نسمع كثيرا هذه الأيام عن “ملامح نظام عالمي جديد” أو “عالم ما بعد وباء كورونا المستجد”، إنه عالم لا شك سيفرز ترتيبات جديدة قد تقلل من صدارة القوى التقليدية للمشهدين السياسي والاقتصادي. فالأوبئة عادة ما تعمل على إعادة توزيع الثروة، والحيلولة دون تراكمها وتأمين دورانها.
والسؤال الذي يطرح في هذا السياق، ونراه جديرا بالتأمل: من هي القوة الجديدة التي ستتمخض عن أحداث اليوم؟
دفعني هذا النقاش والتأمل إلى إعادة قراءة كتاب كنت قد قرأته منذ سنوات ولم ألق لأفكاره بالا آنذاك – ينطبق علي هنا قول ماركس أن فهم الأشياء يحتاج إلى “رأسمال ثقافي” -، وهو كتاب “مارد في الصين” من تأليف رجل الأعمال الأمريكي جيم روجرز. وأعيد اليوم نفض الغبار عنه، محاولا تقديم خلاصة عنه وطرح بعض تصوراته الشيقة حول مستقبل الصين وريادتها.
صدرت ترجمة هذا الكتاب سنة 2011، في ما مجموعه 239 صفحة ذات الحجم المتوسط، وبطبعة أنيقة من مكتبة العبيكان. وهو مؤلْف يحاول الإجابة عن أسئلة كثيرة تتعلق بالاقتصاد الصيني خاصة، لعل أبرزها: لماذا الاستثمار في الصين؟ لحث المستثمرين على اغتنام الفرص العظيمة في الصين، البلد الذي لا زال يوفر الحظوظ في هذا القرن. ومؤلفه خاض مغامرة شيقة على دراجته النارية طاف من خلالها أنحاء العالم لينظر ويلاحظ التغيرات التي طرأت على مجتمعات واقتصاديات العالم، ليجد استقراره الموفق على سور الصين العظيم. هذا المكان الضارب جذوره في التاريخ القديم الذي عاينه في رحلته الأولى (1984) وكان متسخا ومتخلفا تغمره القاذورات ولا يتوفر على مجاري الصرف الصحي، عكس ما رآه عليه في جولته الثانية (1990) حيث أصابته الرعشة فأصبحت كل عودة إلى أرض الصين بمثابة القدوم إلى بلد جديد لم يعهده من قبل، فجمهورية الصين الشعبية ذات التبدل السريع تُخَطـِّـئُ تماما كل افتراض مستعجل. ففجأة، بدأ الصينيون في رسم خطوط حياتهم المهنية ويضعون المخططات اللازمة لمواكبة حياة أفضل لأبنائهم، بروح مبادرة كامنة ولافتة للنظر.
أخذ إنجاز هذا الكتاب من صاحبه ثلاثة وعشرين عاما من الوقت ومسافة كبيرة من الترحال. وبهذا، يكون المؤلَّف ذو قيمة اعتبارية تشهد له، خاصة وأن كاتبه من أصحاب عالم الاقتصاد والمال. وكما قيل قديما فالتجار لا تخفى عنهم حقيقة الأسواق، وفي المثل الصيني: “إذا أردت معرفة الطريق أمامك فما عليك سوى سؤال الذين سبق أن قطعوه من قبل”. وجيم روجرز حري بأن يُسأل عن أحوال الصين ومستقبلها، فقد دافع، بكل ما تَوفر لديه، عن آرائه حول قوة الصين. ولتدليل تصوره قسم المؤلف كتابه إلى تسعة أقسام بعد مقدمة تحفيزية مشحونة بمعطيات دالة على تفوق الصين، فخصص القسم الأول للاستثمار الذي جعل الصين تنفتح على سوق الأسهم وتؤسس آلاف الشركات وتحتضن ملايين المستثمرين وسوقا ماليا مرعبا. والثاني، المعنون بـ”المجازفة: النجاح المحفوف بالمخاطر”، يعد من أهم الأقسام لما يتضمنه من أخطار تعترض الصين وأسئلة تهم حاضرها ومستقبلها وقدرتها على تجاوز الصعاب. وفي القسم الثالث، يقدم كمَّ الشركات التي أصبحت تعد بالآلاف وتحمل علامات تجارية مزدهرة ومثمرة. ويفرد القسم الرابع بالحديث عن الطاقة، ولكن ليس بذلك السوء الذي يروج له، فلهذا البلد رأس مال ضخم وقدرة هائلة على الابتكار يستخدمهما في التوسع والاستثمار وخلق بدائل لتوليد الطاقة. والأقسام الأربعة الموالية خصصها المؤلف لقطاعات تقدم فرصا كبيرة للاستثمار كالنقل، والسياحة، والزراعة، والخدمات الشعبية (الصحة، التعليم، والإسكان). وختم كتابه بالقسم التاسع مبرزا بزوغ الصين كجمهورية شعب الغد وإحدى أكثر المناطق استقطابا للمشروعات، مؤكدا أنه لا يستطيع أي كتاب، ولا حتى الكتب الحديثة منها، أن يلم بكل نواحي التغيير والتحولات القادمة. وقد جعل في كل فصل فقرات سماها بـ”ملفات جيم الصينية”، تضم عددا كبيرا من أسماء الشركات الصينية وتخصصها لافتا النظر إلى فرص الاستثمار في مجالات كثيرة تنتظر من يتجرأ على اقتحامها. ولتقريب مضامين الكتاب أكثر نقترح مناقشة ثلاثة مستويات، يتعلق الأول منها بالمؤهلات التي تتوفر عليها الصين، والثاني بالمعيقات، أما الثالث فيقدم معطيات باعثة على الاطمئنان لمستقبل العالم في ظل تفوق الصين.
مؤهلات الصين الاقتصادية
منذ ما يقارب أربعة عقود خلت، ما زالت الصين البلد الأسرع نموا في العالم، بمعدلات من الادخار والاستثمار مرتفعة تخص تعداد سكانها البالغ مليارا وثلاثة مائة مليون نسمة، واحتياطات النقد الأجنبي التي هي الأعلى على وجه الكرة الأرضية. هذه المؤشرات وغيرها تجعل روجرز يقر بالقول: “إنها (أي الصين) راسخة القدم ومؤهلة لأن تكون أهم دولة في مستقبل الجنس البشري”. ويخطو خطوة أخرى إلى الأمام قائلا: “فكما كان القرن التاسع عشر قرن إنجلترا، واختصت الولايات المتحدة الأمريكية بالقرن العشرين، فإن القرن الحادي والعشرين سيكون من نصيب الصين لتضع قواعد اللعبة وتتفرد بالسيطرة”. ولا يتردد في تقديم نصيحته منذ البداية، وحتى النهاية، بأن يقوم قارئ كتابه بتعليم أولاده أو أحفاده اللغة الصينية؛ لأنها ستكون أهم لغة على الإطلاق في أثناء حياتهم. وموجها انتقاده للنظرة الجغرافية للعالم من زاوية واحدة (وهي أن الولايات المتحدة هي المركز)، داعيا إلى تغيير أساس التفكير الذهني بالالتفات بعين ثاقبة ومنطقية لمؤشرات الصين، مستشهدا بما نطق به حكيم الصين كونفوشيوس الذي أطلق تحذيرا منذ خمسة وعشرين قرنا مفاده: “إذا لم يأخذ المرء في حسبانه ما قد يحصل له في المستقبل البعيد فإنه لن يجد أمامه سوى الندامة التي تنتظره قريبا”.
استفادت الصين من دراسة أسواق العالم الأخرى القائمة واستطاعت القيام بقفزة كبيرة نحو المستقبل تفوقت فيها على غيرها.
إن الكتاب عبارة عن رصد للفرص الاستثمارية لكل طموح ودليل بالمجان، في عالم لديه ما يكفيه من التابعين الذين لا يبصرون، ويتضمن خيارات كثيرة داخل أسواق الصين لمن يريد أن يمضي في ركب المسار الصيني النامي لدرجة تثير الإعجاب. فالبلد يتوفر على رغبة سياسية جامحة بدأت تتخلص من عزلتها حين أعيد الاحترام إلى “تينغ هيساو بينغ” نائب زعيم الصين وجنرال في الجيش الأحمر سنة 1977 بعد أن كان خاضعا للإقامة الجبرية، ورجع إلى مناصبه ليشرع في وضع البلاد على مسار من البراغماتية والإصلاح، وتلفظ بمقولته الشهيرة: “لا يهم لون الهر إن كان أسود أو أبيض طالما ظل يصطاد الفئران”. لقد بدا جليا أن الهر هو الرأسمالية، والرخاء هو طريدته. هنا نظرت الصين بجلاء إلى تهاوي الأنظمة الشيوعية، ورأت حاجتها إلى الانفتاح.
استفادت الصين من دراسة أسواق العالم الأخرى القائمة واستطاعت القيام بقفزة كبيرة نحو المستقبل تفوقت فيها على غيرها. متسمة بالفخامة وفق أحدث أساليب التقانة متجاوزة تلك الآليات والمنشآت البالية التي كانت تديرها الدولة. فحلت محل الولايات المتحدة شريكا رئيسا تجاريا لليابان، والصين هي السوق التصديرية الأضخم للكوريتين (الشمالية والجنوبية) على السواء. وتمتلك علامات تجارية للسيارات في السوق أكثر من الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من توفرها على أدنى نسبة من الأراضي الصالحة للزراعة، تصنف الصين في المرتبة الأولى عالميا في الإنتاج الزراعي؟! فبعدما كان السؤال قديما: “هل أتيح لك أن تتناول وجبة طعام؟”، تمكنت الصين بفعل الإصلاح الزراعي من تحقيق قفزة نوعية في هذا المجال برقم قياسي للمحاصيل، والكثير من المنتجات العالمية ليس بوسعها منافسة أسعار الصين. وهي مستعدة لتلبية الطلب الداخلي، حيث يشتهر الصينيون بأنهم يأكلون كل شيء.
إن المثل القائل: “لقد رأينا العدو الذي هو أنفسنا” والشائع لدى الصينيين، فتح أعينهم على أن المشكلات الداخلية وليست التحديات الخارجية هي التي تمثل الخطر الأعظم لازدهار الصين. ففي هذا البلد، لا يستعمل تعبير “بطل قومي” للإشارة فقط إلى فرق الرياضة التي تحقق الفوز؛ إنه علامة مستخدمة من قبل الحكومة لدفع وتكريم الشركات النامية محليا التي تملك القدرة على دخول مضمار المنافسة العالمية وأن ترسخ بصمة شعار صيني على نطاق عالمي. إنه مثل ميدالية الشرف لأصحاب الريادة. واليوم، لاشك أن كثيرا من الناس قد سمعوا ببعض الشركات الصينية الرائدة في العالم.
وتتوفر الصين على يد عاملة ضخمة، الكثير منها يعمل بأجور منخفضة تستمر في إعطاء المنشآت الصينية تفوقا هائلا في رخص الأسعار على المستوى الدولي، فإنتاجها أكبر بكلفة أرخص.
إن ظهور الصين على خشبة المسرح العالمي، يعزى إلى الاحتياطي الهائل من الخبرة في عالم التجارة والابتكار الراسخ في هذا البلد الذي يأخذ بمبدأ الخلود، إذ يبدو أن الشعب الصيني مدفوع برغبة متينة مغزاها التوكيد، كما يذهب أحد الأمثال الصينية للقول: “كل جيل سيكون أعظم من الذي سبقه”. وبالرغم من التوجه السريع في طريق المستقبل الذي تخطو فيه الصين، فإن الماضي في نظرها لا يزال حيا في الوجدان. متبنية قواعد السلوك الاجتماعي المبني على الأخلاقيات والتعاليم التي نادى بها حكيم الصين كونفوشيوس، بوصفها القواعد الأساسية لبناء دولة عادلة. إن حجم الصين وماضيها التليد يوفر مزية أخرى لاندفاعها الطموح على مقياس واسع.
تحديات شتى !!
لا زالت الصين الشعبية تدين بالأيديولوجية الاشتراكية، ولم تتخل عن السيطرة برمتها، إنها البلد الوحيد الذي تمارس فيه الحكومة تحديد حجم كتلة أسهم السوق ومسار الإصدارات الحديثة. وينضاف إلى تحدي الحزب الواحد، ثلاث مصاعب جمة تنتظر الصين: أمة عجوز، وفساد منتشر، وتدهور بيئي؛ إذ تصنف من أكثر البلدان تلوثا ونقصا في المياه، فهي من بين ثلاثة عشر بلدا الأدنى من حيث حصة الماء المتوفرة لكل فرد. وإدارة مصادر المياه قد تكون الأزمة المركزية التي تتحدى العالم – وليس الصين وحدها – لقرن آت من الزمن.
وهناك قائمة من الأخطار لا بد أن تحتوي الآتي: نزاعات عسكرية محتملة (لاسيما مع تايوان)، عدم استقرار سياسي (إذا خسر الحزب الشيوعي أو حاد عن شرعيته)، الحركات الانفصالية (في الغرب المسلم البعيد أو في التيبت)، قلاقل اجتماعية عامة (بين جيل الشباب المهمش، الفلاحين المظلومين، أو بسبب تعاظم الأفكار الديموقراطية لدى الطبقة الوسطى)، اتساع الفجوات بين الفقراء والأغنياء، أو بين المدينة والقرية، اضطرابات عمالية، شح الموارد الطبيعية (بدءا بالماء والنفط)، مخاطر البيئة (التلوث، التصحر)، الأوبئة الكامنة (الإيدز، سارز، إنفلوانزا الطيور، وكورونا المستجد)، الزلازل (الأرضية والمائية) التي تسبب الخراب الشامل للأبنية، الممارسة الإدارية الخاطئة والفساد وتأثير العصابات الإجرامية…
مؤشرات دالة على الاطمئنان !!
هل تبدو المخاطر والتحديات مألوفة؟ إن الكثير من المخاطر تنشأ في كل مكان، والتحديات حتمية الوقوع، لا تسلم منها حتى الدول المتقدمة، بما في ذلك الولايات المتحدة. هناك الكثير من الهواجس التي يمكن أن تبقيك ساهرا الليالي بسبب القلق، حتى لو لم تكن نائب رئيس الوزراء أو المدير العام لمكتب الحزب. لكن – حسب جيم روجرز –، لا داعي للاحتياط من احتمالات جميع هذه الأخطار.
في المحصلة، لا يجب على الصين أن تكون خالية تماما من الأخطار حتى تنتج الشركات الأكثر ربحية في العالم، فهي ما زالت في مشوارها الأول وأمامها الكثير لتقدمه كنقاط بارقة وأخرى منطقية.
ولطالما تنبأ النقاد بـ”الحرب القادمة مع الصين”، والبعض، إن لم نقل الكثير، ممن يؤمنون بعقلية الحرب الباردة يروجون لفكرتهم. فيا ترى هل تشن الصين حربا مستقبلية لحماية مصالحها الحيوية؟ وهل لديها أي طموحات امبريالية؟ يرى المؤلف أن الصين تنأى بنفسها وبشعوبها عن الانزلاق في مغامرات خارجية. ويقول: “إن نظرة متأنية إلى سلوك الصين الثابت توفر لنا ضمانا أكثر. إن الصين واسعة الأرجاء، وفيها تنوع للأعراق وأعينها مفتوحة نحو الداخل… فهي غير معنية بالبحث عن المتاعب في أمكنة أخرى… لقد أبحر المكتشف الصيني تشينغ هو Cheng Ho بسفنه مسافات تزيد مرتين عما قامت به سفن كولومبس في القرن الخامس عشر واستكشف معظم العالم. ومع ذلك فلم يقم أبدا بضم أي أرضٍ… لقد سبق الصينيون الأوربيين باختراعهم للبارود بقرون، لكنهم بدلا من أن يستحدثوا أسلحة فتاكة، فقد استخدموا هذه المادة لصنع الألعاب النارية. لقد فاقت سفنهم ومهاراتهم الملاحية نظيرتها المتوافرة لدى المستكشفين الأوربيين، ومع ذلك فلم يحاولوا احتلال أي أرض أو تأسيس مستعمرات. بالرغم من أن الصين طورت أسلحة نووية حديثة، فإن مخزونها منها لا يزال محدودا نسبيا، وهو كافٍ لإعلاء شأن البلاد ويوفر قدرا مناسبا من الردع، ولكن ليس بالقدر الذي يصيب خزينة الدولة بالإفلاس أو يشن حربا نووية شاملة وفاصلة… تعهدت الصين علنا بسياسة (عدم البدء أولا) بشن حرب نووية، وعدم توجيه ضربات للأمم غير النووية. والمؤكد المعلوم أن الصين قامت بتجارب تعادل خمسة بالمئة مما قامت به الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي السابق”.
وفيما يخص مشكلتها الرئيسية مع تايوان، فلا شك أن كلا البلدين على علم تام بما تعنيه المواجهة، والسبب في ذلك بديهي، يوما بعد يوم ينمو اقتصاد تايوان والصين بأسلوب يعتمد فيها كل على الآخر أكثر فأكثر، مما يقلص من احتمالية الصراع عن طريق استعمال العنف، لما فيه ضرر للطرفين. ورجال الأعمال النافذون أولئك هم القوة في المقدمة التي تدفع باتجاه حل سلمي للنزاع، والتعليم مساحة أخرى حيث يمكن التأسيس لعلاقة تكافل عندما تستطيع الدولتان التصالح بينهما فقط.
وفي سياق هذا التفاؤل المفرط، يشير المؤلف إلى وجه التشاؤم بالنسبة إلى تايوان باعتباره خيارا موجودا، فـ”إذا ما انجرفت الولايات المتحدة واليابان كلتاهما للقتال وفاء لتعهدهما بحماية تايوان فربما نكون على أعتاب قيام الحرب العالمية الثالثة، حيث أوصي عندها بتكديس جميع أنواع السلع والبضائع”، أو كما يقول روجرز.
بعيدا عن هذا الطرح المتشائم، فالصين وتايوان بلدان يتوفران على مؤهلات اقتصادية هائلة، تجعل منهما ثنائيا رائعا.
وبالانتقال إلى سؤال آخر: عندما يفشل الآخرون هل ستفشل الصين؟ يرى المؤلف في الصين بلدا لا يسعى إلى السيطرة على العالم أو الغوص في الفوضى، فقد استطاعت أن تخرج طيلة عقود مضت بأقل الخسائل من سفك الدماء وبعزيمة لا تكل نحو العودة إلى الذروة. والصينيون لطالما اتجهوا لمكافحة الخروج عن الإجماع مع السماح له بالظهور. فكل الصينيون همهم الوحيد الآن هو الحصول على الدخل الجيد وأن يشاهدوا بلدهم مزدهرا وواعدا بمستقبل له صفة الاستقرار. وهم يملكون رأس مال فكري متنام، يضع أعلى القيم والأولوية للتعليم كأمر بديهي، فالصينيون يضعون الألواح الحجرية التي تؤدي تحية الشرف إلى ألمع العلماء مثلما فعلت مجتمعات أخرى للمحاربين المتوحشين. واليوم، يتقاطر من الصين أفضل وألمع الطلاب على جامعات التقانة العالمية، وتدفع جامعاتها بأكثر من أربع مئة ألف خريج من المهندسين في السنة.
والصين تتمتع بالجرأة لمواجهة مشكلاتها في سنين قليلة من تسببها في هذه المشكلات (الفيروسات الجديدة مثل سارز SARS المخيف وكورونا المستجد الأكثر إخافة من سابقه).
معظم النمو الحاصل في الصين داخلي ويستمد نشاطه من الطلب الداخلي، والبلد لديه نسبة عالية من الادخار، فهي الدولة التي تملك الكثير من المال. والصين اليوم شبيهة بيابان وألمانيا الأمس، إذ كل شيء يشير إلى وجود إدارة أفضل وسياسة حكومية أقل تعرجا، وأكثر ترابطا، وأكثر ثقة بالتدفق الحر للمعلومات. إنه بالطبع نجاح الصين الذي يمثل التحدي الأكبر.
والخطوات التي خطتها الصين منذ أربعة عقود خلت تجعلها حريصة على عدم/استحالة العودة إلى الوراء، ذلك بفعل ما راكمته من خبرات وإنجازات جعلتها تستقل بذاتها وترسخ سيادتها. وأهم الوسائل لتحقيق الاستقرار وشرعية الحكم هي تحسين تقديم الخدمات العامة (البنية التحتية، والصحة، والتعليم، والمياه، والكهرباء، والإسكان، والتوظيف)، وبحلول القرن الحالي صار التحسين متطورا بسرعة في البنية التحتية واسعة النطاق التي عملت على تأمين الطاقة (يؤمن الفحم الحجري 70 في المئة من احتياجات توليد الكهربائية) وتحسين خدمات النقل والمياه والصرف الصحي، في حين تظل الحاجة قائمة إلى تأمين الخدمات الصحية والتعليمية.
إن التجربة الصينية محفرة للتفكير، بشكل قوي، فيما يخص الحركة الإيجابية المتصاعدة التي قد تحدث بالنسبة إلى النظام الأساسي المقيد المعتمد على قائد ملهم أو حزب سياسي مهيمن، مع استقرار توفره مجموعة داخلية مسيطرة تؤمن المحفزات، سواء للاستثمار الخاص أو للتقوية المستمرة للقدرة البيروقراطية (لتوسع أكثر في هذه الفكرة أنظر كتاب في ظل العنف، منشورات عالم المعرفة فبراير 2016).َ