عندما نناقش موضوع علوم الدين أو العلوم الإسلامية، أو ما يصطلح عليه ب”العلوم الشرعية”؛ فإن النقاش ينصب في قضية لها خصوصية في السياق العربي الإسلامي، والسياق المغربي إذا أردنا حصر زاوية النظر.
ينطلق الحكم على هذه العلوم من وجهات نظر كرِّرت حتى صارت معروفة، وبقدر اختلافها وتناقضها فهي تعكس تفاوتين، تفاوت الأنظار في الداخل (العربي الإسلامي، والمغربي)، وتفاوت العقل بين الشرق والغرب.
التفاوت الأول؛ وهو الحاصل بين الحكم على الدنيا بالدين، وبين الحكم على الدين بالدنيا. الأول “سلفي محافظ أصولي”، والثاني “حداثي تغييري معاصر”. حكم الأول مطلوب ما دمنا في حاجة إليه، الحاجة مطلقة خالدة بالنسبة إليه، نسبية قد ترتفع بالنسبة للمدافعين عن منطقه تحت سقف “الزمن”. ولا حاجة لنا بحكم الثاني، في السياسة والاجتماع إلا بمقدار، ومجاله المختبرات لا عموم الناس.
التفاوت الثاني؛ وهو الحاصل بين “عقلانية الغرب” و”روحانية الشرق”. الأولى مطلوبة للدنيا (“تليين الحديد”)، والثانية مطلوبة للآخرة (“تهذيب السائرين”). بغياب الأولى، يضيع المعاش ومعه المعاذ. وبغياب الثانية، يضيع الرمز والحقيقة الأولى والاستقرار النفسي (“اطمئنان القلوب بذكر الله”)، بل والاستقرار السياسي والاقتصادي وما به يتحقق المعاش نفسه. هذا، وإعمال الأولى في الدين “خطر عظيم”، عقل يراد به خراب الديار، بحث في الموضوع يراد به إضعاف الذات، منهج للكشف والاستهداف في نفس الوقت، استشراق في أحشائه استعمار، مختبر أريد له الإفساد في أحوال الناس.
الفصل أصل، لا بمنطق “العلمانية الشاملة”، ولا حتى “الجزئية”؛ بل بمنطق إعمال العلوم الدنيوية في الطبيعيات والاجتماعيات، وإعمال علوم الدين في شؤون الدين والأخلاقيات. وإذا اقتضى الحال، وهو واجب، تسديد علوم الدنيا بمثل الدين وأحكامه وعقائده، ودعم الدين بعلوم الدنيا واكتشافاتها. نوع من الربط لا يطوي الفرق بين المجالين.
الغيب عزيز، وقواعد الاجتماع وقوانين الطبيعة كذلك؛ العلم بهما واجب شرعي، عيني وقد يكون كفائيا في الغيب، وكفائي في كشف كنه الطبيعة والمجتمع. لسنا في حاجة إلى الخلط، ولا إلى ضرب أحد العلمين بالآخر. الطريق واضح، ومن أراد أن يعبث فهو مسؤول ليس على نفسه فقط، بل على وطن وأمة، على دين هو استراتيجية الخلاص الفردي والجماعي.
علوم الآلة، كوسائل لغايات الشريعة، ليست أبنية وأدوات موروثة فحسب، بل هي منظومة في السياسة والاجتماع والثقافة. الحديث فيها ليس حديثا في الذهن فحسب، بل في مصالح الناس، في كسبهم ومعاشهم، في استقرارهم وأمنهم، في مجتمعهم ودولتهم.
من أراد الحديث في الذهن، فلينظر لواقعه، أو ليصمت! هناك صدق وصواب، “إنما الأعمال بالنيات”، والعقول قنوات النيات ومرشدتها للصواب.