في الثامن من أكتوبر، كانت سماء غزة مثقلة بالترقب أكثر من غيوم الخريف، محمّلةً ببشائر لم نعد نجرؤ على تصديقها. سرتُ في الطرقات أراقب ما تبقى من مدينتي، فرأيتُ في عيون الناس تعلقًا بالفرج القريب، لهفةً صامتةً كادت أن تنطق: “لقد أوشكت”. في تلك الليلة، خاصمني النوم، وبقيت أتقلب على جمر الأخبار، أبحث بين السطور عن كلمة واحدة، كلمة طال انتظارها: “انتهت”.
وحين أضاءت شاشة الهاتف بالخبر اليقين، غمرني صمت غريب؛ لم أفرح، ولم أحزن، بل وقفت على حافة شعور محايد، كأن آلة الحرب الإسرائيلية لم تكتفِ بتدمير بيوتنا، بل نجحت في هدم ذاكرتنا العاطفية أيضاً. لقد نسيت كيف يكون الفرح! فالألم الذي تجرعناه على مدى عامين من الإبادة، كان أعمق من أن يغسله خبر سار. لقد حولتنا آلة الموت إلى كائنات ميكانيكية، لا تفكر إلا في البقاء، ولا تبتكر إلا أساليب الحياة من رحم العدم.
من قال إنهما عامان من الإبادة فقط! لقد زوّر المحتل الزمن كما زوّر التاريخ. فمتى كانت الدقيقة تحت القصف دقيقة؟ ومتى كانت دقيقة الجائع، أو دقيقة المشرد المرتجف برداً، أو دقيقة الأم التي تبحث عن طفلها بين الأنقاض، مجرد ستين ثانية؟ لن تتساوى الأزمنة أبداً، فزمان هذه الحرب أزمانٌ لا تُحصى، وأوجاعها لا تتسع لها كل دفاتر الأرض.
والآن، بعد أن صمتت المدافع، يرتفع السؤال الأثقل من كل ركامنا: ماذا بعد؟
لقد انتهت الحرب، لكننا نقف عند نقطة الصفر. ينتظرنا الكثير لنبنيه، والكثير لنرممه في الحجر والروح. لكن الخوف يظل ظلاً يتربص بنا: هل ستعود آلة الحرب لتدور من جديد، لترجعنا إلى ما وراء الصفر؟ هل ستعود لتنسف هذه الحياة الهشة التي نحاول أن نلملم شتاتها؟
ما لا تعلمونه أننا استُنزفنا حتى آخر رمق، ولم يعد فينا قوة لمواجهة جولة جديدة. ربما لهذا السبب، كان انتصارنا الأكبر ليس في صمود البنادق، بل في صمود العقول؛ أي أن خروجنا من هذا الجحيم بكامل قوانا العقلية هو معجزة حقيقية، وكذلك قدرتنا رغم مرارة الحرب على ألا نتحول إلى وحوش مثلهم وأنْ نبقى بشرًا نحب ونحنّ و نحلم و نبكي ونشعر ونتألم ، فهذا هو الانتصار.
إنه انتصار شعب بأكمله أثبت قدرته على مصارعة المستحيل، والتأقلم مع ظروف لم تُكتب في أسوأ الروايات: من النزوح المتكرر، إلى الجوع، والخوف، والقصف، والفقد الذي طال كل بيت. هذه الحرب لم تقم ضد جيش مقاوم، بل كانت مركزة على كل إنسان في غزة. ففيها عانى وعاش الجميع حياة شبه مستحيلة. إن شعب غزة العظيم والاستثنائي أثبت أن إرادة الحياة لديه أقوى من كل أسلحة الموت.
ومن هنا، فإن عودتي اليوم مع مئات الآلاف إلى مدينة غزة وزحفنا نحو ركام بيوتنا هو بحد ذاته فعل انتصار.
اليوم نظرت إلى ركام منزلي، وشعرت برغبة في أن أحتضنه؛ وأحتضن ما تبقى من حجارته كمن يحتضن جزءًا من روحه، ومن ذكرياته، ومن حياته التي كانت.
مرّرت يدي على حجر بارد كان جزءًا من جدار غرفة نومي؛ هذا الحجر ليس مجرد حجر، إنه شاهدٌ على ضحكاتنا، على أحلامنا، على ليالي الأمان التي سُرقت منا، فكل حفنة تراب هنا هي صفحة من كتاب عمرنا الذي تمزق.
لقد عدت لأحتضن غزة كلها، مدينتنا المتناقضة: عشوائية، فقيرة، حادة الطباع، لكنْ فيها سكينة الأنبياء وأمان ملكوت السماء، مدينةٌ يصعب فهمها، ويستحيل تركها، فما إن تمشي في طرقاتها حتى تشعر بأن مئة ألف قلب يحنو عليك.
ومن بين حطام المنازل ووهج الصواريخ، يبرز انتصار غزة الأعظم: البقاء.
البقاء ليس مجرد وجود، بل هو إصرار عنيد على الحياة؛ هو قدرة الأم على خلق لحظة أمان بين الركام، وإصرار الطفل على متابعة تعليمه تحت القصف، وصمود الطبيب الذي يداوي الجراح بإمكانيات معدومة. كل نَفسٍ نأخذه هو تحدٍّ للعدم، وكل خطوة على هذه الأرض هي إعلان بأننا هنا، لم نَغب ولن نُغيب.
هذا البقاء هو مقاومة وجودية تعيد تعريف النصر؛ فالنصر ليس فقط هزيمة عسكرية للعدو، بل هو الحفاظ على جذورنا في هذه التربة رغم كل محاولات اقتلاعها. طالما أن قلب غزة ينبض، وطالما أن أطفالها يولدون على ترابها، وطالما أن أمهاتها يزرعن الأمل في قلوب أطفالهن، فإن غزة تنتصر؛ فوجودنا هو انتصارنا.
فالحمد لله، ليس على انتهاء الحرب فحسب، بل على بقائنا نحن. الحمد لله على كل روحٍ ما زالت تتشبث بالحياة، وعلى كل قلب ما زال ينبض بالأمل رغم انعدام الأسباب.
لن تكون هناك احتفالات صاخبة، بل صلاة شكر خاشعة، ودمعة حارة تمسح عن أرواحنا غبار عامين من الموت، وتعدنا ببدايةٍ ما، على أرض ما زلنا نسميها وطنًا.







