ومضة استهلال
تاريخ فلسفة القانون جزء من موضوعه، إلى درجة أنه يصعب فهم الفلسفة المعاصرة في أبعادها السياسية والقانونية والحقوقية، دون الوقوف عند النظريات السياسية السابقة، بل، إن الفلسفة المعاصرة ما هي إلا اكتشاف وإعادة النظر في التغيرات والنقائص التي حصلت في القديم، في أفق تطويرها وتجويدها، لتصير معبرة عن هموم وقضايا عصرنا، فالمشاكل الاجتماعية والسياسية، لا زالت هي هي، تستوجب التفكير وإعمال النظر العقلي المفضي الى إيجاد حلول لمشكلات العصر، والمتغير الوحيد، يكمن في طبيعة ونوعية وألية الرؤية، فهناك مشكلة الدولة وطبيعة النظام السياسي، ونوعية القوانين المناسبة للحكم والتدبير وتنظيم الفضاء العمومي، والعلاقة بين القوانين الطبيعية والوضعية، وأهمية العدالة، وغيرها من التصورات والمشكلات السياسية والقانونية التى لا زالت تواجه العقل السياسي والقانوني، بغية الفهم والاستيعاب والنقد والفحص، وعلى نحو عميق. لذلك، ففلسفة القانون المعاصرة، في بعض جوانبها، ماهي إلا امتداد للفكر الفلسفي والسياسي الحديث والقديم.
إن فلسفة القانون لا زالت تبحث في ماهية القوانين، وطبيعة الدولة، ومختلف اشكال أنظمة الحكم السائدة في العالم، وهي المفاهيم التى أطرت الوعي السياسي والاجتماعي الإغريقي والوسيط والحديث، فالإشكالات تبقى والأجوبة تفنى، بمعنى أن النظر في المسائل القانونية، ليس وليد اليوم، ولكنه ضارب الجذور في أعماق التاريخ السياسي- القانوني، وهو ما يفسر الحضور القوي لثنائية الفلسفة والقانون، فكل نظر فلسفي في قضايا الوجود السياسي والاجتماعي، ينطلق بالضرورة من المقاربة القانونية، لأن كل نسق فلسفي يتضمن موقفا قانونيا، وأن كل نظام قانوني يحتوي على موقف فلسفي، إنه التلازم المنطقي بين الفلسفي والقانوني، بغاية تطوير الفضاء الاجتماعي، وأيضا أن الانسان منذ أقدم العصور دأب على النظر العقلي في فكرة القانون، بتحديد ماهيته، وتجلياته الاجتماعية والسياسية وغاياته، وعلاقته بالعدالة كفضيلة أخلاقية وقيمة سياسية واجتماعية.
التفكير في فلسفة القانون خاصة في عصر النهضة الأولى ارتبط بالحاجات البشرية الطبيعية، وبتطور الحياة الإنسانية، بمعنى أن فلسفة القانون ليست ترفا فكريا، ولكنها من صميم الوجود الإنساني، حيث الرغبة في تنظيم الحياة الاجتماعية، من أجل خلق نظام سياسي عادل يحقق متطلبات وشروط الحياة الإنسانية.
الهدف من البحث، التنقيب عن منابع مفهوم العقد في علاقته بالسلطة في عصر النهضة الأولى؛ بالوقوف عند جذوره وتجلياته ومضامينه الوسيطية ( نسبة إلى العصور الوسطى) حيث يحضر بأسماء مختلفة كالمهمة والصالح العام، والشأن العام، علما أننا لا نحمل هذا العقد الذي نبحث عن ماهيته أكثر مما يحتمل، وذلك بربطه بمفهوم العقد في دلالته الحديثة، ولكن، هدفنا هنا، أن نبرز أن العصر الوسيط ليس كله ظلمات كما روجت لذلك بعض الأدبيات الإيديولوجية التي لم تنظر بعمق للقضايا والمشكلات، وأيضا إيمانا منا بأن تاريخ الفكر الفلسفي في شقه القانوني والسياسي، تاريخ تراكم وتجديد وتطوير، لا تاريخ ثبات وجمود، ” فلا شيء يحدث تلقائيا، لا شيء يعطى، وإنما كل شيء يبنى”([1]). حقا، إن المعرفة القانونية صيرورة وسيرورة متطورة في سياق إجتماعي وسياسي، حيث الارتباط بمجموعة من المفاهيم السياسية، كالدولة، والقوانين ونظام الحكم. وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
وعليه، فغاية بحثنا الوقوف عند شكل التعاقدات السياسية والقانونية التي حدثت في العصر الوسيط، خاصة المرحلة الدينية- العقلية، والتي مهدت لبداية تاريخ حديث، تحددت معه بعض معالم الدولة الحديثة. ونظرا لأهمية المنهج في كل بحث فلسفي، فقد اعتمدنا المنهج الهيرمينوطيقي، حيث القراءة التفهمية، بغية القبض عن معنى ودلالة ومضمون وماهية العقد، من أجل إعادة بنائه، سواء تعلق الأمر بالعقد كشراكة بين الله والحاكم / الملك، أو بين الحاكم وشركائه، أو بين الحاكم والمحكوم، ولا نخفي أن القراءة التأويلية لعبت دورا كبيرا في هذا البحث، حيث النظر في بعض النصوص السياسية والقانونية التي قاربت الموضوع، مع تأكيدنا، أنه يجب التمييز بين مفهوم العقد الإجتماعي كنظام سياسي واجتماعي ومدني، كما هو متعارف عليه في أدبيات فلاسفة العقد الاجتماعي، وبين مضمون العقد الذي تبدى في شكل شراكات دينية وسياسية واجتماعية، اختلط فيها الديني بالسياسي، لكن، أهمية مضمون العقد تكمن في كونه صيرورة ارهاصات وبوادر أولى للعقد الاجتماعي الحديث. وهنا نتساءل: هل يمكن الحديث عن وجود مفهوم للعقد في عصر النهضة الأولى؟ وما طبيعته؟ لاهوتية أم وضعية؟ وما هي المبادئ التي ساعدت على تشكل مفهوم العقد؟ هل يمكن القول، أن مفهوم العقد صيرورة تاريخية انطلقت إرهاصاتها الأولى مع عصر النهضة فقط أم أن للأغريق نصيب من ذلك؟ وهل حدث ذلك أيضا في بلاد المسلمين أم أن هناك عوائق حالت دون ذلك؟
الومضة الأولى: السلطة والعقد
إن طبيعة الشراكة التي سادت بين الحاكم والمحكوم في عصر النهضة الأولى، ارتبطت بالجانب اللاهوتي حيث الحضور المكثف للمفاهيم الدينية خصوصا تلك المتعلقة بالخصائص التي يجب أن تتوفر في الحاكم لممارسة السلطة السياسية، فللحاكم السلطة المطلقة في أن يفعل ما يريد، يعتقد أنه إمبراطور داخل إمبراطورية، فيضع نفسه في مقابل العالم وفي تعارض مع الأخرين، بحيث يتصور نفسه كبداية مطلقة. باعتباره رأس الهرم السياسي، سلطة تستوجب خضوع الجميع بموجب عقد إيماني عقدي يتمثل في أن الملك أو الحاكم ظل الله في أرضه، وفي ذلك دليل على أن السلطة السياسية، لاهوتية بامتياز، نظرا لإرتباطها القوي بفكرة الخلاص الروحي، وملاقاة الله في العالم الأخر، بمعنى كانت السياسية غائبة، نتيجة الحضور المكثف للتمثل الديني، فلا حديث عن القوانين أو الجيش، ولا عن سلوك سياسي. (فالملك كائن أوحد، فريد من نوعه، ليس كمثله شيء، هو الأول والآخر في مملكته، يتميز بالضرورة عن كل الناس في مظهره وسلوكه، في جده وهزله، لا يحد من سطوته شيء، يعطي وهو القادر على العقاب، مثله مثل الله، لا شريك له في حكم لا يستقيم إلا بالأفراد) ([2]).
تتجلى مركزية الحاكم، كذات مطلقة في مقابل الشعب كموضوع، في غياب أية رقابة على الحاكم، صفات لا تستوجب من الشعب مساءلة أو نقد أو مراقبة أو مراجعة الحاكم في سياسته، فهو الحامي للشعب، ليس بموجب عقد إرادي تشاركي، قابل للفسخ والتجاوز، وإنما بمنطق العقد الايماني الديني، حيث فوض الله للحاكم، حكم البشر دون اعتراض منهم، فنظرية التفويض الإلهي شكل من أشكال العقد، خصوصا إذا اعتبرنا العقد في هذه الحالة نظام تراتبي اجتماعي وسياسي وديني، غايته تنظيم حياة الأفراد والجماعات، وعلى أسس دينية. لكن، الملاحظ أن هذا العقد أو الشراكة ليس غايته القصوى تنظيم فضاء اجتماعي، وإنما التحكم والتسلط والهيمنة، وقهر الناس تبعا لتصورات دينية جوفاء، ومقولات إيمانية تضفي الشرعية على سياسة الملك، وقد يعترض علينا معترض بالقول، أن هذا النمط من الحكم لا ينبغي أن نطلق عليه عقد، لكن، النظر العميق يفضي إلى الرد، بأن العقد هنا لا يتخذ سمة المشاركة الإرادية والتشاركية بين الأفراد كما هو متعارف عليها لدى فلاسفة العقد الاجتماعي، وإنما يتجلى في شكل ميولات ونزعات تنحو في اتجاه الخضوع لجهة ما، خضوعا مطلقا. ولنا أن نتساءل هنا: هل سلطة ملكيات العصر الوسيط مطلقة أم مقيدة؟
يصعب الجواب بالإثبات المطلق أو النفي، فعلى المستوى النظري يظهر أن هناك حكم مطلق نظرا لمكانة الحاكم الدينية القدسية، أما على مستوى الواقع والعالم المعيش، فأكيد هناك شيء أخر، يتمثل في السلطة الروحية القوية والنافذة والمتحكمة روحيا وأخلاقيا في الناس، عن طريق الدين، حيث التأثير الوجداني، إلى درجة أنه في بعض الأحيان تكون السلطة الروحية أقوى من الزمنية، والملك يستند عليها لترسيخ حكمه وسياسته، بالدخول في شراكة دينية- سياسية، لتوطيد دعائم العلاقة بين السلطتين الروحية المتمثلة في الكنيسة، والزمنية المتبدية في الدولة أو الحاكم.
إن طبيعة السلطة السياسية في عصر النهضة الأولى، كانت رهينة حسابات سياسية وشراكات تعاقدية نفعية، لتبادل المنافع والمصالح بين السلطتين، حيث استراتيجية تقاسم الأدوار بين الملك والكنيسة والنبلاء والفرسان، بحيث لا نعثر هنا على أي تأثير للشعب أو المحكومين على السلطة، فالشعب ذرة هامشية، لا قيمة له، ماديا أو معنويا، ويجب أن يخضع مطلقا للحاكم، وبتفويض من الكنيسة.
لا يخفى أن المسيحية في بداياتها الأولى، لم تكن مؤثرة في المجالين، السياسي والاجتماعي، نظرا لطغيان الجانب الأخلاقي واللاهوتي على الفعل والممارسة السياسية، بحيث كان الهدف هو تطهير النفوس والضمائر، وهذا ما يفسر دعوة الكنيسة الملوك إلى ترسيخ الأوامر الإلهية، والإلتزام حرفيا بالقانون الإلهي. إصلاح النفس كعقد مع الذات والضمير، لا إبداع نظم سياسية وإجتماعية، فالإستغراق في الجانب الديني واللاهوتي هو الذي جعل المسيحية لا تتخذ موقفا واضحا من الرق والعبودية، مكتفية بدعوة العبيد إلى الصبر، والأسياد بالمعاملة بالحسنى، رغم دعوتها إلى المساواة والحرية والوحدة بين البشر، فدعوة المسيح كانت روحية لا سياسية ([3]). وعندما تحولت الكنيسة إلى سطلة متحكمة في السلطة الزمنية، أخطأت الطريق، فكان التحكم والتسلط والقهر عنوان فعلها السياسي المختلط بالديني، حيث جعل الملوك يحكمون باسم الله وبتفويض من الكنيسة، هذه الأخيرة حشرت أنفها في مجال السياسة رغما عنها، فغيرت بذلك طبيعتها الروحية-الأخلاقية، وارتدت لباس السياسية.
(لكن بدءا من القرن 13 م، حدث تبدل ملحوظ، حيث نلاحظ تأثير المحكومين على الحاكم، وذلك بتحولهم إلى قوة اجتماعية مؤثرة يتعين الانصات إليها) ([4]). تغير مس مجموعة من المفاهيم، كالسياسة والدولة والقانون، بسبب الاستفادة من الفلسفة اليونانية السياسية، خاصة فلسفة أرسطو ونظرياته حول الدولة والقانون والعدالة، وأنظمة الحكم السائدة، خاصة مع طوما الأكويني، الذي أحدث مصالحة بين الفلسفة السياسية الأرسطية والفكر الكنسي. إلى جانب التأثر بفقهاء الرومان. بحيث يمكن القول، إن هذا التلاقح اليوناني والمسيحي أدى إلى التفاتح العقلي، وغير من طبيعة الفكر السياسي في عصر النهضة الأولى، تجل ذلك في التقريب بين القانون واللاهوت، وأن الدولة تسمو على الأفراد. (لذلك يقسم مؤرخوا تاريخ الفكر المسيحي إلى مرحلتين: ساد في أولها فقط أباء الكنيسة… وفي الثانية، عمد مفكروا المسيحية على إحياء الفلسفة اليونانية واستخدموا طريقتها ومنهاجها، لذلك سميت مرحلة المدرسيين) ([5]).
بمعنى أن حكم الملك لم يعد مطلقا كما كان في السابق، وهذا ما جعل نوربرت إلياس ينتقد فكرة الحرية المطلقة للملوك (ويرى أنهم لم يصنعو ولا هم تحكموا في مسار الأحداث كما تصور البعض، بل، كانت كل أعمالهم محكومة بالعديد من التوازنات، فالملك مثلا يحتاج إلى النبلاء، ومن دونهم لن يكون هو نفسه نبيلا) ([6]). الملك كان يتصرف بموجب تقديرات سياسية، ومبادئ لممارسة السلطة في مملكته، حتى وإن كانت ذاتيته ذات سيادة، تحتكر جميع السلطات، فهو داخل في عقود مع أصحاب النفوذ والوجاهة والفئة الاقتصادية، الذين يحتلون مكانة معتبرة في المجتمع، بل، منهم من يحتكر بعض السلطات أو يتقاسمونها معه، وكمثال على ذلك، يصعب على الملك أن يحكم بعيدا عن أصحاب السلطة العسكرية التي هي قوام الدولة، ونفس الشيء بالنسبة لفئة الاقتصاد ورجال الدين، وفئة المحاربون والنبلاء؛ بمعنى أن النظرية التي تقول أن الملك يحكم حكما مطلقا يجب أن تراجع بالنقد والدراسة والتحليل.
من الواجب على الملك الدخول في عقد شراكة سياسية واقتصادية وعسكرية مع حاشيته أولا، وإلا انفردوا بأنفسهم واحتكروا بعض السلطات، فالملك يعيش في قلق دائم وخوف من أصحاب النفوذ، لأنهم في بعض الأحيان يتمكنون من بسط سيطرتهم على سلطات الملك، وذلك بالتمرد أو الانقلابات السياسية، ولنا في كلام الماوردي وابن خلدون المثال البارز على ذلك، فابن خلدون ربط مسار السلطة وطبيعتها بطبائع العمران، وكيف أن الطور الأخير من أطوار الدولة يتميز باستبداد حاشية الملك عليه، استبداد الموالي والمصطنعون، حيث يتم استغلال هرم الدولة وضعفها للانقضاض على السلطة([7]). ونفس الشيء بالنسبة للماوردي الذي تحدث في كتابه الأحكام السلطانية، عن وزارة التفويض وإمارة الاستيلاء، بغية البحث عن وسيلة ومخرج للمحافظة عن وحدة السلطة وبقاء إمام واحد في دار الإسلام، وعدم تخلخلها حيث استبداد الوزراء وانفعالات الأمراء ([8]).
الحاكم، لا يستقيم وجوده السياسي، إلا بوجود شركاء يتعاقد معهم سياسيا ودينيا واقتصاديا، لممارسة السلطة، كمؤسسة الكنيسة، وغيرها من الجمعيات التمثيلية التي صارت مؤثرة بالفعل في المجتمع والناس، فهي عناصر اجتماعية وسياسية تحول دون جعل سلطة الملك أو الحاكم مطلقة، إننا في الحقيقة أمام أشكال متعددة من التعاقدات والشراكات؛ فهناك تعاقد عمودي بين الملك والله، هذا النوع كان حاضرا وبشكل مطلق، ومؤثرا لفترة زمنية معينة حيث أضفيت صفات القداسة على الملك، وهناك تعاقدات أفقية بين الملك وحاشيته، خاصة أصحاب النفوذ المتحكمين في الاقتصاد، وهناك تعاقدات مع بعض المؤسسات المؤثرة في السلطة والدولة، كالكنيسة مثلا، دون إهمال أن هناك تعاقدات بين الحاكم وذاته، أو ما يسمى بالوازع الأخلاقي حيث إنصات الحاكم لضميره أو ما يسمى بأخلاق الضمير أو الالتزام الذاتي للحاكم اتجاه الله والشعب.
مسألة الالتزام الأخلاقي كانت حاضرة أيضا في ق 16م. حيث اعتبر الوازع الأخلاقي، رادعا لذاتية الحاكم. وكمثال على ذلك ففي القرن 16م، برز كلود دو سيسل cloud de seyssel (م1450-1520)، منظرا للسلطة معتبرا أنها تكبح بعدة كوابح أساسية: الالتزامات الوجدانية للملك، والطابع المسيحي، والبرلمان والقوانين الصالحة والمراسم والأعراف التي توطدت بحيث بات من العسير أن تنقضي أو أن تلغى ([9]). في مقابل الحضور المحتشم لمسألة القانون الإنساني، كرادع خارجي مبني على التعاقد بين العقول لا الضمائر، وتلك هي سمة الكتابات الكارولنجية حيث تتبدى ثنائية الأخلاقي- الديني، والتأثير المتبادل في بعضهما. فالملك حسب جوناس دورليان لا يجب عليه خرق أوامر الله، لأن النتيجة هي الخراب. (لا نتيجة لخرق أوامر الله غير الخراب) ([10]). بمعنى أن الملك لكي يحكم الناس، وينظم وجودهم الاجتماعي والسياسي، يجب عليه أولا أن يضبط ويتحكم في نفسه، وأسرته، بناء على تعاقده مع ذاته والله، ليصير مؤهلا لحكم عامة الناس، متصفا بالأخلاق الفاضلة على طريقة أرسطو وطوما الأكويني.
بناء ما سبق، يمكن القول؛ إن تطور العقل وطريقة التفكير، إلى جانب التغيرات السياسية والاجتماعية، أفضت إلى تطور الممارسة السياسية، فبعدما كانت التعاقدات، لاهوتية وأخلاقية صرفة، لإضفاء المشروعية على سلطة الحاكم، تغير الوضع وأصبحت الميولات لما هو سياسي وقانوني. ففي عصر النهضة الأولى طفت إلى الفضاء السياسي والاجتماعي مجموعة من المفاهيم السياسية الجديدة كما سنرى، كمفهوم المهمة، والشأن العام وأخلاقيات الملك، حيث الوازع الأخلاقي الذي يشده إلى الصلاح والاهتمام بالرعية، انطلاقا من أسس ذاتية ،ثم هناك وازع أخر يتمثل في تلك الشراكة بين الملك وبقية شركائه، بغية تحقيق المصلحة العامة، أو الصالح العام، بحيث يمكن تأويل ذلك، بكون الوازع الذي يزع إليه الملك لم يعد منحصرا في ضمير أو ذاتية الملك ، وإنما فيما يحقق المصلحة العامة، التي تشي بتبدل طبيعة العلاقة، تبدلا ملحوظا، خاصة بظهور مفهوم القانون الإنساني.
فما علاقة القانون بالسلطة؟ هل هو تعالق محكوم بعقد أو شراكة سياسية محددة المعالم أم عقد ديني وأخلاقي ولا أثر للجوانب العقلية؟
المحور الثانية: السلطة والقانون
عندما يتعلق الأمر بطبيعة سلطة الحاكم أو الملك في العصر الوسيط، يمكن أن نميز بين لحظتين أساسيتين: لحظة التفويض الإلهي، والتأثير الذي لا حدود له للملك على شعبه، بحيث كان من الواجب أن يخضع الشعب للملك، لأنه يجسد صورة الله في أرضه، ولحظة ثانية، يمكن أن نسميها بالتنوير الناقص، حيث تثوير علاقة العقل بالسياسة والدين، و الإنفتاح على العقل والتأسيس لمفاهيم جديدة لتدبير الشأن العام، هذا التغير في الممارسة السياسية، مرده إلى انفتاح العقل المسيحي كما قلنا على التراث اليوناني، إلى درجة أنه يمكن التمييز بين تعاقد مطلق بين الله والحاكم، والحاكم والناس، بموجبه تكون ذاتية الحاكم مطلقة، وبين تعاقد صار مقيدا نتيجة تبدل الممارسة والجهاز المفاهيمي المؤطر لسلطة الملك، كمفهوم المهمة، والقانون.
مادام القانون في حد ذاته مجموعة من المبادئ والقواعد الإلزامية، وبغض النظر عن طبيعته، فإنه يعتبر اللبنة الأساسية التي أفضت إلى تعاقدات سياسية جديدة، لتوطيد دعائم السلطة السياسية للحاكم، والحد منها. (ففكرة القانون وسيلة من وسائل الحد من طغيان الملك، ولو بشكل محتشم(…) فالملك يكون خادما للقوانين التي تعلو عليه، وتفرض نفسها عليه وعلى الأخرين) ([11]).
ونظرا لأهمية القانون في هذه المرحلة، يمكن التمييز بين عدة أنواع من القوانين، فهناك القانون الإلهي، والقانون الكنسي، أو قانون المجامع، والقانون المدني ([12]). وكل قانون يرتبط به نوع معين من التعاقد؛ فهناك التعاقد الديني والأخلاقي بين الله والحاكم، وبين الكنيسة والله، والتعاقد الأفقي بين الكنيسة وعامة الناس، والتعاقد المدني بين الحاكم وبقية الهيئات الأخرى المؤثرة في المجتمع، وما يوحد تلك القوانين هو مبدا الإلزام، هذا الأخير تغير بدوره تبعا لنوعية السلطة، والجهة التي يصدر عنها، وبيان ذلك؛ أن القانون الإلهي عقد بين الله والحاكم، والحاكم والرعية ولا يمكن خرقه أو تجزيئه أو تغييره، فهو قوة تفرض على الجميع، لأن أصله السماء والمتعالي، عكس القوانين الإلزامية الأخرى، التي يمكن تعديلها وتطويرها تبعا لشروط موضوعية، حيث يتدخل العقل والذات، شريطة ألا تتعارض القوانين البشرية العقلية مع القوانين الإلهية، بموجب عقد إلزامي ينص على أن مخالفة ومعاكسة القوانين الإلهية يؤدي إلى خراب العمران، فهو عقد التمييز والأفضلية والتبعية.
يمكن اعتبار تلك البدايات المحتشمة والمختلطة بالدين هي أساس ومنطلق التشريعات القانونية ذات الطبيعة البشرية في العالم المسيحي، بحيث صار من الواجب على الملك أن لا يحترم القوانين الإلهية فقط، وإنما القوانين البشرية، (سواء تلك التي يصدرها الملك نفسه أو تلك التي أصدرها أسلافه) ([13]). والملاحظ هنا، أن سلطة الحاكم بموجب مفهوم القوانين الإلزامية لم تعد سلطة مطلقة وإنما مقيدة، ولو بشكل نسبي، إنه المنطق السياسي الذي مهد لممارسة سياسية جديدة عمادها، دخول فكرة القانون البشري إلى مجال السياسة، ومزاحمة الزمني للروحي، وأصبح من الواجب خلق ملاءمة بين القوانين الإلهية والبشرية لخدمة عامة الناس، تبعا لعقد واتفاق وشراكة إنسانية، وعدم الفصل بين ما هو لاهوتي وما هو بشري.
أهمية العقد القانوني البشري الجديد، تكمن في عدم تغليب الروح التيوقراطية على المنتوج القانوني البشري، وأن الصالح العام يتطلب بالضرورة الأخذ بعين الاعتبار مكانة القوانين البشرية، نظرا لأهميتها، والحاكم عندما يخرق القوانين البشرية، فإنه لا يفعل ذلك استنادا إلى مبدأ التفويض الإلهي، وإنما لأنه الساهر على تحقيق المصلحة العامة، فخرق الملك للقانون مرده إلى تبريرات عقلية إنسانية وليست لاهوتية، يخرق القانون ليس لأنه يمتلك سلطة مطلقة أو يفعل ذلك بتفويض إلهي، وإنما لكونه يجسد المصلحة العامة ([14]). فانظر إلى التغيير الذي حصل في مجال الممارسة السياسية الأوروبية، وبين السلطة والقانون.
إن الملك أو الحاكم الذي يتوق إلى أن يرى دولته قوية ممتدة ومتماسكة اجتماعيا وسياسيا، يجب عليه ألا يخرق القوانين الإلهية والطبيعية والإنسانية، لأن فعل ذلك ظلم وجور مفضي إلى الخراب، وعدم تحقيق العدل، فالقوانين الإلهية والطبيعية والإنسانية يمكن اعتبارها نوع من الوازع أو الروابط الإلزامية التي يهجع إليها الحاكم في حكمه، وبقاء الدولة واستمراريتها في الوجود رهين بالملاءمة بين التشريعات الإلهية والإنسانية دون إحداث مفاضلة بينهما، هذا المبدأ سيتطور لا حقا في القرن 16 م، خاصة مع ماكيافيلي الذي سيفصل بين الأخلاق والسياسة، الكنيسة والدولة. (فالضربة القاضية التي تلقاها خطاب المرايا لم تأته من الخطاب نفسه، إنما من واقع تاريخي أزال عنه الغطاء وفضح محدوديته، وعجزه عن فهم واقع سياسي أخذ يفرض نفسه على الوعي السياسي) ([15]).
التحولات السابقة التي شهدها الغرب – المسيحي جاءت عن طريق إحياء التراث اليوناني، والقوانين الرومانية، وادمجاها في المجال السياسي والقانوني، والتي أفضت إلى نوع من الدنونة ( الإقبال على الدنيا) للحياة الاجتماعية و السياسية، فلم تعد الحياة الدنيا أخروية مطلقا، و أن يعيش الانسان من أجل العالم الآخر، وإنما من أجل الحياة أيضا، أضف إلى ذلك التطور الكنسي المتمثل في مشروع غراسيان، والذي أثر على الفكر والقضايا القانونية حيث أصبحت الكنيسة تؤطر المجتمع، والاهتمام بالجانب المدني، وفي ذلك نوع من العلمنة لبعض جوانب الحياة المدنية، واعتبار الدولة ليست انعكاسا لإرادة الله، وإنما هي شيء طبيعي، على شاكلة حكماء فلاسفة اليونان، خاصة أفلاطون وأرسطو، تلك هي البوادر الأولى في اتجاه تأسيس الدولة الوطنية([16]).
أصبح هناك حديث عن القانون بخلفية عقلية إنسانية، وليس فقط لا هوتية وأخلاقية محضة، وهي التجربة الغربية – المسيحية التي صارت لها القابلية داخليا للتطور العقلي والفكري، بإعطاء الأهمية للقوانين المدنية أيضا، إلى جانب القوانين الكنسية، بهدف تأطير الحياة الاجتماعية، وعلى نحو أفضل، أصبح بالإمكان تقنين ما هو مدني استنادا إلى العقل، وليس على ما هو منصوص عليه دينيا. وعليه، يمكن أن نميز بين مرحلتين أساسيتين: مرحلة أولى طغت عليها الجوانب الدينية والأخلاقية والتي توصف بالكارولنجية، ولحظة ثانية تتسم بنوع من الانفتاح على العقل نتيجة التحولات التاريخية والسياسية والاجتماعية، حيث التحول من القانون الإلهي الخالص إلى القانون الإنساني، ومن مفهوم الرعية إلى مفهوم الشعب، ومن كون الملك ظل الله في أرضه إلى فكرة مهمة الملك والصالح العام، والتي اعتبرت البدايات الأولى لمفهوم التعاقد القانوني، ليس على طريقة فلاسفة الأنوار والعقد الاجتماعي في القرنين، وإنما وفق ما هو متاح ومتعارف عليه في عصر النهضة الأولى حيث لا زال الخلط بين ما هو ديني وعقلي.
البحث في علاقة الملك الوسيطي بالقانون يفضي إلى القول، بأنه لم يكن ملكا أوحاكما مطلقا، وإنما مقيدا، يلتزم بذلك عندما يتم تتويجه كملك وأدائه للقسم، يتعاقد مع الله، وذلك أسمى تعاقد في تلك المرحلة، ومع الكنيسة، ومع الشعب، فالتعاقد الأول تم بموجب تفويض إلهي، والثاني بإضفاء المشروعية الدينية عليه، فهذان النوعان من التعاقد، اتسما بحضور وتوجيه الديني على حساب العقلي، حيث كان الشعب غمرة فارغة ونخب هواء، لكن، أصبحت له مكانة عندما أخذت التشريعات الإنسانية بعين الاعتبار. وبتطور التاريخ البشري، لم تعد الهيمنة للتعاقدان (مع الله والكنيسة)، بينما بقي التعاقد مع البشر فيما بينهم، وتلك هي لحظة فلاسفة العقد الاجتماعي، حيث ظل مفهوم العقد يتطور وفق صيرورة اجتماعية وسياسية، وتبعا لنظريات متعددة، واستجابة لنداء العقل، يقر بهذه الحقيقة التاريخية جاك لوغوف في إطار بحثه عن علاقة الملك بالقانون حيث يقول:” لقد تساءل عدد من المؤرخين لمعرفة ما إذا كان ملكا دستوريا؟ أبدا، لم يكن كذلك، ذلك أننا لا نعرف أي نص يمكن اعتباره دستوريا. وربما، ما يمكن أن يقترب أكثر من هذا المفهوم، وإن كان في الواقع شيئا جديدا، هو العهد الأعظم (la magna carta)، الذي فرضه النبلاء والتراتبية الكنسية على ملك إنجلترا هنري الثالث (1215م). ويبقى هذا النص أحد الأعمدة، التي قادت أوربا نحو أنظمة دستورية. والأصح والأهم هو أن الملك الوسيط كان ملكا تعاقديا، ففي قسم التتويج يلتزم الملك مع الله، ومع الكنيسة، ومع الشعب. اندثر التعاقدان الأولان مع تطور التاريخ، أما التعاقد الثالث، فظل يندرج في سياق مراقبة السلطة من طرف الشعب، أو من طرف أجهزة تمثله” ([17]).
مضمون كلام جاك لوغوف السابق، يوحي وكأن مفهوم العقد لم ينشأ نشأة كاملة في عصر الأنوار، ودون سابق إعلان، وإنما هو صيرورة تاريخية وسيرورة اجتماعية وسياسية، ساهمت في تشكله عوامل متعددة، لكن، كما وضحت ذلك في مكانه، لا يجب أن نحمل مفهوم العقد في عصر النهضة الأولى أكثر مما يستحمل، لأن مضمونه يختلف، فمثلا يصعب إقامة مماثلة بين تحديد جاك لوغوف لمفهوم العقد، وتحديد روسو له، رغم كون ماهية العقد هي الإلزام، فبمجرد إصداره يصبح ملزما، سواء من طرف الملك أو الشعب، كما هو الشأن بالنسبة للقانون الإلهي. ولنا أن نتساءل هنا: هل فعلا أن الملك يلتزم بما هو قانوني أم أنه يخرق العقد لسبب ما؟
استنادا إلى الأستاذ عزالدين العلام، فالباحثة ايزابيل فلاندروا في دراستها، تؤكد عددا من المسائل المهمة، أهمها؛ أن الملك سيد نفسه، وأن خضوعه للقوانين إرادي وليس إلزامي، فالالتزام هنا ليس شرطا تعاقديا، وإنما هو سمة أخلاقية تدخل في باب فضائل الملك الأخلاقية، التي توجهه نحو الصالح العام، ولا تجعله طاغية ([18]).
لقد تأسست نظرية العقد الاجتماعي في سياق تاريخي، وفي ظل تطور مفهوم الدولة في بلاد الغرب، من اليونان إلى عصر النهضة الحديث، مرورا بالعصر الوسيط، الذي كان مناط حديثنا، نظرية تعتبر تتويجا لمسار طويل وصيرورة من التحولات السياسية والاجتماعية، حيث الحديث عن جملة من المبادئ والقواعد الممهدة لنظرية العقد الاجتماعي، كالعدالة والحق الطبيعي والقانون الطبيعي والدولة والسلطة ونظام الحكم الأفضل لتنظيم شؤون البشر. اجتهادات عقلية إنسانية اختلف مضمونها الفكري ومحتواها المعرفي والسياسي، من حقبة زمنية إلى أخرى، نظرا لاختلاف وتعدد وجهات النظر حول كون الانسان، إما مدني بالطبع أو بالوضع، لتنظيم شؤونه يقتضي الأمر وجود قواعد قانونية تخضعهم وتلزمهم، لكي لا يعتدو على بعضهم البعض، فتحقيق السلم والأمان يتطلب الانتقال من وضعية الخضوع للسماء والسلطة الروحية المؤثرة في الزمنية، إلى وضعية الارتباط بالتعاقد، تلك كانت حالة عصور النهضة الأولى، والانتقال من الحالة الطبيعية إلى حالة المجتمع. مع فلاسفة العقد الاجتماعي (هوبز، لوك، روسو) الذين يتبنون نظرية، أن الناس كانوا يعيشون في حالة الطبيعة الأولي، وبموجب تعاقدات انتقلوا إلى حالة ووضعية مدنية جديدة، رغم اختلاف الفلاسفة في توصيفها وتحديد خصائصها وطبيعة التعاقدات المبرمة الموصلة إليها.
الهوامش:
[1]– غاستون باشلار، تكون الفكر العلمي، ترجمة خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1981، ص، 14.
[2]– عزالدين العلام، النصيحة السياسية، دراسة مقارنة بين أداب الملوك الاسلامية ومرايا الأمراء المسيحية، الناشر: مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى، 2017، ص، 159.
[3] – إدريس العلوي العبدلاوي، المدخل لدراسة القانون، الجزء الأول، نظرية القانون، مطبعة فضالات المحمدية، الطبعة الثانية 1975، ص، 151.
[4] – عزالدين العلام، النصيحة السياسية، ص، 162.
كثيرة هي الأدبيات الأوروبية التي تعتبر القرن 13م، هو عصر بداية النضج، حيث الاهتمام بالمؤسسات والأفكار والقانون والهياكل الاجتماعية، والانفتاح على الدراسات الفكرية والعقلية. يمكن الرجوع إلى أبحاث جاك لوغوف. https://www.lhistoire.fr/classique/%C2%AB-les-intellectuels-au-moyen-age%C2%A0%C2%BB-de-jacques-le-goff
[5] – إدريس العلوي العبدلاوي، المدخل لدراسة القانون، ص، 153.
[6] – عزالدين العلام، النصيحة السياسية، ص، 162.
[7] – عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، دار الفكر، (دون تاريخ)، صفحة، 350.
[8] – الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، دار الكتب العلمية، 1978، ص، 43.
[9]– جون توشار، تاريخ الأفكار السياسية، المجلد الثاني (من عصر النهضة إلى عصر الأنوار)، ترجمة ناجي الدراوشة، (دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، الطبعة الأولى 2010، ص، 351.
[10] – عزالدين العلام، النصيحة السياسية، ص، 165.
[11] – المصدر نفسه، ص، 171.
[12] – المصدر نفسه، ص، 172.
[13]– المصدر نفسه، ص، 172.
[14]– المصدر نفسه، ص، 173.
[15]– نبيل فازيو، التراث والاستبداد، مراجعة نقدية لكتاب” النصيحة السياسية، لعزالدين العلام”، ورقة قدمت بمناسبة قراءة علمية في كتاب النصيحة السياسية، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، وذلك يوم الجمعة 8 نيسان، 2017، في مقر المؤسسة، الرباط، المغرب. ص، 14- 15.
https://mominoun.com/pdf1/2018-03/nassihaa.pdf
[16]– عزالدين العلام، النصيحة السياسية، ص، 174.
[17]– المصدر نفسه، ص، 173.
[18]– المصدر نفسه، ص، 174.