هذه أوراق متفرقة من الأفكار جمعتْها أغصان كثيرة، نبتت في شجرة واحدة هي حدث المونديال الذي استضافته قطر، الذي أجيز لنفسي أن اجترح له هذا الاسم (علم اجتماع المونديال) لضخامة تِأثيره على هذا الكوكب، إذ صارت له ظاهرة قوية لها أسبابها ونتائجها التي تستحق الدرس والتحليل.
المجتمعات الجديدة الالكترو-واقعية
النخبوية والثقافة الكروية، والجندر، والعمر: شروطا لنشارك ونفرح ونستمتع!
المونديال حدث عالمي جماهيري كالنهر المتدفق، تنمو على ضفافه أشجار وظلال وأطيار وثمار، فكيف يراد منا أن نفهمه فهما نخبويا، فنقصره على فئات محددة، فنهتم بماء النهر فقط لأنه هو الذي يجري في وادي النهر ونهمل العوالم الزاخرة على ضفتيه.
كرة القدم اليوم وقبل اليوم لم تكن رياضة مجردة تخص مجموعة معينة، عمرية شبابية أو جندرية ذكورية، ورمزيتها وآثارها تخرج عن الحقل الرياضي وأهدافه المباشرة، إنها اليوم ظاهرة إنسانية، تنتظم الأطفال والنساء والرجال، ومن لا يزال يؤمن بغير ذلك، عليه أن يحدّث مفهومه الكلاسيكي الذي لا يزال واقفا عند مقام الرياضة في عصر منصرم، وعند شكل المجتمع الكلاسيكي القار الذي لا يتغير، ذي القلة والمحدودية في الأشياء والأفكار والوظائف والاهتمامات والتواصل والاتصال، والسلوك الضروري والأساسيات، والإعلام المحدود، و الرياضة فيه وغيرها تكون مقصورة على الشباب لأنهم المباشرِين لها، أما مجتمعات اليوم فهي واسعة تتسع، مركبة متعددة تتراكب وتتعدد ، منفتحة تنفتح، وفيها وفرة وكثرة من العوامل المتعالقة، المتلاقحة، المتلاحقة، التي تخلق الإمكانات والاهتمامات وتزيدها وتطورها بسرعة، التي تجعل لكل حدث زخما هائلا باتساعه وآثاره.
فالذي يشترط نخبويةً أو ثقافة كرويةً معتبرة عند الإنسان لكي يجيز له متابعة المونديال أو الاحتفاء به، كمن يشترط عليه علما بتاريخ الشعر وأعصاره وأغراضه أو علما بالعروض أو المقامات الموسيقية ليتذوق قصيدة شعرية أو لحنا، أو كمن ينكر على مارٍّ بعرس شارك أهلَه احتفالَهم لأنه لا يعرفهم، هل لمشاركة الفرحة والمتعة شروط تخصصية؟ وهل لها شروط عمرية أو جندرية؟
المشارك هنا لا يشارك الممارسين الرياضيين فعلَهم المباشر لتفرض عليه عمرا أو جنسا، إنما يشاركهم مجدهم، وكونهم يمثلونه أو يهبونه متعة الفن، فحب الفنون والمجد فطرة إنسانية لأن الإنسان مجبول على حب الخير والحق والجمال والفنون بريده، وإن كانت الفنون الأساسية -كالرسم والنحت والموسيقى والأدب-تعالق حواسَ الإنسان الأساسية فالرياضات التي تعالق البدن كله فنون أخرى.
حماس الجو العام، وظاهرة الترند
ثمة تعليل آخر ذكره بعضهم، لإجهاض ذلك الحماس اللاتخصصي نحو كرة القدم، وهو أن الجو العام التواصلي هو الذي أشعل حماس كثيرين لا كرة لهم ولا مرمى في عالم كرة القدم، والسؤال الآن:
ما الضير لو جذب الجو العام لحدث جماهيري نظيف-كالمونديال- ناسا إليه، ليس لهم شأن ماكث في الكرة في غير هذا الموسم؟، ولعمري هذه فطرة في الاجتماع البشري، لا يشذ عنها إلا قليلون، فالإنسان مجبول على الانخراط في الجماعة، فكيف إن كان الذي يجمعها شيئ سار ينسي الهم ويروح عن النفس في عصر الهزائم والإحباطات والانسدادات التي يزيد سدها هذه العقلية السدائدية الذرائعية التي تضيق بفرح الناس أو إن لم تضق فهي تلمزهم أو تستخف بهم لأنهم لا يسارعون إلى القضايا التي تسارع إليها تلك العقلية الذرائعية ! والسؤال الآن عن الحماس: هل وسائل التواصل أوجدته من عدم أم نقلت موجودا من عالم المناكب إلى شاشة العناكب؟ (هامش: عالم المناكب: كناية عن العالم الأرضي الواقعي استلهاما من (مناكبها)، عالم العناكب: كناية عن الشبكة العنكبوتية/الانترنت).
وهل الترند ظاهرة الشبكة العنكبوتية أم هو ظاهرة إنسانية واقعية أيضا، لكنها استعانت اليوم بالأدوات الجديدة (وسائل التواصل)؟
قرأت كثيرا لممتعضين من وسائل التواصل الذين لا يرون إلا سلبياتها، حزينين على عصور التقدم والازدهار! التي كانت قبلها، ويجعلونها وراء أمراضنا الأساسية، والصدق أننا مرضى قبلها وبعدها، وكل الذي فعلتْه أنها نقلت جدالنا وخبالنا من محليتها ومحيطها المحدود أو المخفي إلى فضاء ممدود خارج الحدود، فانهار حراس المجتمعات المزدهرة حزنا وجزعا على هول المصيبة العجيبة!
فهل المنتقدين خارجين عن هذه الظاهرة؟
الصدق إن لكل إنسان ترنداته الذي يؤوي إليها، ويحوم حواليها، فهو منها وإليها، فإن نقمتَ على حماس الناس المونديالي فإننا ننقم عليك حماسك اليميني أو الشمالي، إلى قضاياك التي تنشط لها بلا كلل ولها ترندات وجماهير تعيش عليها وتنتعش بها. وما ينقم كثيرون من ترندات غيرهم إلا لأنهم يرون أنفسهم المرجعية الأساسية وهم أصحاب الاهتمامات الكبيرة التي ستنقذ الأمة من الهاوية الُمُلمّة، وإلا ما تفسير هذه الوصاية الناقدة التي لا تنتهي على أذواق الناس واهتماماتهم؟
سؤال الفن وجدلية الجمال والمنفعة أو الوظيفة
إن سؤال الفن سؤال فلسفي كبير، لا حدود لجوابه، يرتقي عند بعضهم إلى أصل مشترك مع الدين والأخلاق، لكن الحدييين المحدودين، ينظرون إلى هذه الآفاق الإنسانية الكبيرة من خرم إبرة، ويجهضونها بسؤال ساذج واحد: ما الفائدة منها؟، ويقعدون يعددون أضرراها التي يخيل إليهم أنها أضرارا فيتوهمونها، ومن الطرافة أنني قرأت عن حزن أحدهم على إنجاز المنتخب المغربي الاستثنائي، لماذا؟ لأن ذلك سيجعل الجيل القادم والأطفال أكثر اقتداء به، فيغريهم السير في هذه الجادة!، إذ كان فشل المنتخبات العربية الدائم -بنظره -شيئا محمودا! لأنه يصرف الناس عن هذه المجالات العبثية التي يكثر فيها الاختلاط والمجون، والعقول عُجُول، أي لكل عقل عجله الذي يطرب على ترنيمات خواره واجتراره. (هامش: المجترات هي التي تأكل العشب وتظل تديره بين أسنانها كما يلوك الإنسان العلكة).
لما أن هذا النوع من البشر لا يطرب إلا بتسليف(ربطه بفكر سالف) أو تنظير ديني، فسنقول له: إذا كان في الحديث النبوي حث على السباحة والرماية وركوب الخيل وهي رياضات ذلك العصر السائدة، فما الذي يضيرك إن حثثنا الشباب على أشهر رياضات هذا العصر، ما دامت تقوي الجسد والنفس وتجلب المال والمتعة وتنشر الثقافة والتعارف وتجعل لك مقاما واحتراما بين الشعوب في مجال صار محل اتفاقها وبذلها فهي تتسابق فيه؟، فإن كان له جانب ضار، فآتني بشيء ليس له آثار جانبية، فهل نتركه لأن عقل سيادتك يريد أن يسوس الحياة، كل الحياة بسد الذرائع وفقه الأحوط ومقولات كـ: هذه أمور علمها لا ينفع وجهلها لا يضر،…
فإذا كانت الرياضة الكروية حدثا عالميا إنسانيا، تُفرِح الشعوب على اختلاف أجناسها وتجعلها تتعارف بينها، وتعزز الاتفاق وتحترم الاختلاف، وتستثمر في إمكانات الشباب وطاقاتهم وتلهمهم، بل صارت صناعة تنتج مالا كثيرا، إذا كانت كل ذلك، فماذا بقي لكي تنضج هذه العقول وتسكت فلا تتهكم من اهتمام الناس بها أو تستخف به؟ إذا كان ذوقك في غير هذا، فلست حجة على غيرك أو مقياسا تحاكمه إليه، يا ذا الاهتمامات الكبيرة الخطيرة، والأنكى أن يعرض هذا باسم الدين، بذلك المنطق الساذج الذي يصنف الأعمال كما يحلو له، بين نافع أو زبد، فالأدق، أن نقول أنه باسم ( التدين) لا الدين، لأن الدين أفق إلهي مطلق، أما التدين فعمل بشري نسبي، بل صار حزبيا أيديولوجيا، حزمةً من مبادئ معينة، يشاكسها حزم أخرى كثيرة.
علم اجتماع المونديال وعلم الاجتماع الرياضي
أستطيع أن أحصر كل هذه الأمور بشيئ أسميه علم اجتماع المونديال وهو فرع عن علم الاجتماع الرياضي، أو علم اجتماع الرياضة، فمثلما أن الاجتماع البشري يؤثر في نوع المعرفة المنتجة ويحدد موضوعاتها واتجاه سيرها، وكيف تؤثر فيه ووو…. واصطلحوا على تسميته بعلم اجتماع المعرفة، فكذلك كرة القدم ينبغي أن ندرس كيف تؤثر في الأنفس والمجتمعات، ميولها، وأفكارها، وعواطفها، اقتصادها، طاقاتها…. إلخ لكي نستفيد منها في التغييرات الإيجابية التي تعضد ديارنا وترفع منارنا بأشياء تليق بنا كأمة شاملة، رسالتها الرحمة والتعارف بلا عدوان أو إكراه.
سحر الإنجاز والإلهام وقيم الوفاء
وها هنا وقفة هامة يجب نستلهمها من تجربة المنتخب الأرجنتيني وظاهرتيه الكبريتين مارادونا وميسي:
ثمة نجمتان على قميص المنتخب الأرجنتيني، يرمزان إلى المرتين اللتين فاز فيهما بكأس العالم، لَكَم امتلأت بجمال هذه الرمزية، فما أجمل أن تكون امتدادا للإنجازات الخيرة الكبيرة في تاريخك التي أحرزها سلفك، وأنت تحملها وتحلم أن تضيف عليها، فتسجل اسمك في سجل مجدها، فماردونا كان حاضرا وإن مات جسده، فصوره التي ملأت المدرجات قبل النصر وبعده، لم تكن إلا الشعار الصوري على الحقيقة المادية التي قامت على الأرض وماردونا روحها:
كيف لرجل مبدع أن يكون مجرة مضيئة تنير من بعده قلوب ملايين بالحلم فيعملون له، فتزدهر صناعة كاملة بسببه، تتفجر منها أنهارُ عملٍ كثيرةٍ تنتظم فيها أيادٍ وقلوب وعرق ودموع، ومن يظن أن ذلك الإلهام الناجم عن النصر في كرة القدم لا يكون إلا في حقلها، فقد حجّر واسعا وضلَّ سنن الاجتماع والأنفس، لأن الإنجاز في شيء سيخلق إنجازات في أشياء أخرى، فكلٌّ سيقبس منه قبسا ينير له طريقه الذي اختاره لنفسه، لذا فنحن نحتاج لكل نجاح في كل مجال، وليس ككرة القدم مثال فذ على العمل الجماعي الذي ينطق عن ملايين خلفه، وقد رأينا كيف تبدت قيم العائلة الجميلة في المنتخب المغربي ومن بعده الأرجنتيني وهم يهدون إنجازهم لعائلاتهم وأحيائهم الفقيرة والدموع في أعينهم، ليضربوا أجمل الأمثلة على أن الإنجاز الكبير حين يحدث ليس ابن هذه الساعة الأخيرة بل هو الجنين الذي تخلق سنوات وسنوات ورفدته روافد كثيرة أكثر وأكبر من ٢٤ لاعبا يلعب نصفهم ضمن المستطيل الأخضر، فالملعب الحقيقي هو خارطة وطن كامل بقلوب أهله وأحلامه التي تحب الحياة …