تتكرر الشكوى من قسوة الحداثة، إذ يعتبرها البعض خالية من الرحمة بالعالم ومكوناته.
حقا، يعد العنف ظاهرة مصاحبة لبني البشر منذ مقتل هابيل، كما يمكن وبيسر التأريخ للبشرية بعدد حروبها… لكن ميزة عنف الزمن الحديث يختلف جذريا لأنه أصبح منهجيا ويتم باستراتيجيات وتكتيكات محايثة سمتها التكميم والحساب والدقة عالية المستوى…
وهنا لا يكفي توصيف المشهد الحداثي وتوجيه أحكام قيمية حوله، فالتوصيف أحيانا يكون تحصيلا حاصلا ومجرد قراءة في المآلات التي لا تغني في فهم الأمور، فالسؤال الأهم عندنا هو: ما الذي يجعل عنف الحداثة مختلفا وشديد القسوة؟
لنتفق بداية على أن الحداثة منظومة فكرية أو لنقل: “بردايما” أي نموذجا ذهنيا موجها وكاسحا وظافرا يوجه رؤية الناس للعالم، يبقى فقط الوقوف عند نواة هذه الرؤية والخطاطة الخفية والمعتمة التي تسري فيها وتحرك البشرية في الغالب خلسة منها.
إن التأمل الدقيق يبرز لنا أن الحداثة خلال الأربعة قرون المنصرمة تحركت وهي تستأسد بالأسلوب العلمي الذي حقق نجاحا باهرا في القرن السابع عشر الميلادي، فالعلماء آنذاك قاموا بعزل الذات عن الطبيعة وسحق كل نزعة إحيائية منه انطلاقا من المبدأ الفيزيائي الشهير الذي تبلور بجلاء مع غاليليو وديكارت وهو: مبدأ القصور الذاتي، فالعالم أصبح وفقه عاطلا، لا يختار وخلو من التفكير، فهو مجرد ساعة كبرى تشتغل بسببية محكمة، يمكن التحكم فيها في حال تمكن الإنسان من ضبط قوانينها.
لقد كانت محصلة هذه النزعة الآلية جعل العالم مفعولا به وجعل الإنسان فاعلا وحده، فالحرية من نصيبه فقط. وهو ما أعطاه سلطة كبيرة على الطبيعة فهي قابلة للتسخير والهيمنة بل الاستباحة.
والذي سيزيد من جبروت هذه السلطة الإنسانية على الطبيعة هو ذلك الشعور الذي تعمم في أوروبا انطلاقا من القرن السابع عشر وسيمتد إلى حدود الساعة والمتمثل في “الاحساس ب “المتروكية” جراء الزلزال الفلكي المتمثل في الثورة الكوبيرنيكية، حيث سيصبح الإنسان يعيش في حصاة صغيرة ضمن عالم شاحب ومخيف ولا نهائي، وهنا نتذكر صرخة باسكال القائلة: ” إن صمت هذا العالم الازلي واللانهائي يرعبني” إن هذه العوالم الشاسعة لا يمكن أن تكون فقط من أجل البشر لأنها، وكما تم الاعتقاد آنذاك، تتجاوز حاجياته، بكلمة واحدة : أحس الانسان “وكأن الله تركه يجابه مصيره لوحده” وهو ما دفع إنسان القرن السابع عشر لتحمل هذه المسؤوليىة ، فوجد خلاصه في تعويض المركزية المكانية بالمركزية الفكرية، وكم كان الأمر شاقا وعسيرا، فالسير دون سند السماء كالسير في الصحراء دون ماء.
تمكن الإنسان عبر مسار الزمن الحديث من صقل الأسلوب العلمي، ليزيد من قبضته على الظواهر، ولم يكتفي بالظواهر المادية التي انصاعت للعلم ووضعت في معادلات صارمة، بل الأمر أصاب جميع المجالات، بما فيها الجوانب النفسية والاجتماعية شديدة التعقيد، وهو ما تبلور مع ظهور “العلوم الإنسانية في القرن التاسع عشر.
إن هذا التحرك صوب الهوامش لإخضاعها لمركزية الرؤية العلمية هو الذي نسميه نحن بالحداثة، التي لا يهدأ لها بال إلا حين تحقق السيطرة والتحكم عل كل شارد عنها ومن تم نيل المراد المتمثل في المردودية والنجاعة وجعل كل شيء ذلولا.
إن السيطرة على العالم دون رقابة السماء، أو لنقل إن عزل المحايث عن المفارق ودراسة الطبيعة بالطبيعة وحدها انطلاقا من إمكانات البشر الخاصة وحدها، جعل الإنسان يزداد غرورا حد تأليه نفسه أحيانا، الأمر الذي أخذه مرات عدة في دروب الاستباحة، ويكفي كمؤشر على ذلك: الأزمة البيئية التي تقض مضجعنا، ناهيك عن باقي صنوف التجاوزات التي نراها بأم العين في كل يوم، ولعل إعادة تقسيم الخرائط وتوزيع البشر واحدة منها.
من جهة أخرى ولمزيد من إلقاء الضوء على مميزات العنف الحداثي يكفي تأمل قسوة وجفاء العالم في مختبره، فهو يعامل موضوعه المدروس سواء كان جامداً أو حياً كآلة صماء، وبأحاسيس منعدمة وهو ما نتلمسه في الاستئصالات وضخ المواد المشعة أو بعض الفيروسات في الكائنات الموضوعة قصد التجارب، ونلمسه في العيادات الطبية الجراحية بمبضع بارد لا يبالي بمعاناة المرضى… لتكون في المحصلة ملامح السلوك العلمي في المختبرات هي السقف المثالي للسلوك الحداثي في قطاعات الحياة الأخرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية ضمن مجالات أخرى.
نخلص إلى أن نقد البشرية لعنف الحداثة لن يكون مجديا دون نقد الأسلوب العلمي الطاغي ذي النزوع المحايث، فهو المغذي للحداثة والمزود لها بأسباب البقاء، فكيف ننزع عن العلم محايثته ونعيد ربطه بالمفارق؟ أرى الأمر شديد الصعوبة.







