- بين الوحدة والاختلاف
رسولنا صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل، وأمتُه ليست بدعا من الأمم، فسنن الله واحدة، وتعنينا منها سنة الوحدة والاختلاف: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19]
وما جاءت الرسل ولا أنزلت الكتب إلا لاستعادة الوحدة، تأسيسا للسلم الاجتماعي والعالمي، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 208-209]
والزلل المقصود في هذا السياق هو ضرب أساس الاجتماع المتمثل في البينات، الزلل هو التلاعب بها وليس هو الذنوب التي هي من لوازم البشرية، وتقع من كل الناس بلا استثناء، ولو كانت الذنوب هي المقصودة لكان التذييل القرآني المناسب لذلك هو (فاعلموا أن الله غفور رحيم) ليفتح باب التوبة، لكنه قال: (فاعلموا أن الله عزيز حكيم) تحذيرا من اتخاذ آيات الله هزءا.
اتباع خطوات الشيطان هو التلاعب بالبينات لاصطناع أديان تمزق وحدة الناس، والسياق يستمر في تعميق هذه القضية من خلال الإحالة على تجربة بني إسرائيل الذين بدلوا نعمة الله كفرا [البقرة: 212]، ثم يقول الله بعد ذلك: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ، فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]
فالاختلاف بعد الوحدة لا يقع عن حسن نية، أو بسبب خطأ في الاجتهاد، بل عن بغي، والبغي هو تجاوز الحد الذي وضعه الله ليكون الناس أمة واحدة، البغي هو إرادة العلو في الأرض، والسعي لتأسيس مشروعية جديدة من خلال اختلاق وحي إضافي {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ؟! بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 49-50]
ولهذا وجدنا في تاريخنا حرصا على اختلاق مصادر تفسيرية كان قصدها تأسيس مشروعية باغية، ففي الإسلام السني (السنة القاضية على الكتاب، المقتضية لعصمة الأصحاب)، وفي الإسلام الشيعي (الوصية المؤسسة للإمام المعصوم)، وفي الإسلام السلطاني (الخليفة الذي هو ظل الله في الأرض)، وعند المعتزلة (العقل الكلامي المؤسَّس على مبادئ قبلية كلية ومطلقة خلقها الله فينا)، وعند الصوفية (كشف العارفين، وهو اتصال مباشر بالله)… وهذه هي أهم التجارب التي ستنتج توليفات متنوعة، وتجعلنا أمام إسلام تاريخي لا يتوقف عن تفريخ الأحزاب، إسلام بشري مزيف كان مبدؤه البغي، وثمرته تبديل نعمة الله التي تمت بتمام القرآن.
وصار التاريخ عند المسلمين تصنعه في الغالب شخصيات وصفها الله في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ. وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204-206]
- أمة الدين وأمة الكسب
قال الله عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] على أساس وحدة الدين هذه يعتبر كل الأنبياء هم ومن اتبعهم أمةً واحدة، يقول تعالى بعد أن ذكر عددا من الأنبياء: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]
لكنه في سياق قصة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبني إسرائيل من سورة البقرة نجده تعالى يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَهَا مَا كَسَبَتْ، وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ، وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]
فأطلق لفظ (الأمة) في المحلين باعتبارين اثنين: فباعتبار الدين كل الأنبياء ومن آمن بهم أمة واحدة، وباعتبار الكسب ليسوا أمة واحدة.
والفرق بين الأمرين كالفرق الذي بين الإيمان والعمل، الإيمان عابر للزمان والمكان، لا قيد فيه على حرية الإنسان، لك أن تؤمن بما شئت، وأن تكفر بما شئت، بعد أن تتحقق لك المعرفة.
أما العمل فشأنه شأن آخر، إذ هو تبع للإمكان، مرهون بالاستطاعة، والإمكان يتسع ويضيق، والاستطاعة تتفاوت وقد تنعدم، واختلاف الإمكان هو أثر لاختلاف العصور. والمقصود بالعصر مضمونه الثقافي والحضاري لا المعنى الزمني المجرد.
العمل إذن مشروط من الناحية التاريخية، ولهذا يستحيل استنساخ الكسب، وسيكون من التحجير على الناس إلزامهم بسنة عملية واحدة لا تحول ولا تزول، وأدلة القرآن متواترة على أنه ليس كل واجب ممكنا، وليس كل ممكن مقدورا عليه.
ومن لا ينتبه للفرق بين وحدة الدين واختلاف الكسب سيفهم من قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} تزكية مطلقة لكل أجيال المسلمين إلى قيام الساعة، فيكون حينئذ مثل العُنصريين من أهل الكتاب: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ! قُلْ: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18]
الخيرية في الآية معللة بأمور كسبية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، ومُكسِبات الخيرية هذه قد تكون غالبة في جيل مغلوبة بأضدادها في جيل آخر إلى درجة الانسحاق، فكيف يستوي الجيلان: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35-36]
والرسول صلى الله عليه وسلم حين يُدعى للشهادة يوم القيامة، سيشهد على من عاصرهم واتصل بهم اتصالا تقوم به الحجة: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، ومن باب العدالة الإلهية سيُقسم الناس يوم الحساب تبعا للشرط التاريخي: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28] ولعل ذلك الكتاب هو نفسه الإمام الذي ذكره الله في قوله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ، فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء: 71]
حاصل هذا الجمع والطرح أن أمة الدين ليست هي أمة الكسب، وجعل كسب أمة ما دينا مفروضا إلى قيام الساعة هو شرع لما لم يأذن به الله، وتضييق لما وسعه، وعدوان على حق الأجيال في الانتماء إلى تاريخها الخاص.
في الحلقات القادمة إن شاء الله سألقي مزيدا من الأضواء القرآنية على هذه المسألة.
- أفق القرآن وآفاق الأزمان
قد يقال: قاعدة (وحدة الدين وتعدد الكسب بتعدد العصور) إذا صحت فينبغي أن يكون القرآن قد دل عليها بطرق متنوعة؟ فهل دل القرآن على إمكان وجود سنة بعد سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟
لنتأمل قول ربنا عز وجل: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا، وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ، كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17]
المشهد المصور في الآية هو تمثيل للعلاقة التي بين هداية الرحمن المتمثلة في القرآن، وبين الإنسان وهو منغمس في أودية الزمان، ويعنينا من هذه العلاقة المقارنة التي حصلت بين الإمكان السماوي والإمكان الأرضي.
المشهد في دلالته الحسية المباشرة يفيد أن الماء النازل كان في السماء واحد، لكنه لما اتصل بالأرض تفرق في الوديان، واختلف كل واد عن الآخر في مقدار ما احتمل منه، لأن الأودية منها متسع جدا، ومنها كبير، ومنها متوسط، ومنها صغير، ومنها مسايل محتشمة.
وتعبير هذه (الرؤيا) أن الماء النازل بالنسبة إلينا هو الوحي القرآني، والوديان هي العصور، وهذا يفيد أن القرآن يحيط بكل العصور إلى قيام الساعة، ولا يحيط به عصر من العصور، فلا يمكن لسنة عملية مهما كانت أن تتسع لكل القرآن.
الإمكان القرآني إذن عابر للزمان، والإمكان العصري هو عبارة عن احتمال من بين احتمالات تطبيقية محكومة بمنطق: {اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]
ولنزيد هذه القاعدة المنهجية تأكيدا وتوضيحا دعونا ندخل عليها من بوابة قرآنية أخرى، يقول تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، البصيرة هي الرؤية المعينة على سلوك سبيل الهداية، والمثير في هذه الآية أن لفظ البصيرة جاء نكرة، فلم يقل على البصيرة، بمعنى أن القرآن فيه إمكان لتوليد عدة بصائر، وهذا ما دل عليه قوله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20] {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104]
ومن ذلك لفظ (الحكمة) الذي زعم (الإسلام السني) بأنه السنة النبوية حصرا، فلا حكمة سواها، وهذا ما سنناقشه في الحلقة الرابعة إن شاء الله.