دراسة لما حدث و سيحدث، كل هذا وأكثر، حدث قبل ذلك في فرنسا و كتبه “غوستاف لبون” في كتابه سيكولوجية الجماهير، حيث عمل على معالجة مشكل الوعي الجمعي أو الوعي داخل الجماعة، فما إن يدخل الفرد داخل جماعة حتى يفقد التحكم في وعيه، و يرضخ لوعي الجماعة، أي أنه يفقد القدرة على التحليل و المحاجات المنطقية و العقلية ليصبح ريشة يحركها الوعي كما يشاء، و ليحدث هذا يجب أن تتوفر ثلاث أشياء وهي قضية الجماهير، أي الفكرة التي سيدافع عنها الجمهور وقد تكون القضية نبيلة أو عكس ذلك تماما، ثانيا المحرك أو القائد لهذه الجماهير و الذي يحرضها و يحركها بواسطة الكلمات و الشعارات إذ تمتلك هذه الكلمات و الشعارات قوة كبيرة بسبب هيجان العواطف، كذلك الكلمات المحرضة والتي تحرك هذه الجماهير وتهيجها.
تتسم الجماهير في أحوال كثيرة بتضخيم العواطف وتبسيطها فتصبح مجرد بيدق في يد هذه العواطف فتتحرك بتحرك عواطفها، فهي تمارس الأمرين على حد سواء، وفق الحالة المنوطة بها والمحرّضات التي طبقت عليها إما بالإيجاب أو السلب، فأنه يجب على القائد أو المحرض ان يكون ذو كاريزما قوية أيضا، ليكسب قلوب الجماهير و عطفها، أن يفهم القضية جيدا، وأن يختار كلماته المحرضة والمهيجة بشكل جيد .
فالعمل اللاواعي للجماهير اليوم، بحاجة للدراسة أكثر من ذي قبل فهو أحد مفاتيح معرفة طرق السيطرة على الجماهير وفق استراتيجيات مضبوطة، تراعي الحالة المتطورة الآنية وتغيّر الزمان وعقليات الناس، مع ضرورة وجود إعلام موجه يقوم به فرد دون أن يدري فقد أصبح معظم الأفراد ينخرطون في “البروبجندا” دون وعي ، و هذا هو الأمر الذي لا تسحن الدولة تقديره في بعض الاحيان حيث أنها لم تدرس الوعي الجمعي للجماهير بالشكل المناسب، كذلك الحالات الشاذة التي كان من الممكن أن تظهر، و التي ستحرك الجماهير في اتجاهات أخرى، قد تؤدي إلى نتائج عكسية ووخيمة.
وكما قلنا سابقا ان للجماهير عواطف وأخلاقيات منها سرعة الانفعال و التأثر فكما قلنا انها تظل جامحة اذا ما ظلت القضية و القائد قائمين بالإضافة إلى تغيير الكلمات المهيجة ، فهي مقيدة كليا من قبل اللاوعي، فالفرد المعزول يمكن أن يقف وجه المحرّضات ويعرضها على ميزان العقل والنقد والمراجعة، فيميز الحق من الباطل والصواب عن الخطأ، أما الجمهور فيخضع لها ولا يعرضها على ميزان العقل، لأنه بالأساس يفكر بالعقل الجمعي اللاواعي، فالجماهير يمكن أن تموت لأجل الانتصار لعقيدة أو عندما تؤمن بقضية ما بغض النظر على صلاحيتها وصدقيتها.
الأمر الآخر الذي تتميز به الجماهير (بمعنى الحشود) سرعة تأثرها وبساطة تصديقها واقتناعها بكل شيء، فالجماهير يستوي فيها الجاهل والعالم و رجل الدين وصاحب المهام العمومية، لأنهم يصبحون عاجزين عن الملاحظة والنظر، فبمجرّد أن ينخرط الفرد في الجمهور، فإنّ مستواه الفكري ينخفض إلى حدّ بعيد مهما كانت درجته العلمية والفكرية، فيكفي إطلاق اقتراح ما في تجمع بشري معيّن وسيحظى بانتشار واسع، بغض النظر عن مصداقيته أو صحّته. والملاحظات الجماعية دائما هي الأكثر بعدا عن الصواب، وهي تمثّل في الأغلب الأعم مجرد وهم تشكل لدى فرد واحد ثم انتقل عن طريق العدوى إلى الآخرين، بسبب تلك الكلمات المستخدمة، و كذلك الهالة البراقة حول القائد.
الإعلام الموجه و البروبجندا ، أصبح لهما دور كبير في تحريك هذه الجماهير، و تكوين افكارها حتى لو كانت لا تنتمي إلى نفس التراب أو الإقليم، فما أن يوجه الإعلام فكرة ما تحت لواء قضية ما حتى تتشبع بها الجماهير و تأمن بها.
ختاما إن الجهل و الإعلام الموجه قد يخلق جماهير أخطر من الجماهير التي تحدث عنها غوستاف لبون في كتابه المأثور، لأننا نحن اليوم فعلا أمام وعي جماهيري جديد وجب دراسة نفسيته التي تتقلب مع كل ضغطة زر.