أحدث هجوم طوفان الأقصى على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 ظواهر عديدة عربيا وعالميا. نقتصر هنا على إلقاء الضوء على موقف الغرب العدائي للمسلمين ومنه إلى طوفان الأقصى في قطاع غزة. يُعتبرُ هذا الموقف من الأمور الثابتة في سلوك الغرب نحو المسلمين. فلفت النظر إلى أن هذا السلوك أمر ثابت يعني أنه معلم راسخ ومتواصل في جوهر الرؤية الغربية للمسلمين. فهي حقيقة لا يكاد يقر بها الكثير من المثقفين التونسيين ذوي التعليم والثقافة الفرنسيين/الغربيين لغة وفكرا، وهو سلوك يفسره بسهولة علما النفس والاجتماع. نفصل القول في هذا الموضوع بمنظور مختلف يتمثل أساسا في نظريتنا للرموز الثقافية.
المقولة الفكرية لنظريتنا
يسمي الفلاسفة والمفكرون الاجتماعيون الإنسان كائنا مدنيا /اجتماعيا با لطبع. ونريد أن نحاجج بأ ن مقولة نظريتنا تعلن أن ” الإنسان كائن ثقافي بالطبع” في المقام الأول. إذ يصعب بد ون ذلك أن يكون هذا الإنسان أصلا مدنيا بالطبع. فالإنسان كائن ثقا في با لطبع بسبب مركزية ما نسميها ‘الرموز الثقافية‘ في هويته. وتعنى الرموز الثقافية تلك السمات الثقافية التي يتميز بها الإنسان على كل من الأجناس الأخرى والآلات الحديثة ذات الذكاء الاصطناعي. فاللغة المكتوبة والمنطوقة والمعرفة/العلم والفكر والأديان والقوانين والقيم والأعراف الثقافية..هي سمات رئيسية مميزة للجنس البشرى. لقد توصلنا أخيرا إلى استعمال مصطلح مرادف للرموز الثقافية أطلقنا عليه البعد الثالث للإنسان، فأصدرنا كتاب (الإنسان ذلك الكائن الثلاثي الأبعاد 2020). جاء ابتكارنا لهذا المفهوم من تشخيص جديد لهوية الإنسان. لوقع تعريفُ طبيعة الكائن البشري عموما في ديانات وفلسفات والمنظومات الفكرية المتعددة في الشرق والغرب على أنها تتكون من جسد وروح، أي أنها ثنائية التركيبة. ونظرا لمركزية الرموز الثقافية في هوية الإنسان رأينا أنه يجوز إضافتها لإتمام الوصف الوافي للطبيعة البشرية لكي تصبح ثلاثية الأبعاد في الصميم.. سنستعمل في هذا المقال المصطلحين كمرادفين.
اللافت للنظر بهذا الصدد أن العلوم الاجتماعية المعاصرة استعملت مواصفات أخرى للإنسان: كائن اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي بالطبع. فحتى علماء الأنثروبولوجيا لم يجرؤوا على تسمية الإنسان بالكائن الثقافي بالطبع. يمكن القول إن ذلك يعود إلى هيمنة منظور الرؤية الوضعية في تلك العلوم. فرواد علم الأنثروبولوجيا لا يكادون يرون إمكانية دراسة الثقافة لأنها شيء ضبابي وغامض الطبيعة، أي ليست أمرا ماديا. وبالتالي، فهي كأنها ليست بالشيء الحقيقي المجسم والملموس (The Concept of Culture, White 1973 : 29-30).
تاريخ علاقة الغرب بالمسلمين
يحتاج الحديث عن علاقة المسلمين بالغرب المسيحي إلى الإشارة إلى الخلفية التاريخية التي ربطت بينهما . فمن جهة ، لقد غزا المسلمون ما يسمى اليوم إسبانيا والبرتغال حيث أقاموا حكمهم وهيمنتهم لقرون عد يد ة. وحاولوا التوسع أكثر في أوروبا خاصة على أيدي الأتراك. ولاشك أن المخيال الغربي ( تصوره وحالته الذهنية والنفسية) أصبح منذ ذلك التاريخ متوجسا وخائفا وعدائيا للمسلمين.إذ هم القوة التي هددتهم في عقر دارهم. ينبغي أن يساعد هذا العامل تفسير العداء الخاص الذي يكنه الغرب إزاء المسلمين بالمقارنة مثلا مع موقفه نحو الهنود والصينيين.
ومن جهة ثانية ، فقد هُزم المسلمون في الأندلس وطردوا منها شرّ طرد فسجلوا في مؤلفاتهم هيامهم بالأندلس ولوعتهم عليها وغضبهم على ما تعرضوا له على أيدي المنتصرين الأسبان المسيحيين . فولّدت تلك الأحداث المؤلمة عندهم مخيالا حاقدا على الأسبان وعلى الغرب بصفة عامة نتيجة لذلك و للحروب الصليبية والاستعمار الغربي لهم في العصور اللاحقة الحديثة
معرفة لغة وثقافة الآخر ومسألة التقارب أو التنافر
ترى نظريتنا للرموز الثقافية أن اشتراك الأمم والمجتمعات والجماعات فيها يسهل التقارب والتحاور بينها. فالاشتراك أو التشابه بين تلك التجمعات البشرية في الرموز الثقافية يعزز بالتأكيد الاستعداد والتحمس والقدرة على التقارب والتحاور على المستويين الفردي والجماعي بين ثقافات المجتمعات والحضارات البشرية. هناك ثلاثة عوامل ثقافية رئيسية تقوي من إمكانية التقارب والتحاور بين بني البشر:
1ـ فمعرفة لغة الآخر تسهل فتح أبواب التقارب والتواصل بين الأفراد والمجموعات البشرية. فمعرفة لغة الآخر هي تأشيرة visaخضراء للدخول من البوابة الواسعة للاحتكاك به والتعرف عليه.ومن ثم، فحـوار الثقافات بين العالم الإسلامي والعالم الغربي يتطلب في المقام الأول من الطرفين معرفة لغات بعضهما البعض. وهذا العامل اللغوي ضعيف الحضور والانتشار في المجتمعات الغربية على المستوى الشعبي وحتى النخبوي. وربما ينطبق هذا أكثر على المجتمع الأمريكي ليس بالنسبة لفقدانه لمعرفة لغات العالم الإسلامي فحسب بل أيضا في ضُعف معرفته للغات الأجنبية بصفة عامة.
وعلى العكس من ذلك، فإن لنخب وشعوب العالم الإسلامي معرفة واسعة ومتمكـنة أحيانا بلغات المجتمعات الغربية المتقدمة وفي طليعتها اللغتان الإنكليزية والفرنسية. أما المجتمعات الغربية المتقدمة فليس لها ما يحفزها على نطاق شعبي واسع على تعلم ولو لغة واحدة من لغات العالمين العربي والإسلامي الرئيسية (العربية والفارسية والتركية والأردية). إذ طالما يقتصر الأمر في أغلب الأحيان على تعلم بسيط لبعض لغات العالم العربي والإسلامي لعدد محدود جدا من الأفراد من العلماء والمستشرقين والدبلوماسيين ورجال الأعمال والاستخبارات
2 ـ التعرف على ثقافة الآخر: لا يقتصر الأمر في العالم الإسلامي على مجرد معرفة بعض لغات المجتمعات الغربية كتأشيرات خضراء تسهل التحاور معها بل يتجاوز الأمر إلى اكتساب النخب والطبقات الاجتماعية العليا والمتوسطة في المجتمعات الإسلامية على الخصوص معرفة لا بأس بها أو متميزة من ثقافة وعلوم المجتمعات الغربية المتقدمة بحيث يصبح البعض من نخب المتعلمين والمثقفين المسلمين أكثر إلماما ومعرفة بالثقافة والعلوم الغربية من ثقافة وعلوم مجتمعاتهم. وهو وضع يجعل الكثيرين من هؤلاء يشكون من عرض الاغتراب الثقافي ومن ثم التعاطف البارز مع والانتساب القوي إلى الثقافة والعلوم الغربية على حساب الثقافة والعلوم الإسلامية مما يؤدي إلى الانبهار بلغات الغرب وبثقافته وعلومه إلى تحقير وإلغاء التحاور مع الذات وهو ما سماه عالم الاجتماع الماليزي الراحل سيد حسين العطاس ‘العقل السجين’ .
3 ـ الدين: إذا كان المسلمون يتفوقون على الغربيين في رغبتهم للتحاور معهم بسبب معرفتهم للغات الغربية وبسبب معرفتهم لثقافة الغرب وعلومه ، فإن عامل الدين يمثل هو الآخر قطبا جذابا يشجع ويدفع الأغلبية المسلمة إلى التحاور والتواصل مع الغرب المسيحي .إذ يؤمن المسلمون بأن المسيحيين هم من أهل الكتاب، وبالتالي فالمسلمون يؤمنون بعيسى نبيا ورسولا.أما بالنسبة لموقف أغلبية المسيحيين الغربيين من الإسلام فهو موقف سلبي على العموم. إذ لا تعتقد الديانة المسيحية في نبوة رسول الإسلام محمد ابن عبد الله. وتأتي الرسوم المسيئة لصورة الرسول محمد في الدانمارك وفرنسا وحرق المصحف شهادات على جهل وعداء كثير من الغربيين للإسلام. ولا يمكن، في المقابل، تصور وقوع مثل تلك الإساءات إلى الرسولين موسى وعيسى في أرض الإسلام.
فقدان المساواة في رغبة التقارب
فمعرفة المسلمين للغات والثقافات والعلوم الغربية واعتقادهم في الديانتين المسيحية واليهودية تجعلهم،من وجهة نظرية الرموز الثقافية أكثر تأهلا وترحيبا من الغربيين المسيحيين واليهود بالتقارب. وبسبب هذه الفروق الثقافية يجوز القول إن المنظومة الثقافية للمجتمعات الإسلامية قد تغيرت كثيرا إلى الأحسن في مخيال المسلمين في العصور الحديثة . وعلى عكس ذلك، لا تسمح المعطيات السالفة الذكر بأن نتحد ث عن وقوع تغيير إيجابي مشابه من ذلك في مخيال الغربيين لصالح المسلمين. فالموقف الجماعي في الغرب إزاء المسلمين لازالت تغلب عليه السلبية والاتهامات النمطية والتصورات المشحونة بالحقد وفقدان الثقة والكراهية والعداوة.
رغبة الغرب في الصدام مع المسلمين
إذن، يُضعف الموقفُ الغربي السلبي من استعداد المجتمعات الغربية على الحوار المتكافئ التلقائي والمتحمس والواعد مع المجتمعات العربية والإسلامية. بل هي تود الحفاظ على علاقة الغالب بالمغلوب في هذا الحوار.ومن ثم، فالمجتمعات الغربية الحديثة هي أقل استعدادا ومقدرة لغويا وثقافيا ودينيا على الدخول في حوار ثقافي واسع ومثمر مع المجتمعات العربية والإسلامية. وفي ظل ظروف الجهل المتفشي في العالم الغربي بلغات وثقافات ودين أغلبية سكان العالمين العربي والإسلامي ، فإن الطرف الغربي هو الأكثر تأهلا وترشحا لتكوين تصورات واعتقادات نمطية سلبية خاطئة حول العرب والمسلمين ومجتمعاتهم. يرى علم النفس الاجتماعي أن مثل تلك المواقف الجماعية تشجع وتؤهل الغربيين للدخول في صدام مع العالمين العربي والإسلامي بدلا من الدخول في حوار نزيه ومتوازن معه
الرموز الثقافية ومساندة الغرب لإسرائيل
إن تحالف المجتمعات الغربية كبيرها وصغيرها مع إسرائيل منذ تأسيسها لا يكفي تفسيره فقط بالعوامل الجغرافية الإستراتيجية التي تجنيها بعض القوى الغربية الكبرى من ذلك.بل يجب أيضا إعطاء دورا مركزيا للمنظومة الثقافية الغربية الحاملة لصداقة ضعيفة نحو ثقافة وحضارة العالمين العربي والإسلامي والمتوجسة منهما والمنطوية على كثير من نقص المودة لهما. فالعداء الثقافي الغربي عداء ذو تاريخ طويل كما رأينا.
فمن وجهة منظور العلوم الاجتماعية، يمكن القول إن العداء الثقافي الغربي للإسلام أصبح معلما منتصب القامة في الشخصية القاعدية للإنسان الغربي. فيعطي هذا الواقع الثقافي مشروعية لسلوكيات الأفراد والمجتمعات الغربية الاستعدادَ الكبير للمساندة الدائمة إلى إسرائيل على حساب الحقوق العربية وخاصة حقوق الشعب الفلسطيني الذي يبقى الشعب الوحيد المحروم من حق التمتع بكرامة الاستقلال في عالم اليوم.
حرب أوكرانيا وتجلي التحيز الغربي
يشير تعاطف الغرب مع أوكرانيا ضد الغزو الروسي المشئوم إلى تبنيه سياسة المكيالين: غزو الروس لجارتهم أوكرانيا عدوان لا يُغتفر وغزو العراق البعيد عن واشنطن ولندن وحرمان الشعب الفلسطيني من الحق في إقامة دولته في أرضه مسألة فيها نظر !!!
يعود هذا من منظورنا للبعد الثالث للإنسان أن المنظومة الثقافية الغربية غير سليمة ومتماسكة في عمق بنيتها الداخلية. فمن جهة، نادت الثورة الفرنسية ورفعت راية حقوق الإنسان والمواطن في 26 أغسطس 1789 . ومن جهة أخرى، عمل المسئولون الفرنسيون عكس ذلك لما استعمروا الجزائر وتونس والمغرب وغيرها من البلدان في إفريقيا وآسيا وغيرهما. واليوم يدافع الغرب على حقوق الأوكرانيين بالسلاح والمال وبالخطب ويصمت هذا الغرب دون حياء حتى عن ذكر حقوق الفلسطينيين في المقاومة لنيل حقوقهم المسلوبة في فلسطين ويمد إسرائيل الغاصبة بالسلاح والمال وبوسائله الإعلامية لكي يزيدها اغتصابها شدة لحقوق الفلسطينيين في غزة والضفة، وهذا ما يصدق عليه بقوة المثل العربي: ” بلغ السيلُ الزُّبى“.