الإسلام السنيُّ وغيرُه من الإسلامات الطائفية تشترك في الاعتقاد بعدم كفاية القرآن، ومنذ أن شرعت الطوائف في تكميل بيان القرآن بزعمهم، وإتمام ما لم يتم من شرائعه لم يستطيعوا وضع نقطة النهاية إلى اليوم.
القرآن يقول: الدين اكتمل، ولم يبق إلا العمل.
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]
الدين يُبلغ كما أنزله الله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]، وليس من حق أحد أن يزيد فيه، حتى النبي (ص) نفسه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44-46]
ابتلاء الله للناس ليس من موضوعه التسابق في وضع الأديان، وإنما التنافس في الخيرات والإحسان: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]
والإحسان بالنسبة لأمة مسلمة يتحقق من خلال أداء المستطاع من الدين، وهذا المستطاع لا يُعرف إلا بالاستبصار الذي تمارسه مؤسسات الحِكمة، فهي التي تسدد وتقارب من خلال وعيها التاريخي الكاشف لخريطة الإمكانات الواقعة والمتوقعة.
فإذا بُنيت الاستراتيجيات بعد ذلك، وتم تفريغها في برامج تنفيذية ولوائح تشريعية صار الواجبُ هو الواجبَ الزمني الميداني، لا الواجب في أفقه القرآني، لأنه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، لَهَا مَا كَسَبَتْ، وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]
فإذا استنفذت تلك الاستراتيجيات أغراضها، لم يبق لها حق في تأطير الحاضر وصناعة المستقبل، إذ هي مجرد تعاقد مؤقت بين أطراف الأمة، وتحويلها إلى دين أبدي هو افتراء على الله، وبغيٌ على الأجيال التي لا تعنيها تلك التعاقدات.
إذن هناك فرق بين الدين، وبين العمل به، الدين يبقى خالصا لله، لا ينطق به إلا القرآن، والعمل تنظيرا وإنجازا لا يُنسب إلا إلى مكتسبه الذي صيّره جزء من التاريخ لا جزء من الدين، وقد روى مسلم في صحيحه ما كان من عادة النبي (ص) في وصية القادة الذين يبعثهم في مهمات عسكرية، ومما كان يقوله للقائد: «وإذا حاصرتَ أهلَ حِصنٍ فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمِك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا».
فكان (ص) يعلمهم الفرق بين البلاغ عن الله، وبين الاجتهاد في تنزيل أحكامه على الوقائع، فالبلاغ دين، والاجتهاد ليس هو دينَ الله.
لكن صُنّاع الطائفية في تاريخ الأمة أنزلوها على حكمهم، وقالوا: “هذا دين الله”، فإذا بالإسلام الواحد قد صار أديانا لا تكف عن التضخم والتناسل، وهكذا صار بيننا وبين القرآن العظيم جدار عازل بعرض ألف وأربعمائة سنة.
أكتاب مع كتاب الله؟!
الذين يزعمون أن هداية القرآن لا تتم إلا بالسنة يظنون أنهم يدافعون عن السنة؟ وأنهم بزعمهم هذا يكونون أكثر حبا للرسول (ص) ممن يقول بكفاية القرآن!
دعونا في هذه الحلقة نثبت أن النبي (ص) قد رد عليهم زعمهم الأول.
روي عن النبي (ص) أنه قال: «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا إِلَّا الْقُرْآنَ، فَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ» [رواه أحمد ومسلم]
هل لهذا النهي الواضح معنى سوى أن الوحي الذي لا وحي سواه هو القرآن، وأن هدايته غير مشروطة بحفظ أحاديث الرسول؟
قال شُراح الإسلام السُّني: “النهي احتياط لتدوين القرآن حتى لا يختلط بالحديث”، يعني أن الرسول يخشى أن يخلط الصحابة بين القرآن والحديث، فصار الصحابة هاهنا ناقصي عقل وكفاءة! لكن الشراح إذا أرادوا أن يلزموا أتباعهم بفهم السلف الصالح يصير الصحابة عندهم هم الأعلم والأفقه والمطلعين على ما لم يطلع عليه سواهم من أسرار الشريعة!
وتعليل الشراح لعدم تدوين السنة في عهد الرسول متهافت، يُكذبه ما رواه أَبِو هُرَيْرَةَ فقَالَ: كُنَّا قُعُودًا نَكْتُبُ مَا نَسْمَعُ مِنَ النَّبِيِّ (ص) فَخَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: مَا هَذَا تَكْتُبُونَ؟ فَقُلْنَا: مَا نَسْمَعُ مِنْكَ، فَقَالَ: أَكِتَابٌ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقُلْنَا: مَا نَسْمَعُ، فَقَالَ: أَكِتَابٌ غَيْرُ كِتَابَ اللَّهِ؟ امْحضوا كِتَابَ اللَّهِ، وَأَخْلِصُوهُ! قَالَ أبو هُريرة: فَجَمَعْنَا مَا كَتَبْنَا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ أَحْرَقْنَاهُ بِالنَّارِ. [رواه أحمد]
العلة هنا واضحة: لا ينبغي أن يزاحم كتاب الله بكتاب سواه، يجب إخلاصه ليكون الدين خالصا لله. وهذا ما نزيده تأكيدا بما روي عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أنه أَرَادَ في خلافته أَنْ يَكْتُبَ السُّنَنَ، فَاسْتَفْتَى أَصْحَابَ النَّبِيِّ (ص) فِي ذَلِكَ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يَكْتُبَهَا، فَطَفِقَ عُمَرُ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهَا شَهْرًا، ثُمَّ أَصْبَحَ يَوْمًا وَقَدْ عَزَمَ اللَّهُ لَهُ فَقَالَ: «إِنِّي كُنْت أُرِيدُ أَنْ أَكْتُبَ السُّنَنَ، وَإِنِّي ذَكَرْتُ قَوْمًا كَانُوا قَبْلَكُمْ كَتَبُوا كُتُبًا فَأَكَبُّوا عَلَيْهَا وَتَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَشُوبُ كِتَابَ اللَّهِ بِشَيْءٍ أَبَدًا» [رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله]
ومعروف أن عمر كان يمنع رواية الحديث، وكان موقف علي بن أبي طالب من الرواية متشددا أيضا، إلى درجة أنه اعتبرها فتنة، فقد روى الترمذي عن رجل من أصحاب علي بن أبي طالب قَالَ: مَرَرْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ فِي الأَحَادِيثِ، فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلاَ تَرَى أَنَّ النَّاسَ قَدْ خَاضُوا فِي الأَحَادِيثِ، قَالَ: وَقَدْ فَعَلُوهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (ص) يَقُولُ: أَلاَ إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ! فَقُلْتُ: مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: كِتَابُ اللهِ، فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ العُلَمَاءُ، وَلاَ يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
فهؤلاء الخلفاء الراشدون الأربعة مرت عهودهم دون أن يشغلوا الناس بتدوين السنة، مع أن جلة الصحابة العارفين بسيرته (ص) وسنته قد غيبهم الموت في هذه المرحلة، فماتت معهم الكثير من الأخبار، لعلمهم أن السنة كانت لزمانها، وأنها ليست وحيا، وأن الدين سيكون محفوظا بحفظ القرآن العظيم.
فإذا علمنا أن الأحاديث المنسوبة إلى النبي (ص) بدأت تظهر كتبُها في أواسط القرن الثاني، علمنا أنها ستكون مجرد ذكريات باهتة، وأنها ستكون مخلوطة بالأخطاء والأكاذيب، وأن كثيرا مما وقع زمن النزول قد طواه النسيان.
فمن أراد سنة النبي (ص) الحقيقية فهذه هي السنة، والذين يجعلون الأحاديث مصدرا للدين مع القرآن أهل فتنة، خالفوا هدي النبي (ص) وهو القائل: «أَهْلُ الْقُرْآنِ، هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ» [رواه أحمد].
(سنة) أهل السنة
تبين مما سبق أن السُّنة النبوية الحقيقية هي حكمة زمنية وتدبير وقتي، لأنها نشأت ضمن إمكان تاريخي خاص، فإذا تغير الإمكان اتساعا أو ضيقا فإن الحكمة تقتضي سنة تدبيرية جديدة، وهذا ما يمكن ملاحظته في سُنن مَن كان مِن الراشدين.
لكن السنة النبوية في مخيال (الإسلام السني) عابرة للزمان، وحكمة مطلقة، وهي بهذا المعنى تصطدم مع صريح القرآن، ولهذا تجد في بيان العلاقة بين هذه السنة وبين القرآن الكريم هجاء لكتاب الله يسلبه خصائصه التي أثبتها الله له.
فتلك (السنة) مبينة للقرآن، وهكذا تصير كل الآيات الدالة على تمام البيان القرآني وشموله بلا قيمة، مثل قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]
وتلك (السنة) تفصل مجمل القرآن، لكن الله يصف كتابه بعكس ذلك فيقول: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114] {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]
وتلك (السنة) تفسر القرآن، مع أن الله تعالى جعل كتابه {أَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]
وتلك (السنة) هي التي ضبطت دلالات القرآن السائلة، لأنه حمال أوجه، هذا مع أن الله قد أحكم كتابه كله من خلال نظام معجز للمعاني، فلا يتقول متقول على الله إلا فضحه القرآن: { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]
فهذه (السنة) باختصار قاضية على كتاب الله، هو بدونها لا يهدي للتي هي أقوم، وبدونها يمكن لأي أحد أن يتلاعب بالقرآن كيفما شاء، هكذا يزعمون.
لو سلمنا هذه المزاعم الظانة بالله ظن السوء لكانت الضرورة المنهجية تقتضي ما يلي:
– أن كل ما صدر عن رسول الله (ص) من قول أو فعل أو تقرير قد وصل إلينا.
– أن يصح كل ذلك كصحة القرآن.
– أن لا نحتاج بعدها إلى تفسير.
– أن لا نحتاج بعدها إلى تأصيل أصول تشريعية إضافية.
لكن كل هذه الضرورات المنهجية لم تتحقق في السنة المزعومة، وهذا إقرار ضمني بالحاجة إلى حكمة تتجدد بتجدد العصور.
بل إن السنة القاضية على الكتاب صارت تحرج أصحابها، فاحتالوا على تضييقاتها بتقسيمها إلى تشريعية وغير تشريعية، وقسموا تصرفات الرسول إلى أقسام من أجل التمكين لأصول تشريعية إضافية، لكن كل ذلك لم ينضبط لهم، فهم في ذلك مذاهب شتى.
سيقولون: لكن الله هو الذي أعطى للرسول (ص) سلطة البيان حين قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]
والجواب: أن البيان في القرآن إذا أضيف إلى الله وكتابه كان معناه التفصيل الذي يحقق الهداية التامة. أما إذا أضيف إلى النبي (ص) أو إلى العلماء كان معناه التبليغ لا غير، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت: 18]
قال سبحانه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 1-3] وهذا نص في معنى البينة التي قامت بها الحجة، إنها تلاوة القرآن على أسماع الذين كفروا.
وقال في حق العلماء: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة: 159-160]
فقابل بين البيان والكتمان، ودل على أن الهدى مُبيَّنٌ في الكتاب، وأن بيان العلماء الواجب هو عدم كتمانه.
هكذا يظهر أن الصورة الذهنية للسنة في (الإسلام السني) هي مجرد شعار عقائدي، لا هي بالسنة النبوية الحقيقية، ولا الواقع التاريخي للتراث العلمي يشهد لها بتلك المكانة المزعومة.