مقدمة:
أصدرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 2018 كتابا هاما بعنوان “غزة: التاريخ الاجتماعي تحت الاستعمار البريطاني” كتبه أستاذ علم الاجتماع في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت، الدكتور أباهر السقا[1] ليوثق لحياة المدينة اليومية تحت الاستعمار البريطاني (1920-1948).
جاء الكتاب في 324 صفحة، ضمن سلسلة المدن الفلسطينية، التي تنكب مؤسسة الدراسات الفلسطينية على إصدارها بشكل دوري. هدف هذا الكتاب -كما أشار السقا، وهو ابن غزة- لإعادة الاعتبار لمدينته، ولمكانتها الاجتماعية في التاريخ الاجتماعي الفلسطيني، ليكشف عن واقع غاب عن الوعي العام والذاكرة الفلسطينية وربما العربية والعالمية. وسيلة السقا إلى ذلك كانت في التنقيب أو البحث في الميدان اليومي “الذاتي” و”الفردي” و”الجماعي” والتفاعلات بينهما مستقيا معطياته ودلائله من تراجم وأرشيفات متنوعة المشارب(عثمانية، بريطانية، فرنسية).
“قراءات لا تاريخية” شوهت التاريخ.
إن المتصفح لهذا الكتاب، يجد نفسه متفقا مع دوافع السقا في إعادة دراسة تاريخ المدينة وإعادة الاعتبار لها. بنظره، ثمة “قراءات (عدة) لا تاريخية “أسست لوعي “مشوه” وتصورات مغلوطة في “المخيال” الشعبي الفلسطيني (ص 11-12) أراد الكاتب الكشف عنها من خلال تقديم صورة أخرى لحقبة أخرى. وهنا أشار السقا أن من بين تلك القراءات اللاتاريخية تصوير المدينة على أنها “بائسة” وفقيرة أحيانا، وعلى أنها مدينة “المجد” والأبطال والبطولات وصناعة “الحركات الوطنية الفلسطينية المعاصرة” أحيانا أخرى(ص11-12). لقد أراد السقا استعادة تاريخ آخر للذاكرة الفلسطينية والعربية يقدم من خلاله المدينة وحياتها وتركيبتها الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، وتفاعل تلك التركيبات معا في الميدان اليومي المعاش في الفترة المدروسة.
إن الأزمات والخيبات السياسية التي تراكمت تاريخيا داخل المجتمع الفلسطيني بشكل عام وغزة بشكل خاص، ودمرت المشهد الطبيعي والديمغرافي للمدينة، وأحدثت شرخا عميقا في واقعها، حيث بات ترميم هذا المشهد أمرا معقدا. تلك الأزمات لفظاظتها وكثرتها أو ربما حجم مأساتها، خاصة تحت الاحتلال الصهيوني، قامت بتغييب حالة تاريخية هامة قرر الكاتب “إزاحة اللثام” عنها، علها تضيف أو حتى تؤسس لقراءة تاريخية أكثر واقعية وأقل تشويها لحال المدينة.
إن هذا التوجه في استحضار صور أخرى قد تكون غابت من خبايا الذاكرة، هو إحدى مهام الباحث المتمرس: إنها محاولة لإزاله “الضباب” الذي تكاثف في الوعي البشري وراكم كثيرا من التصورات والوقائع المجتمعية “المغلوطة”، أو جعل الحكم على المدينة ينبع من زاوية أحادية المنشأ أو مقتضبة من سياق أعم وأشمل.
لذا أرى أن في سطور هذا الكتاب رسالة تحمل أكثر من مهمة مجتمعية، بل مهمة فكرية ومنهجية تتيح لذهن القارئ مقاربات أخرى عن واقع سكاني اجتماعي ثقافي سياسي اقتصادي في خضم حقب استعمارية وإدارية أخرى شهدتها المدنية. ومن هنا، تكمن وظيفة الباحث الاجتماعي من خلال طرح الأسئلة التي تولد الفضول البحثي لإزالة وتصحيح ما تبخر من خطابات غير دقيقة، وترسب من قناعات جردت الحالة الأصلية من أصالتها، “لفرملة” ذاكرة واستبدالها بذاكرة أخرى.
لا اعتقد أن السقا يريد القول أن غزة تحت الاستعمار البريطاني كانت بأفضل حالاتها، بقدر ما يريد أن يلفت النظر إلى التاريخ الغائب عن الوعي الشعبي العام. لعله يريد القول أن البنية “السيوسيواجتماعية” للمدينة بمركباتها المختلفة كانت قائمة ومتينة مما أتاح انتعاشا في قطاعات كثيرة جعلت المدينة تعيش حياة شبه طبيعية كغيرها من المدن الفلسطينية. فمهمها تباين أثر الحقب الاستعمارية التي شهدتها المدينة بدء من الفترة العثمانية وانتهاء بالاحتلال الصهيوني، فإن هذا لا ينفي حقيقة وجود واقع تاريخي هام أحاط بالمدينة وشكل جزء من سماتها وهويتها تحت الاستعمار البريطاني، حيث كانت مدينة ثرية عامرة حية ولم تكن بائسة، أو لم تكن مدعاه لأنها بلد “الجبارين” وصناع السياسة كحالها اليوم.
سلب تدريجي من “الإرث المعماري” للمدينة
ومن هذا المنطلق يحاجج السقا بقوة في أن تلك المدينة سلبت تدريجيا من عناصر كينونتها وهويتها، ومن إرثها التاريخي والمعماري ومن معظم العناصر التي كانت حاضرة بقوة وشكلت لأزمان طويلة “مجد” المدينة وسبل ووسائل رفاهيتها التي بدأت منذ الحقبة العثمانية واستمرت حتى فترة الاستعمار البريطاني.
مرحلة مفصلية هامة يطرحها الكاتب، ويعتبرها نقطة تحول أساسية في حياة المدينة، والحكم عليها وبداية “لطمس” كثير من المعالم “المدينة” والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتنموية فيها، ألا وهي نكبة عام 1948. النكبة التي أحدثت حسب ما يورد الكاتب، تغيرات “دراماتيكية” مأساوية على حياة المدينة انعكس صداها بشكل واضح على المركبات “السوسيو اجتماعية” وذلك تبعا للعدد الهائل من المهاجرين الذي توافد على مدينة غزة آنذاك.
هل كانت النكبة وما تبعها من واقع سياسي هي الحدث المفصلي الذي أسس للقراءات التي وصفها السقا باللاتاريخية وغيب تاريخ أراد السقا استحضاره؟ لم يصرح الكاتب بهذا التصريح مباشرة، لكن ليس من الصعب استنتاج أن القراءات الثلاث اللاتاريخية زاد زخمها مع حلول النكبة. هنا من المهم التوضيح أن الكاتب لم يقلل في صفحات كتابه من شأن النكبة وتبعياتها المأساوية على بقية مدن المجتمع الفلسطيني، حيث كان حريصا أن يظهر للقراء أن مدينة غزة لم تختلف قبل نكبة عام 1948 بشيء عن أي من نظيراتها من المدن الفلسطينية كرام الله ونابلس وبيت لحم، الخليل، وغيرهم، إلا بحجم المأساة التي حلت على أرضها وبكثره أعداد المهاجرين الذي لجؤوا اليها؛ بمعنى آخر وقوع النكبة آل إلى “انزلاق” المدينة لمسار أكثر بؤسا عن غيرها من المدن الفلسطينية، نظراً للأعداد الهائلة من المهاجرين ، مقارنة بالإعداد التي هاجرت لمدن فلسطينية أخرى، في هذا السياق يقول السقا : “لم تستقبل أي مدينة فلسطينية العدد الهائل من المهاجرين الذي استقبلته غزة”.
صراعات متواصلة على إدارة المدينة
الواقع السياسي كان وما زال يطارد أو يلاصق المدينة منذ قيامها، وكأنه “قدرها” إلا أن هذا “القدر” إن دل على شيء فهو يدل على ذاك المخزون الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والثقافي والفني والأهلي والعمراني الذي جعل تلك المدينة تحت الأنظار دائما، خاصة أنظار القوى الاستعمارية، التي لم تتوقف عن صراعاتها منذ الحقبة العثمانية للاستيلاء والسيطرة على المدينة. فالمدينة كما لاحظ السقا، لطالما اعتبرت “بوابة” لفلسطين على العالم، مما زاد من حدة الأطماع المحلية والأجنبية في التنافس والتصارع (صراع الدول وصراع البلديات مثلا) على إداراتها كما يورد الكاتب.
تلك الصراعات، زادت من تعقيدات التركيبة والعلاقات الاجتماعية وجعلتها عرضة لكثير من الجدل، مثلا في الفترة العثمانية -كما أرود السقا- أخضعت المدينة لكثير من التقسيمات السياسية والجغرافية، وحظيت سياسيا، بمسميات كثيرة مثل “لواء” ومن ثم “سنجقا”، و”متصرفية” و “متسلمية” ثم “قائمقامية”، والمدينة في تلك الفترة تغيرت حدودها ومساحة وحجم نفوذها، وأكثر من ذلك:”…وجعل(ها) حسين باشا سنة 1660…عاصمة لفلسطين”(ص 30). هذه الجملة جاءت عابرة في الكتاب لكن مدلولاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية ليس بالأمر العابر، إنما تشير إلى الأهمية الاستراتيجية التي حظيت بها تلك المدنية.
المدنية “عثمانيا”
يخبرنا السقا بأن حقبة الاستعمار البريطاني، فرضت أيضا الكثير من التغيرات التي زادت من تعقيد الواقع المعقد أصلا، لا سيما أنها جاءت امتدادا أو استكمالا أو “إرثا” للحقبة العثمانية والتي بدأت خلالها، في نظر السقا، تظهر تمثلات عائلية ووجاهات وأنماط سلطة اجتماعية (خاصة من الأثرياء) الذين كان لهم مصلحة في إدارة شؤون المدينة، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. وهذه محطة هامة من حياة المدينة، بمعنى هذا “الوعي” المبكر بتحويل تلك المدينة لمدينة “ثرية” تكثر فيها العلاقات التجارية، ويتزايد منسوب اقتصادها وخدماتها وتتواجد فيها فئة حريصة على زيادة ثرواتها عن طريق تملك أكبر للأراضي، وبالتالي التطلع نحو بناء أو صعود “برجوازيات” محتملة ربما بالمفهوم الماركسي لصعود البرجوازيات الكبيرة والصغيرة، مع فارق غياب النظام الرأسمالي بوصفه محددا لحياة الناس.
إذا المدينة أيضا لم تتوقف يوما من أن تكون موضوعا للصراعات السياسية بين الكثير من القوى الكبيرة خاصة في الفترة العثمانية(ص31)، وهذا ما يفسر برأي الكاتب تأسيس العديد من الممثليات في مرحلة مبكرة، كالممثلية الفرنسية وغيرها، وهي صراعات أثرت سلبا على العلاقات التجارية لتلك المدينة ومدن فلسطينية خاصة مع الدول المجاورة. وهذا ما جعل المدينة عُرضة للكثير من الدمار والخراب، ولبعض المجازر التي قام بها العثمانيون أو الجنود الأتراك، مما “أفقدها الكثير من إرثها المعماري”، لكن المدينة في تلك الفترة حظيت في المقابل، بإصلاحات كثيرة قامت بها السلطات العثمانية(ص 34).
كما استقطبت المدينة في تلك الفترة حضورا فرنسيا كبيرا تبرر وجوده بـ”حماية المسيحيين في الشرق”(ص33)، تلك الحماية التي يرى السقا، أنها كانت “حجة” لتنازع قوى كبيرة أوروبية مع السلطات العثمانية. وفي تلك الفترة، يقول السقا، سُمح للأجانب بالتملك في المدينة، وبالتالي تشكلت طبقة من البرجوازية، وبدأت تتراكم الثروة في أيدي “نخبة” محلية صغيرة من المقتدرين ماليا على شراء الأراضي وبالتوالي بدأت الفوارق الاقتصادية والطبقية بالظهور، كما بدأت تتسرب أراض كثيرة لليهود، كما أشار الكتاب.
ورغم تراجع العلاقات التجارية في تلك الحقبة، إلا أن الكاتب أشار إلى مفارقة هامة، وهي أن الحقبة العثمانية، تركت غزة منفتحة على محيطها الاقليمي العربي(ص261)، بفعل زخم العلاقات التجارية والسياسية والاجتماعية خاصة بين المدينة وإقليمها المجاور.
واقع جديد في الفترة البريطانية
على عكس ما كان في الحقبة العثمانية، يشير الكاتب، بأن حقبة الاستعمار البريطاني، جاءت “لتقنن” الحدود و”تقيد” حركة المواطنين؛ أي جاءت لإغلاق ما تركته “السلطات العثمانية” مفتوحا، وبالتالي فرض أنواع سلطات وعلاقات مختلفة وجديدة على واقع المدينة. أما العلاقات العائلية والوجاهات التي بدأت في الفترة العثمانية، فقد استمرت في حقبة الاستعمار البريطاني، رغبة من بعض الشرائح الاجتماعية في فرض نفوذها وبالتالي التحكم في إدارة المدينة عبر استناد تلك الشرائح المجتمعية على عدد من “المشرعات” الدينية والسلالية أو علاقات النسب”(ص 262)، بهدف إنتاج نظام تدير من خلاله هذه العائلات شؤون المدينة، لكن انتهى الأمر بتركيز تلك العائلات على خدمة مصالحها الخاصة.
“استعمار أم انتداب”؟
الفترة التي استهدفها الكاتب هي حقبة الاستعمار البريطاني، وهنا لفت السقا الأنظار إلى حقيقة هامة ربما يجهلها الكثيرون، دون أدنى تمحيص. وربما يسجل للكاتب الأسبقية في خلق هذا النوع من الوعي والخطاب، حيث أفرد مساحة لا بأس بها من كتابه للتفريق بين مصطلحي “انتداب” “واستعمار”. فلا يمكن إنكار أن معظمنا، يتداول “أباً عن جَد” مصطلح الانتداب حين نوصف تلك الفترة، أو حين نريد توصيف الظرف السياسي الذي خضع له المجتمع الفلسطيني في الفترة التاريخية المذكورة (ص 15). ففي نظر السقا، خضعت مدينة غزة كبقية المجتمع الفلسطيني لحالة استعمار وليس “انتداب”، وافتراضه هذا قائم بنظره على انتفاء “الشرط القانوني لفرض الانتداب”(ص 16). وهكذا يرى السقا، أن التوصيف الأدق لتلك الحقبة هو “استعمار”، لأن تداول كلمة انتداب يعني بشكل مباشر وغير مباشر، تهذيبا مقصودا وربما ممنهجا من قبل المستعمِر البريطاني للمهمة الاستعمارية التي قام بها هذا المستعمِر في تلك الحقبة.
يرى السقا أن هذا المستعمِر، تحت مسمى انتداب قام على سبيل المثال لا الحصر، بخدمة المشروع الصهيوني عبر ما يسمى “إعلان وعد بلفور” الذي مهد للاستعمار الصهيوني لفلسطين فيما بعد، ومن ناحية ثانية، أشار السقا أن الالتزامات القانونية والفكرية وحتى الأخلاقية التي من المفترض أن تلازم قانونيا وأيديولوجيا وأخلاقيا، حالة الانتداب لم تكن حاضرة أو كانت مغيبة تماما. أما من ناحية ثالثة يعتبر الكاتب، إن هذه الحالة انطوت على كثير من “التصورات والممارسات الفوقية والعنصرية” من قبل المنتدّب” أو المستعمِر، بمبرر بث روح “الحضارة أو “تحضير” الفلسطيني والغزاوي(ص 17)، وفي ضوء ذلك يوضح السقا الدور البريطاني في فسلطين بقوله:
“…إن غياب الحضور السكاني الاستيطاني البريطاني المكثف، وحصره في الجيش والموظفين الإداريين وبعض المجموعات البريطانية، لا يعني أن الحالة التي عاشها المجتمع الفلسطيني لا تنطبق عليها الأوضاع الاستعمارية، فالاستعمار البريطاني جعل من الأرض المنتَدب عليها أرضا لاستعمار واستيطان من مجموعات سكانية-إثنية مغايرة للمجموعات الأصلية-وهو أعطاها الحق وسهّل حضورها، وشرعن وجودها عبر وعد استعماري لأرض لا يمتلكها، وطبق سياسية استمرت ثلاثين عاما من الهجرة اليهودية المستمرة“(ص19-20).
مقاربة فريدة: فضاءها الميدان اليومي “الذاتي” و”الفردي” و”الجماعي” للمدينة
منهجيا أظهر السقا وكرر في صفحات كتابه أن دراسته هذه ليست الأولى من نوعها، لكنها الوحيدة من حيث نوعية المقاربة. برأيه، ثمة جانبا أو “تاريخا اجتماعيا ” أهمل في الدراسات السابقة، فجاءت تلك الدراسة لتغطي هذه الفجوة البحثية، من خلال تبني “مقاربة” مختلفة عن تلك المقاربات التي تبناها باحثون آخرون، فقد همش “التاريخ الاجتماعي” لفترات طويلة، ربما لغياب غير مقصود، لعلماء الاجتماع عن واقع تلك المدينة، غياب البحث الذي ينطلق من الأرض أو الميدان ليرمم المشاهد التي “عفى عليها الزمن”.
لن أتطرق إلى قضايا فنية من نوع مثلا لماذا اختار الكاتب ان يتحدث عن المدينة لا عن القطاع، فقد استوفى السقا شرح هذا البند في بداية كتابه، (ص 11-15) إلا أن اختياره للمدينة كما يقول اختصر عليه فرصة الوقوع في “متاهات” التصنيفات التي سببتها التقسيمات الجغرافية والسياسية المختلفة التي خضع لها القطاع في فترات تاريخية معينة، وبالتالي فإن اقتصار البحث على المدينة، جاء نابعا من قناعة الكاتب بأنه لا يجب التعامل مع قطاع غزة “كما لو أنه مدينة واحدة”، فالتحليل “السوسيولوجي” كما يشير، يتطلب وجود مسافات تفصل جغرافيا تاريخ المدينة ومكوناتها الاجتماعية عن غيرها من المدن والمواقع الجغرافية الواقعة في نفس الدائرة الجغرافية نفسها.
نجح السقا في الكشف عن اليومي والفردي والجماعي في حياة المدنية، من خلال دراسة مكثفة وتفصيلية لبعض “التراجم” و”المناقب” والأخبار” أو “السير الذاتية” و”الطباع”(ص 11-14)، مستقيا من أرشيف الأهالي والأرشيف البريطاني والفرنسي وأرشيف بلدية المدينة، في التعرف على معظم التفاعلات والممارسات اليومية للمركبات الاجتماعية المختلفة، “كالتركيبة السوسيو اقتصادية” للمدينة، والتركيبة التعليمية والثقافية، و”عادات المدينة الاجتماعية”، والأنماط الاستهلاكية” والبنى الدينية وعلاقات الطوائف المختلفة، والبني و”الحراكات السياسية”… الخ(ص 24).
“ميناء غزة بقي مبتورا”
غابت مظاهر الحداثة المستحقة عن مدينة غزة رغم وجود ميناء هام فيها، فيما حضرت الحداثة لنظيرات المدينة كمدن يافا وحيفا. ميناء غزة بقي “مبتورا” كما وصفه السقا، وغير مؤهل “بسب عدم تطور مرفأ المدينة” مما حال دون تطوير أو تنشيط حركة التجارة والاقتصاد (ص 265). ومن هنا، يرى السقا، أن هذا الإهمال لتطوير المرفأ، أفقد المدينة الكثير من الامتيازات “الحداثية”، خلافا لكثير من المدن التي أسست موانئها لانتعاشها الاقتصادي.
لقد كانت “البنى الخدماتية” في تلك الفترة، كالمياه والإنارة ووسائل التنقل وافرة، وعليه فإنه من الخطأ الحكم على مدينة ثرية بمواردها ووصفها بمدينة الفقر والبؤس، فوفرة المصادر كانت كفيلة بوضع غزة في مستوى اقتصاد لائق أو مقبول، على غرار كثير من المدن الفلسطينية، رغم أن الفروقات الطبقية أو الاجتماعية كانت عالية جدا في المدينة، وذلك بسبب سيطرة شرائح سكانية وامتلاكها للأراضي ورغبتها في إدارة شؤون المدينة كما ذكر سابقا (ص153-173)، في هذا السياق يقول السقا: “لم تعان غزة تاريخيا يوما في تلك الحقبة من مشكلات في مواردها المائية”(ص 153).
من ناحية ثانية، لفت السقا النظر إلى حقيقة هامة تتعلق “بالتغيرات الحضرية” التي طرأت على تلك المدينة في الحقبة المدروسة، خاصة بعد أن فقدت المدينة خلال الفترة العثمانية الكثير من إرثها الحضري(ص131-134)، فضلا عن أن دور الأهالي في عملية التنمية المحلية للمدينة كان طاغيا خاصة في إعادة عمران المدينة، مثل فتح شوارع جديدة وإصلاح أخرى وإنشاء أحياء جديدة والمبادرة بترقيم تلك الشوارع، إضافة إلى دور البلدية في تغيير نمط العمارة الداخلية”(ص 140) مما ساعد على توسع حدود المدينة وازداد عدد سكانها بفعل عودة اللاجئين اليها (ص 145)، ناهيك عن اهتمام البلدية بالبنى التعليمية في تلك الحقبة، مثل بناء وإصلاح المدارس (ص 179-182). أما “البنى الثقافية” في تلك الفترة فبدت تمثلاتها واضحة من خلال ظهور دور فاعل للصحافة وللمكتبات وللنوادي الترفيهية والرياضية ولدور السينما وغير ذلك. أما الاجتماعية “الحياة اليومية” لأهالي مدينة غزة، فقد كانت مطابقة- برأي الكاتب- للحياة اليومية لأهالي المجتمع الفلسطيني بشكل عام، حيث سادت نفس العادات الاجتماعية وكانت تقام نفس المقامات والمواسم وتمارس نفس طقوس التدين، وعلاقات المصاهرة والزواج (ص 195-207).
يشير الكاتب أيضا إلى ملاحظة مهمة تتعلق في اللباس، ويظهر لنا كيف ارتبط الحجاب تاريخيا بالموضوع السياسي والهوياتي، حيث كان استجابة لتصاعد خطابات التيارات الإسلامية التي أظهرت ردود فعل على خطابات بعض الحركات الاجتماعية والنسوية التي دعت لتحرر المرأة خاصة في مصر وتونس.
خاتمة
لا نبالغ القول في أن الكتاب يأخذنا في رحلة ممتعة إلى عوالم مدينة غزة في فترة الانتداب أو الاستعمار البريطاني (1920-1948). رحلة “دسمة” على “متن” الكثير من السرديات والحكايات والمقابلات والتفاصيل والملاحق والمراسلات والأسماء لكثير من الشخصيات التي كانت فاعلة في تلك المرحلة. نحن أمام متن رصين، يعكس جهدا بحثيا متميزا، ويكشف عن زخم اجتماعي أسس للحياة اليومية للمدينة في الفترة المدروسة وارتباطاتها بالفترات التاريخية السابقة واللاحقة، وأعاد الاعتبار لمدينة ضاربة جذورها عبر التاريخ وعبر القِدم، كواحدة “من أقدم المدن في التاريخ” (ص 25).
[1] أباهر السقا، أستاذ مشارك، في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت، حامل شهادة دكتوراه في علم الاجتماع من جامعة نانت- فرنسا. عمل محاضراً في جامعة نانت خلال الفترة 1998-2006، وأستاذاً زائراً في العديد من الجامعات الفرنسية من سنة 2009 إلى سنة 2017. وباحث مشارك في المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، وله العديد من الدراسات والمقالات العلمية.