قد لا يتفق القارئ أو الباحث مع محمد عابد الجابري، فماركسيته كانت محل نقد من قبل ماركسيين أمثال هشام غصيب وعبد السلام الموذن، ماديته انتقِدت من قبل مثاليين كمحمد عمارة وطه عبد الرحمان، طريقته في الكتابة انتقدت من قبل عبد الله العروي (خواطر الصباح)، قوله باستقالة العقل العربي من خارجه انتقِد من قبل جورج طرابيشي، الخ؛ كل هذا لا يعفي من إنصاف الرجل والتأكيد على أهمية أعماله، وهو ما يمكن إجماله في الآتي:
– بذَل الجابري مجهودا كبيرا في تحديد عدد من المفاهيم، من قبيل: الديمقراطية، حقوق الإنسان، العلمانية، الاستعمار، العقل، العولمة، الخ.
– بذَل مجهودا مهما، في “نقد العقل العربي”، لنمتلك التراث بدل أن يمتلكنا، ليصبح جزءا من وعينا السديد بدل أن نخضعه لمساحات في تفكيرنا غير واعية.
– أرجع الاعتبار لأسباب النزول في تفسير القرآن، وهي خطوة وإن اعتبرها البعض قولا بتاريخانية القرآن، إلا أنها مهمة في تعزيز فهم المسلمين للقرآن بأدوات عصرهم، ولا ضير في ذلك. فلولا حاجة قديمة لما كان علم “أسباب النزول”، فبأي حق نحجر على حاجات معاصرة تحت قناع “الدفاع عن الدين”؟!
– بحفره في ذاكرته الحزبية، النضالية والصحفية، أرخ الجابري لفترة مهمة من تاريخ المغرب، طيلة 50 سنة من استقلاله. وكان تأريخه للمرحلة خاصا، حاول من خلاله التأريخ للحدثين الديمقراطي والوطني من زاوية حزبية، كما ساهم في حفظ حيز كبير من الذاكرة الاتحادية، ببيانات ومقالات ولقاءات داخلية وكواليس سياسية ونقابية.
– كان من أهم المغاربة المعاصرين الذين اجتهدوا في إبراز العلاقة بين العلم والفلسفة، على النقيض من العلموية ذات البعد الصارم واللاإنساني، ومن خلال كشف فلسفة هذه العلموية الصارمة نفسها.
– كان الجابري من أبرز الذين اهتموا بمشكلة التعليم، بل خصص لها كتابات مستقلة (ثلاثة كتب)، ناقش فيها مشاكل التعليم بالمغرب، من النواحي الاجتماعية والفلسفية والهوياتية وغيرها. ولا يستغني باحث في قضايا التعليم بالمغرب عن هذه الكتب، لتفردها بوضع التعليم في سياقيه السياسي والاجتماعي.
– كانت عينه على توحيد الجهود وتقارب وجهات النظر، وأن يُقرَأ من قبل اليسار واليمين ليس قدحا في حقه، بل من حرصه على صهر المجتمع في كتلة واحدة، أسماها “الكتلة التاريخية”، نقلا عن غرامشي وفي سياق غير سياقه.
– ساهم في ربط العلاقات الثقافية بين مشرق الوطن العربي ومغربه، ولا أدل على ذلك من نشر كتبه في دور نشر ذات وعي قومي، حوار المشرق والمغرب مع حسن حنفي، المساهمة في إنتاج القابلية للتحديث في العقل الخليجي، الخ.
– أهم ما يميز الجابري أنه كان مثقفا ملتزما بقضية، ما أحوجنا إليه في زمن الفوضى وإخضاع المعايير للرغبات والمنافع المحدودة بحدود أفق أصحابها. كان مثقفا في “النهار”، ما أحوجنا إليه حيث أصبحث الثقافة تمارَس ب”ليل”.
إلخ.
كل زاوية من هذه الزوايا بحر، داخلُها في حاجة إلى عدة منهجية ومعرفية، ليحسن القراءة قبل النقد، ولا ضير إذا كان النقد على هدى وعلى غير عجل.