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ قال: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ.
هذا الحديث في غاية الصحة عند المحدثين لاتفاق البخاري ومسلم عليه، وقد تضمن إخبارات خطيرة جدا، جعلته في مجازفة لا تقبل الحلول الوسطى، فإما أن يشهد له العلم الصادق بالمطابقة للواقع، وإما أن يحكم عليه بالبطلان حكما لا يقبل النقض.
والحديث فيه مسألتان، مسألة توقيت الأطوار المذكورة، ومسألة نفخ الروح.
أما مسألة التوقيت فقد عارضه فيها حديث آخر رواه مسلم في صحيحه عن حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، وهو يدل على أن الأطوار الثلاثة بالإضافة إلى أطوار أخرى تقع كلها في ثلاث وأربعين ليلة.
قال ابن الصَّلَاحِ: وَحَدِيث بن مَسْعُودٍ لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ، وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَأَخْرَجَهُمَا مَعًا فَاحْتَجْنَا إِلَى وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا (1).
لا تعنينا محاولة الجمع المتعسفة التي سلكها ابن الصلاح، لكن الأهم هو جعله حديث ابن مسعود هو الأصل لأنه الأصح حسب قواعد المحدثين، فينبغي أن يكون توقيته هو التوقيت الصحيح، ولهذا قال ابن حجر في بيان ما ينبغي أن يعتقده المسلم السّنيُّ: وَحَدِيثُ ابن مَسْعُودٍ بِجَمِيعِ طُرُقِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنِينَ يَتَقَلَّبُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْوَارٍ، كُلُّ طَوْرٍ مِنْهَا فِي أَرْبَعِينَ، ثُمَّ بَعْدَ تَكْمِلَتِهَا يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ (2).
لكن قد ثبت في علم الأجنة ثبوتا عيانيا أن النطفة والعلقة والمضغة تحدث كلها في الأربعين ليلة الأولى، ثم ينتقل الجنين بعد ذلك إلى بقية المراحل المذكورة في القرآن، وهذا ما يعني أن حديث الصادق المصدوق لا يصح عن الصادق المصدوق (ص).
وقد أقرت الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، التابعة لرابطة العالم الإسلامي، بأن نص الحديث الذي سقناه سابقا قد وقع فيه مخالفة صريحة لما ثبت علميا ثبوتا يقينيا، قال الدكتور عبد الجواد الصاوي الأخصائي في طب الأطفال ونائب تحرير مجلة الإعجاز العلمي: “وهذا يبطل الاحتجاج برواية البخاري في تحديد زمن أطوار الجنين الأولى” (3).
أما نفخ الروح في الجنين وهي المسألة الثانية فلم يصح فيها عند المحدثين غير هذا الحديث، فبقيت كالمعلقة، ولو فرضنا لها سندا في أعلى درجات الصحة فإنها ستكون في مواجهة معضلتين:
المعضلة الأولى: أن علم الأجنة قد أثبت أيضا أن الجنين يكون حيا قبل تمام الأربعين الأولى.
والمعضلة الثانية: معارضة القرآن، وبيان ذلك يحتاج إلى تحقيق في المصطلحات، ونقد لشبكة المعاني، فمن أراد الوقوف على تفاصيل ذلك فعليه الرجوع إلى كتابي: (مدخل قرآني إلى القرآن الكريم)، أما هنا فنكتفي بما تم تقريره أعلاه.
ثالثا
سننتقل إلى نوع من الأحاديث تعرف في تراثنا بالإسرائيليات، وهي الأخبار المنقولة عن أهل الكتاب، وهي من حيث المصدر أنواع:
أخبار مصدرها كتب معتمدة عند طوائف اليهود والنصارى.
وأخبار مصدرها كتب غير قانونية.
وأخبار من قبيل الحكايات الشعبية التي استمر تداولها قبل الإسلام وبعده.
فأما الكتب فإن أخطر ما تضمنته هي الرؤية التي صيغت على أساسها، فكان معظم الكذب المدسوس فيها خادما لتلك الرؤية، وبيان ذلك أن بني إسرائيل بعد اختلافهم أسسوا مملكتين، مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، فأما المملكة الأولى فقد زالت بعد السبي البابلي الأول، وأما مملكة يهوذا فسقطت في السبي الثاني.
لكن الفرس لما احتلوا العراق، أرادوا أن يستفيدوا من خبرة اليهود للسيطرة على طريق التجارة العالمي المعروف بطريق البخور، فاتفقوا مع نخبتهم على تأسيس دولة وظيفية تابعة مقابل تحريرهم وإعادتهم إلى أرضهم.
في هذا السياق ألف عزرا ما يُسمى بالكتاب المقدس لصناعة جماعة دينية مغلقة مقطوعة الصلة بمحيطها تحت حماية الفرس.
الذي صنعه عزرا هو أنه تخلص من المضامين الرسالية للتوراة، وأسقط كل الأنبياء الذين لم يكونوا من بني إسرائيل، وزعم أن الميثاق الإلهي هو وعد مجاني لذرية إبراهيم من سارة، ولم يشترط عليهم مقابل ذلك سوى الختان.
وبنى الانتخاب العرقي على أساطير إقصائية ابتدأت مع نوح ومرت بإبراهيم وإسحاق ويعقوب، لتنتهي إلى أن الورثة النهائيين للوعد الإلهي هم اليهود.
وهذا التحريف هو الذي أدى إلى ظهور دين اليهودية، ولهذا ربط القرآن بين اليهود وعزرا الكاهن: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]
وألفاظ (بني إسرائيل) و(الذين هادوا) و(اليهود) ليست ألفاظا مترادفة في القرآن، ولكن بينها عموم وخصوص.
والحاصل أن النخبة اليهودية المتواطئة مع الفرس استطاعت أن تُهوّد التراث الإسرائيلي، ثم سرى هذا التهويد بعد ذلك إلى النصارى، ثم سرى بعدهم إلى المسلمين حين تسللت مروياتهم إلى الحديث والتاريخ والتفسير.
والذي يعنينا من كل هذا أن التراث الكتابي المُهوَّد قد تخبط كتب الحديث بمسه الشيطاني، ومنها صحيح البخاري، وسوف نرى أمثلة لذلك من خلال تحليل بعض المواقف المحكية في سيرة إبراهيم عليه السلام.
وقبل ذلك نذكر قاعدة من قواعد هذا الباب وهي: (كل حديث أحوجك إلى مراجعة تراث أهل الكتاب فاعلم أنه مكذوب)
فالقرآن أغنانا عن تلك الكتب كما أكد في آخر قصة يوسف: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى، وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]
ومن أحاديث البخاري التي تنطبق عليها هذه القاعدة ما رواه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ (ص): «لَوْلاَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلاَ حَوَّاءُ لَمْ تَخُنَّ أُنْثَى زَوْجَهَا»
وهكذا صارت أمنا حواء أشأم امرأة في التاريخ، وخيانة حواء المزعومة مذكورة في كتب اليهود ولا ذكر لها في القرآن، بل القرآن يشعرنا ببطلانها.
وأما قصة اللحم الذي لم يكن يخنز حتى ادخر بنو إسرائيل في التيه ما فضل عن حاجتهم من السلوى، فهذا التفسير لن تجده إلا في كتب اليهود، ولم يذكره القرآن مع أنه قد نص على العقوبات التحريمية التي تعلقت بالطعام، فتبين بذلك أنها مجرد اختلاق.
رابعا
سنتناول – في ضوء ما سبق - رحلة إبراهيم بهاجر إلى مكة كما رواها البخاري. القصة في الظاهر تجري على لسان ابن عباس، لكنه يُدرج فيها بين الفينة والأخرى مقاطع من كلام النبي (ص) مما يُشعر بأن الحديث بجُملته له حكم المرفوع.
القصة فيها فراغات تدعوك أن تملأها بما يناسب السياق لتصير معقولة المعنى، فأين ستجد المطلوب؟ للأسف لن تجده في القرآن، بل ستجده في التزوير الذي وضعه الكاهن عزرا بهدف إقصاء إسماعيل من وراثة العهد، فلنتابع هذه المقاطع:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ دون مقدمات: أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ. [البخاري]
السؤال: لماذا فرت هاجر من سارة مذعورة إلى الحد الذي جعلها تُعفّي أثرَها؟
الجواب: أن هاجر في زعم اليهود كانت مجرد جارية مملوكة لسارة، ولما كانت سارة لا تلد قالت لإبراهيم: «ادْخُلْ عَلَى جَارِيَتِي لَعَلِّي ارْزَقُ مِنْهَا بَنِينَ»، فتزوجها إبراهيم؛ وَلَمَّا رَأتْ هاجر أنها حَبِلَتْ صَغُرَتْ مَوْلاتُهَا فِي عَيْنَيْهَا، فَحَمِيَ غَضبُ سَارَة، فَأذَلَّتْهَا، فَهَرَبَتْ هاجر مِنْ وَجْهِهَا. [انظر سفر التكوين، 16: 1-6]
النتيجة: إسماعيل ابن جارية مملوكة.
قال ابن عباس: ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ … وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا. [البخاري]
السؤال: لماذا تُترك هاجر وابنها الرضيع بهذا المكان الموحش؟
الجواب: أن سارة لما صار لها ولد قَالَتْ لإبْرَاهِيمَ: «اطْرُدْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا لانَّ ابْنَ هَذِهِ الْجَارِيَةِ لا يَرِثُ مَعَ ابْنِي إسْحَاقَ».[انظر سفر التكوين، 21: 10]
النتيجة: هاجر وابنُها نفتهما سارة بحكم أنها السيدة، لتبقى الأرض الموعودة ميراثا خالصا لإسحاق وذريته من بعده، ومكة ليست ضمن ما وعد الله به إبراهيم.
قال ابن عباس: فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ. [البخاري]
السؤال: ما حقيقة الأمر الذي تلقاه إبراهيم مُكرها في شأن هاجر وإسماعيل؟
الجواب: أن سارة لما أمَرت بنفي هاجر وابنها، “قَبُحَ الْكَلامُ جِدّا فِي عَيْنَيْ إبْرَاهِيمَ لِسَبَبِ ابْنِهِ. فَقَالَ اللهُ لإبْرَاهِيمَ: «كُلُّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ اسْمَعْ لِقَوْلِهَا، لأنَّهُ بِإسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ» [سفر التكوين، 21: 11-12]
النتيجة: أن الأمر الإلهي لإبراهيم كان تأكيدا لأمر سارة، وأما مكة التي لا وجود لها في توراة عزير فلم تكن سوى منفى موحش.
نحن إذن أمام استبطان واضح للرؤية العنصرية التي جعلها عزرا أساس اليهودية، وقد بقي تراثنا للأسف رهينا لهذه الرؤية إلى الآن، وقد قلنا من قبل: (كل حديث أحوجك إلى مراجعة تراث أهل الكتاب فاعلم أنه مكذوب)
فأين القرآن من كل هذا؟
الغريب أن أول آية يذكرها هذا الخبر ستؤدي إلى نسف القصة بكاملها؟
قال ابن عباس: فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: رَبِّ {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ} حَتَّى بَلَغَ {يَشْكُرُونَ} [ البخاري]
في الحلقة القادمة سنبين كيف هدمت هذه الآية قصة نفي هاجر وابنها، وفضحت الكذاب الذي وضعها على لسان ابن عباس.
خامسا
ما ذكرناه سابقا من قصة هاجر وإسماعيل نص على:
- أن مكان البيت كان قفرا موحشا لا إنس فيه
- أن إسماعيل كان طفلا رضيعا
- أن إبراهيم لما توارى دعا بتلك الكلمات من سورة إبراهيم
لكننا إذا رجعنا إلى هذه السورة سنجده قد دعا بأكثر من ذلك، وأنه قال كلاما يكذب هذه القصة، وإليكم الدعاء: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ، وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ…} [إبراهيم: 35 – 39]
إبراهيم عليه السلام يقول: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)، والبلد لا يطلق عند العرب إلا على المكان المستوطن، لا يطلق على الأماكن الموحشة
ويقول أيضا:
- (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) … فذكر الأبناء بصيغة الجمع.
- (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) …. فذكر أنه أسكن بعض أبنائه في مكة، مشيرا إلى أبناء له خارج مكة.
- (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) وهذه صريحة ماحقة.
إذن حين دعا إبراهيم هذا الدعاء لم يكن إسماعيل طفلا رضيعا، بل لعله كان أبا، فإن إبراهيم بُشر بإسحاق بعد حادثة الذبيح التي ذكرتها سورة الصافات، وكان إسماعيل حينئذ في بداية الشباب.
لم تقف هذه الرواية – التي حاولت أن تستشفع بجاه ابن عباس – عند هذا الحد من الإهانة لهاجر وإسماعيل وللبيت الحرام، ولكنها جعلت المسلمين يوافقون اليهود على عملية اختطاف إبراهيم من خلال تزوير التاريخ.
تزعم الحكاية أن إبراهيم لما انصرف عائدا إلى سارة لم يرجع إلى مكة مطلقا، مع أنه ترك فيها زوجة ضعيفة، وطفلا رضيعا، ما عاد إبراهيم المفترَى إلا بعد أن ماتت هاجر، وبعدما تزوج إسماعيل.
وبهذا صار بين أيدي المسلمين صورتان لإبراهيم عليه السلام، صورته القرآنية التي جعلت منه مؤسس ملة عالمية مركزها مكة، وصورته المهوَّدة التي غيبته عن مكة، وجعلته ظلا لزوجته سارة، لا يتورع عن ترك زوجته المستضعفة وطفله الرضيع في برية موحشة، وهي الصورة المتداولة في كتب الحديث.
وقد توقف ابن كثير عند هذه الرواية ولم يزدرها مع أنها في صحيح البخاري، أحس شيئا ما في هذا الحديث فقال: “فِي بَعْضِهِ غَرَابَةٌ “(*)، وأخذ يتساءل:
- كَيْفَ يَتْرُكُهُمْ مِنْ حِينِ صِغَرِ الْوَلَدِ عَلَى مَا ذُكِرَ إِلَى حِينِ تَزْوِيجِهِ لَا يَنْظُرُ فِي حَالِهِمْ؟
- كَيْفَ يَتَخَلَّفُ عَنْ مُطَالَعَةِ حَالِهِمْ، وَهُمْ فِي غَايَةِ الضَّرُورَةِ الشَّدِيدَةِ وَالْحَاجَةِ الْأَكِيدَةِ؟
ثم أشار إلى بعض التخريفات التي حاول أصحابها رغم أنف الحديث أن يستعيدوا لإبراهيم المفترى بعض المصداقية، ولما كان هؤلاء المخرّفون يعتقدون أن إبراهيم كان مقيما في الشام، فقد تفضلوا عليه بالمعجزات كي يسهلوا عليه واجب الزيارة، قال ابن كثير:
- قَدْ ذُكِرَ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ تُطْوَى لَهُ
- وقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَرْكَبُ الْبُرَاقَ إِذَا سَارَ إِلَيْهِمْ
على أن ابن كثير لم يستسلم استسلاما كاملا فختم كلامه قائلا: وَكَأَنَّ بَعْضَ هَذَا السِّيَاقِ مُتَلَقًّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَمُطَرَّزٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ.
ها هي شهادة خبير – وإن كانت محتشمة – على أن الصناعة الحديثية قد فشلت في حماية (أصح كتاب بعد كتاب الله) من اختراق اليهود.
(1) نقله عنه ابن حجر مختصرا في فتح الباري: 11/ 484 [دار المعرفة – بيروت، 1379] ويمكن مراجعته مبسوطا في فتاوي ابن الصلاح : 1/164-167 [تحقيق: موفق عبد الله عبد القادر، مكتبة العلوم والحكم, عالم الكتب – بيروت، الطبعة الأولى، 1407]
(2) فتح الباري: 11/ 483
(3) انظر مقالته: (أطوار الجنين ونفخ الروح) بالموقع الرسمي للهيئة على الرابط التالي:
http://www.eajaz.org/index.php/component/content/article/66-Issue-VIII/542-Phases-of-the-fetus-and-breathed
(*) البداية والنهاية: 1/ 361- 362 [تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر، الطبعة: الأولى، 1418هـ – 1997م]