ليس من المبالغة القول بأن السابع من أكتوبر من العام ألفين وثلاثة وعشرين لحظة فارقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. هذا ليس تمجيدا يفرضه الانحياز الطبيعي والمنطقي للشعب الفلسطيني وقضيته، وليس مجرد تضامن بمنطق الواجب الديني والشرعي مع جزء من الأمة العربية والإسلامية، وحتى أنه ليس مجرد فرحة عابرة بإنجاز أو عملية عسكرية للمقاومة الفلسطينية ضمن مسارها وتجربتها وخيارها الاستراتيجي في مواجهة الطغيان الإسرائيلي ومجابهة الاستكبار الصهيوني. إنه طور جديد يصعب -على الأقل إلى غاية اللحظة- تصنيفه هجوما أو حربا، أو وصفه نصرا أو اختراقا، أو حتى تناوله وإخضاعه لنموذج تحليلي أو تفسيري سياسي أو استراتيجي أو عسكري… هو في الحقيقة ذلك كله، ولكن الأهم أنه تحول فرض نفسه على الجميع، ومنعطف ستجبر تداعياته الجميع على إعادة النظر وإعادة التفكير في محددات الصراع التقليدية، وفي التصورات النمطية حول مستقبله ومآلاته، وفي توازنات القوة المرتبطة به.
غير أننا نعتقد أن أطرافا ثلاثة معنية بشكل مباشر بهذا التحول وبهذا الطور الجديد الذي تقوده حركة المقاومة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وهذا لا ينفي بطبيعة الحال وجود أطراف أخرى، ولكننا ركزنا على تلك التي ستطالها تداعيات وارتدادات عملية طوفان الأقصى بشكل مباشر.
الطرف الأول: إسرائيل دولة الاحتلال
إن نشأة دولة إسرائيل، ووجودها، واستمرارها، ارتبط بفكرة مركزية مفادها حتمية العودة والتوطين في إسرائيل التاريخية، التي لم تكن سوى فلسطين الدولة التي توجد في قلب العالم العربي والإسلامي. وهو ما اقتضى بناء “دولة” بتعريفات دينية متطرفة، في حاجة إلى بنية أمنية وعسكرية صلبة، وقوة غاشمة تمكنها من العيش والنمو وسط العرب والمسلمين. لذلك فعقيدة الوجود الصهيونية مؤسسة على هذا التحالف والارتباط “المقدس” بين تعاليم التلمود المتطرفة، ومقومات القوة العسكرية والأمنية الدموية والعنيفة. تنضوي وتخضع إذن سياسات الاستيطان والتسييج والحصار والاعتقال والقتل، وحيازة كل مستويات وأشكال القوة العسكرية التقليدية وغير التقليدية لهذه العقيدة. إن قراءة ردود أفعال الشارع والمواطن الإسرائيليين قد لا تلتفت كثيرا للفشل الاستخباراتي، أو الهزيمة العسكرية، أو الانهيار الأمني، هو تحصيل حاصل، ولكن المجتمع الإسرائيلي بات يطرح اليوم بشكل أساسي سؤال التاريخ وجدوى الانتماء للهوية الإسرائيلية، وفي ذلك إحالة ضمنية وغير مباشرة وغير واعية لعقيدة الوجود الصهيونية، التي ترى في الأسوار العالية والسياجات المرتفعة المزودة بأحدث تكنولوجيات الاستشعار والرصد وفي المستوطنات، أكثر من أداة للحماية والتأمين والعيش، بل تتمثلها وسيلة حياة واستمرار ووجود.
عندما كانت قوات حماس تدّك هذه الأسوار والسياجات والعوازل، وعندما اقتحمت المستوطنات باعتبارها بنية مركزية في حيازة الأرض وتملّكها، إنما كانت في الحقيقة تنسف كذلك رمزيات دينية وروحانية وتاريخية مؤسسة للعقيدة العسكرية الإسرائيلية وللمجتمع الإسرائيلي، وهو تحول سيكون له تداعيات خطيرة على هذه المؤسسة وعلى ولائها الديني، وعلى البنية الاجتماعية والسياسية لدولة الاحتلال التي تجعل من المستوطنات عمقها الاستراتيجي وخط المواجهة والصد والحصار المتقدم.
الطرف الثاني: الولايات المتحدة الأمريكية دولة الدعم والمساندة
الحقيقة أن الانحياز الأمريكي المفضوح لإسرائيل بات من مسلمات وثوابت السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، بل إن الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض أضحت تبتعد عن سياسات الوساطة والحياد ورعاية المفاوضات المنحازة أصلا لإسرائيل، لصالح خطاب يدين باستمرار كل ما هو فلسطيني، يصنف المقاومة “إرهابا”، وينتقد السلطة الفلسطينية لأنها لم تقم ولم تف ب”واجباتها والتزاماتها” في كبحها والتضييق عليها.
الثابت في العلاقات الإسرائيلية الأمريكية هو تشبيك العلاقات والارتباطات والمصالح المستند على توافق “مقدس”، وعلى توزيع تاريخي للأدوار تضمن بموجبه أمريكا وجود وأمن واستمرار إسرائيل، في مقابل التزام إسرائيلي برعاية المصالح الأمريكية في المنطقة، وردع ومواجهة كل محاولات المساس بدعائمها وموجهاتها الاقتصادية والسياسية والأمنية. تحتاج إسرائيل لتحقيق ذلك إلى صناعة هيبة، وتكريس ممنهج لوضعية استقواء واستعلاء على كل الدول العربية في المنطقة. وقد عملت في سبيل ذلك إلى صناعة قصص وخرافات حول جيشها الذي “لا يقهر” وجنديها الذي “لا يتراجع” وترسانتها التي “ترى وتطلق”، وقامت بتسويق وترويج هذه التصورات للولايات المتحدة الأمريكية نظاما وشعبا.
لم تقم عملية طوفان الأقصى فقط بإسقاط وكشف أساطير الجيش لدى المواطن الإسرائيلي، ولكنها بصدد تفكيكها في وعي المواطن الأمريكي كذلك. هذا الأخير لم يكن يعرف عن الكفاح الفلسطيني سوى العمليات “الانتحارية” التي لا تميز في الأهداف بين المدنيين والعسكريين، حسب وصف وسائل الإعلام الأمريكية الموجّهة والمدعومة من اللوبي الإسرائيلي، ولم يكن يصله سوى الصوت الخافت والمحتشم للسلطة الفلسطينية، وخطابها الجاف والبارد حول سلام زائف.
إن التحول النوعي والتراكمي في الفكر الاستراتيجي، والسلوك العسكري، والتفوق العملياتي للمقاومة، من شأنه -بل عليه- أن يدفع فئات واسعة من الشعب الأمريكي وحتى المؤسسة الرسمية إلى التساؤل حول فعالية وجدوى “الكرم” الأمريكي اللامحدود الموجّه لإسرائيل، ذلك أن الجيش المنكشف والمنكسر أمام قوة عسكرية غير نظامية محدودة التسليح والتدريب، كيف يمكنه مواجهة قوى عسكرية نظامية وخوض حروب طويلة الأمد.
الطرف الثالث: المواطن والشارع العربي
يمكن القول أن الموقف العربي الشعبي ظل بشكل عام ثابتا في مساندته وتبنيه للقضية الفلسطينية. إلا أن هذا التضامن المبدئي تأثر بتحولات وتقلبات المواقف العربية الرسمية التي تاهت تارة في سراديب السلام الملغوم، وأدارت ظهرها تارة أخرى بدعوى الأولويات الداخلية والخصوصية الوطنية والانقسام الداخلي الفلسطيني وغيرها من شماعات التراجع واللامبالاة. استغلت بطبيعة الحال دولة الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية وضعية التغافل هاته، كي تقوم عمليا وواقعيا بتنزيل وتطبيق سياسات إعادة تشكيل المنطقة، وإعادة تعريف “التوافقات” و”التفاهمات” الجديدة المرتبطة بالقضية. نقلت بموجب ذلك إدارة ترامب السفارة الأمريكية إلى القدس، وأضحت المستوطنات واقعا جديدا على الأرض لابد أن يأخذ بعين الاعتبار في مفاوضات الحل النهائي، وأصبح حل الدولتين سرابا بفعل توسيع رقعة الاستيطان في الضفة الغربية، خاصة مدينة القدس الشرقية، واستمرار مسلسل التهويد الذي تقوم به إسرائيل على قدم وساق، وتسارع مسلسل التطبيع بشكل غير مسبوق في التاريخ العربي المعاصر، وتشكلت في إسرائيل الحكومة الأكثر تطرفا.
الحقيقة المرّة أن هذه الضربات النفسية والمعنوية المتتالية، المقصودة والممنهجة أصابت الوعي الشعبي الجماعي العربي بالإنهاك واليأس، خاصة بعد تعثرات الربيع العربي وارتداداته. ويبدو أن مساحة التأييد المطلق والارتباط الروحي بالقضية الفلسطينية بدأت تتقلص وتتوارى تدريجيا. في هذا السياق، يحسب لعملية طوفان الأقصى أنها أعادت إحياء الذاكرة العربية الجماعية المرتبطة بفلسطين خاصة في شقها الشعبي. انتعشت سرديات التحرير والمقاومة وفلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، وتم إعادة استدعاء رموز المقاومة ورمزياتها وإنجازاتها وتاريخها…وبالنظر للإنجاز العسكري والاستراتيجي الكبير للمقاومة، باتت الاصطفافات والتمايزات وحتى الانتماءات أكثر وضوحا وجلاء أكثر من أي وقت مضى.