- الخلفية الثقافية لمفهوم “صدام الحضارات”.
يقوم مفهوم صدام الحضارات على افتراض ينطلق من كون الصراع بين القوى في هذا العالم لن يكون على أسس اقتصادية أو سياسية، إنما سترتكز فلسفة الصراع على المكون الثقافي الذي سُيهيج الوحدات القومية للظهور كبنيات ثقافية متناقضة ومتنافرة، فالدول صاحبة الحضارات المتنوعة ستكون محل صراع على مستوى السياسة الدولية، وستنهض الفوارق الناشئة بينها لتكون حدودا للتنافس الشرس أو القتال العدواني في المستقبل.
وصراع الثقافات سيشكل خاتمة التطور في مسلسل الصراع بين الأمم والدول، فطبيعة النظام الدولي المعاصر تنحو أكثر إلى قاعدة الثقافة كقوة للزحف والغلبة، بعد أن كانت تشن الحروب على الثروة والجغرافيا.
لقد كان العالم إلى حين قريب محسوما في إطار ثنائية قطبية بين الشيوعية والرأسمالية، وقبل ذلك كان الصراع بين قوى التحالف ضد النازية، وهذه الاحتكاكات أنتجت حربين عالميتين طاحنتين، ثم جاءت حرب باردة بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي، لكن بعد تحول مسار العالم نحو الأحادية القطبية تولد صراع جديد ومن نوع آخر من تحت الرماد، إنه الصدام بين الحضارات والصراع على القيم.
إذ ستتزايد أهمية الهوية الحضارية للدول في المستقبل، وسيكون مصير العالم مشكلا عبر تفاعلات بين مختلف الحضارات التي يتشكل منها العالم الحالي، مما سيجعل من الهوة بين الهويات فاصلا في ترسيم خريطة العالم الجديد، بين ثمان حضارات ذات تاريخ ولغة ودين متعدد، يفضي إلى تعدد في التصورات والمبادئ والخيارات الكبرى.
وتمس هذه التباينات جوهر الوجود في علائق الإنسان بالإله والكون والطبيعة، ثم تتفرع لتشمل أنماط العيش داخل الأسرة والمدرسة والشارع والعمل والسلطة والتفكير…
وهذه التباينات لها إرث تاريخي طويل، وهي ستعيش زمنا آخر ولن تختفي عاجلا، فهي في طبيعتها أصولية وجذرية تفصح عن مقومات الهوية التاريخية التي تبقى مركوزة في الأذهان والممارسات، وليست من طبيعة الخلافات السياسية والأيديولوجية التي تنشأ عن المصالح الآنية بين الأنظمة.
وإذا كانت فلسفة الصراع لا تشترط وقوع حروب مادية بين الحضارات المختلفة، فإن أفتك هذه الحروب وأطولها وقعت بسبب الهوية والثقافة، وما أن يرد مصطلح من قبيل “الحروب الصليبية” حتى يستدمج عنصر الحضارة بواقعة القتال الفعلي، مرسخا فكرة “الهويات القاتلة” كمفهوم متطور عن مبدأ الصراع وكعنوان يشخص “اختلال العالم”.
هذه هي الخلاصات التركيبية للخلفية الثقافية لمفهوم “صدام الحضارات”، الذي ظهر أول مرة في أعمال المستشرق برنارد لويس، ثم تلقفه المنظر الأمريكي صامويل هنتغتون، وبلوره كأيديولوجية سياسية وثقافية وعسكرية للسياسة الخارجية الغربية والأمريكية بالخصوص، وقد تعزز حضور هذا المفهوم أكثر بعد تفجيرات 11 شتنبر 2001 بواشنطن، ومع تداعيات الحرب الأمريكية على العراق وأفغانستان، ودخل قاموس السياسة الأمريكية من خلال ورود عبارة الحرب الصليبية في إحدى خطابات الرئيس الأسبق الأمريكي جورج بوش الابن، وعززه بمقولة أخرى حاسمة مفادها: “من معنا ومن ضدنا”.
وعلى الصعيد الإسلامي مشى المقتول أسامة بن لادن في نفس المسار، لما قسم العالم إلى فسطاطين أخذا بميراث تقسيم المعمورة، الذي نزله على مقتضيات العصر فميز عالم الإسلام عن عالم الكفر، وهكذا أعطت هاتين الأطروحتين بالملموس المثال الحي عن صدق نبوءة صدام الحضارات.
لكن السؤال ملح عن حتمية هذا الصدام بين الثقافات كمكونات حضارية، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون صراعا عرضيا بين قوى معينة لها نزوعات عنفية وطموحات سياسية، ولا ترقى إلى انتسابها إلى المكونات العقدية والجغرافية التي تنتمي إليها؟
- نظرية الصدام، نقدُها ونُقادها.
فهناك من يشكك في هذه النظرية ويعتبرها مقولة تحت الطلب، يراد بها تحقيق جملة من المصالح الاقتصادية والسياسية، تنتفع منها لوبيات السلاح والثروات الحيوية، عبر إحداث ثقوب استراتيجية في منافذ هذه الثروة، وإبعادها عن أيدي الماسكين عليها والمحيطين بها، قصد استدامة تحصيلها وتطوير إنتاجها.
وضمن مناهضي هذه الأطروحة مثقفون أمريكيون وأوروبيون عارضوا خلفياتها كما نتائجها، أمثال نعوم تشومسكي وتزفيتان تودوروف، كما فندها مفكرون عرب أبرزهم إدوارد سعيد.
ثم إن الدراسات الاستشراقية التي مهدت القول بالصدام لم تعد متماسكة أمام تطور الألسنيات والتأويليات والابستمولوجيات، التي فتحت العلم على زوايا جديدة في النظر، مما أبطل الصورة النمطية للغرب عن الشرق، وأعطى للبحث العلمي نفسا جديدا بموضوعية أكثر.
مما يدعو إلى الحذر من هكذا مفاهيم، بل يجب وضعها على مشرحة النقد، وعدم التعميم في إصدار المواقف على الآخرين تحت وقع العجلة والانتقام، والتمييز بين الخوف والتخوف، ومحاولة الانفكاك من قبضة المركزية الغربية التي تصنف المخالفين في خانة البرابرة، وفوق ذلك يتعين إجراء نقد ذاتي بالنسبة للعرب والمسلمين بخصوص كيفية التعامل مع التراث، وإعادة النظر في التصورات التي يحملها بعض الاتجاهات بشأن غير المسلم.
لأن مفهوم صدام الحضارات ليس إلا منحوتة من صنع مشترك بين غلاة الشرق وغلاة الغرب، وإلا فالحوار هو الذي يساعد الناس على تحقيق مصالحهم وتيسير التواصل مع غيرهم، ولعل التاريخ لا ينسى أنه لما كان التعايش والتواصل بين مختلف الثقافات انتعشت الترجمة ووصلت علوم الغرب إلى الشرق، ثم هاجرت أفكار الشرق من جديد إلى الغرب، فتطورت الحضارة وتلاقحت المعارف، مما أثمر تقدما في الحقوق وأنماط العيش.
ويستقي مفهوم صدام الحضارات خطورته من كونه صار عقيدة جديدة لبعض القوى واللوبيات في العالم، ترمي من خلاله إلى الوصول إلى جملة أهداف استراتيجية وتأمين استدامتها بعيدا عن الاستهداف الخارجي أو المعاكسة الداخلية وجعلها موضوع تفاوض أو ورقة ضغط على جهات ما لجعلها ترضخ لإملاءات معينة.
إذن فليست الخطورة في وجود الصدام نفسه، فهو من باب تحصيل الحاصل كما يقول المناطقة، إذ لا تخطئ العين مواقعه في أرجاء العالم، وهو أصلا موجود منذ قدم الإنسان وهو يقاتل من أجل العقيدة والقبيلة والغنيمة.
لكن هذا الصراع ليس أصلا في التجربة الإنسانية التي ناضلت من أجل العيش المشترك وتذليل صعاب الحياة، فالصراع ليس جوهر الحضارة، بل هو من أعراضها التي تظهر كلما حدث خلل في تركيبة الحياة وطرأت علة في مقتضياتها.
وبمعنى آخر فكلما تعطل الحوار في تجارب الأمم، كلما سارع الصراع إلى التلبس بتلابيبها والإمساك بعِصَمها، فطبيعة العمران تؤذن بذلك وتحمل على القول بالحالة الجدلية بين الحوار والصراع وجودا وعدما.
يبقى إذن التأكيد على ما وراء القول بهذا الصراع والمقاصد الثاوية في بنية هذا الخطاب، الذي يشهد نموا في الأوساط المنغلقة في المجالين العربي والغربي معا، وهو الأمر الذي ارتقى إلى مستوى التنظير للخوف والتأسيس لثقافة التوجس والرهاب، كمفاهيم وضمائم تعزز أدلوجة صراع الحضارات، من منطلق التأسيس لواقع جديد تحت الطلب، وليس الغرض مطابقة الواقع الحالي ورفع الحجاب عن وجهه.
فالخوف ملازم للشعور في عادة الناس، لكنه يتحول إلى حالة مرضية إذا زاد على حده، فلَما ينتقل الخوف إلى تخوف مطبق يعدو اختلالا في الصورة المتوازنة للإحساس، وينقلب إلى اضطراب في الشخصية التي أدركتها هذه العلة المزمنة.
فالخوف إذن حالة طبيعية لأنها نوع من الكبح المنطقي للسلوك المتهور، ويقظة تمنع من السقوط في مخالب الخطأ، وإذا خرج الخوف عن التعقل والانضباط صار معرقلا لا معقلا للحركة والنشاط.
فمن طبيعة الشخصية المتخوفة أن تكون انطوائية وسلبية في التعامل مع الفضاء الخارجي ومع الآخرين، وتنغلق في حوار “مونولوكي” داخلي وتسجن في قفص ذاتي تمارس داخله الموت البطيء وتعتكف منعزلة عن الخارج.
ومع ذلك فإن نظرية صدام الحضارات التي تزعمها هنتغتون ما هي إلا تطوير لفكرة نهاية التاريخ التي نادى بها فرانسيس فوكوياما، التي اختفت تقريبا من ساحة التداول لما نسختها الأولى وسرقت منها بريقها، لأسباب مجهولة لحد الآن قد ترجع إلى قيمة الكاتب أو إلى متانة الفكرة بالنسبة إليهم جميعا (المفكرَين والمشروعَين).
ويرجح الجابري سبب غلبة دام الحضارات على ناهية التاريخ بعامل الزمن(1)، إذ لما انخرطت الأولى في شؤون المستقبل الذي يبعث على الريبة والخوف، اقتصرت الثانية على الماضي وشجونه، مما يعطي للأولى جدارة الاستحقاق والدرس والشهرة.
ولهذا تلهفت إلى نظرية هنتغتون سوق ما يسمى بالدراسات الاستراتيجية، وعملت على نشرها على أوسع نطاق، بعد أن تحولت الفكرة من مجرد مقالة منشورة في إحدى المجلات سنة 1993 إلى نظرية مبثوثة ضمن كتاب خاص بنفس العنوان.
بعض الكتاب سخر أصلا من هذه النظرية التي لاقت إقبالا منقطع النظير، وسط إهمال مواضيع أخرى أهم وأجدر أن تناقش ويولى لها الاهتمام، فهي من الناحية العلمية “مجرد وهم، فكرة غير معقولة، إذ يجب أن تكون الحضارات عبارة عن صحون، أو سيارات أو ما أشبه هذا وذاك، حتى يمكن تصورها تتصادم، ولكن هذه الفكرة من ناحية الاستراتيجية السياسية والعسكرية والثقافية تنطوي فعلا على قضية”(2).
وفق ذلك فهي ذات نفس تبشيري خفي مأخوذة عن فكرة نهاية التاريخ، التي سلط عليها الضوء فوكوياما ناقلا إياها عن هيجل، وهي في الحقيقة ترجمة فلسفية لفكرة خاتمية الدين المسيحي”(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إحالات:
- قارن ب: محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر: مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، ط1/1997، ص 83-84.
- محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر: ص 86.
- قارن ب: طه عبد الرحمان، بؤس الدهرانية النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين: الشبكة العربية للأبحاث والنشر بيروت، ط1/2014، ص 168.