من المسلمات العلمية الأساس التي تنهض عليها سوسيولوجيا الصحة والمرض وتستمد منها مشروعيتا الابستيمولوجية، هي أن الصحة لم تعد مجرد ظاهرة بيو-طبية صرفة، بل غدت ظاهرة سوسيوثقافية مركبة. كما لم تعد مجرد حالة جسدية وشأن ذاتي للفرد ورأسمال شخصي يخصه لوحده، بل أضحت حالة مجتمعية، وشأن جماعي للأسرة والدولة، ورأسمال عمومي، وثروة وطنية ودولية معولمة. وقد تعزز هذا الانتقال بالصحة من مستواها الفردي المعزول إلى مستواها الجماعي المتشابك مع ميلاد الدولة الحديثة، وتقوى أكثر مع النيوليبرالية الجديدة المعولمة التي سخرت الأجساد والأرواح لزيادة الإنتاج وتعظيم الثروة.
شهدت الصحة العمومية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، تحولا إبيديميولوجيا كبيرا على مستوى المشهد الوبائي وكثلة الأمراض؛ بحيث إن الأمراض الوبائية التي كانت تزهق الأرواح وتهدد الصحة العمومية بأسرها في العصور القديمة، كالطاعون والسل والكوليرا والملاريا…إلخ تراجعت وقضي على الكثير منها في الكثير من البلدان. لكن ما يطبع المشهد الوبائي الراهن هو الانتشار الواسع لأنواع جديدة من الأمراض المزمنة والمعدية كالسيدا والالتهاب الكبدي الفيروسي، وغير المعدية كالسرطان، وأمراض القلب، والسكري، واضطرابات الدورة الدموية وأمراض الشيخوخة…إلخ. كما أن نمط العيش وأسلوب الحياة المعتمد من قبل الأفراد، قد تعرض إلى جملة من التغيرات التي نجم عنها تغير في كثلة الأمراض ومصدريتها، لم تعد هذه المصدرية مرتبطة بالأسباب الداخلية والوراثية للمرض، بل أصبحت مرتبطة أكثر بأسباب سلوكية وعوامل خارجية اجتماعية وثقافية واقتصادية وبيئية وسياسية.
يمكن التأكيد على أن الصحة العمومية، باعتبارها مجموع الجهود السياسية والاجتماعية المنظمة التي يبذلها المجتمع لتحسين شروط الصحة وحمايتها أو استعادتها، لم تعد ترتكز على البحث الإكلينيكي في الأمراض والأوبئة، بل أصبحت مطالبة بالانفتاح أكثر على أبحاث الوقاية والتشخيص المبكر، وعلى تمكين الأفراد على المستوى الجماعي من أجل إدماجهم في سيرورة حفظ صحتهم، وبالتالي حفظ صحة المجتمع برمته خصوصا لما يتعلق الأمر بمفهوم الوقاية الجماعية التي تقتضيها الجوائح الوبائية. غير أن هذا التغير الذي طرأ على منهجية البحث في مفهومي الصحة والمرض ظل لزمن طويل حبيس الرؤية الإيبديميولوجية للمرض الذي ترده إلى عوامل الخطر المنتجة له، بينما عامل الخطر بحد ذاته هو بناء اجتماعي وسيرورة محكومة بشبكة المعاني والمحددات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والنفسية المرتبطة بذاتية المريض من جهة وبمحيطه الاجتماعي من جهة أخرى، كما تبين ذلك مقاربة العلوم الاجتماعية لظاهرتي المرض والصحة.
هذا ما يمكن أن نلمسه من خلال التمثلات الاجتماعية لفيروس كورونا الذي ولّد منذ ظهوره العديد من التمثلات والمواقف على مستوى الخطابات والممارسات في صفوف المغاربة؛
إذ بينت سيرورة التفاعل الاجتماعي بشبكات التواصل الافتراضي أنه في مقابل الإدراك العالم لهذا الفيروس المستند إلى رؤية ابيديميولوجية مطبوعة بالحياد والاجتهاد، برز إدراك عامي للداء، يمكن التمييز فيه بين شكلين: يتمثل الشكل الأول في التمثل الاجتماعي الموسوم بالرؤية الجبرية أو القدرية التي تؤمن بأنه لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وبأن المؤمن مصاب، وبأن الوباء بلاء وهلم جر من التمثلات التي تتموقع ذهنيا في المرحلة اللاهوتية، التي كانت تفسر فيها جميع الأحداث بردها إلى قوى ما فوق طبيعية خارقة، متعالية عن العالم وغربية عن منطق العلم. وتبعا لهذا الشكل من الإدراك، يصبح الحديث عن الوقاية الجماعية فاقدا لقيمته طالما أن “المؤمن مصاب”، وأن “المرض ابتلاء”، و”الحاضي الله” و”الآجال بيد الله” و”ولي بغاها الله مرحبا بها معند العبد ما يدير ” وقضاء الله لا يرد…إلخ. مما يعسر من تفعيل سياسية الحجر الصحي بشكل فعال وجماعي تجاه جائحة كورونا ويعصف بجهود الوقاية ويهدد الصحة العامة في الصميم.
ولعل هذا ما يفسر خروج فئة من المغاربة مؤخرا ليلا يتضرعون إلى الله بالدعاء من أجل أن يرفع عنهم الوباء والبلاء. وهذا ليس بممارسة جديدة، بل هي قديمة في المجتمع المغربي كما هو مبين في أدبيات الكرنتينا التي تحوي العديد من النصوص الشاهدة على أن المغاربة كانوا -ولا زال عدد كبير منهم-ينظرون إلى الأوبئة باعتبارها عقابا إلهيا للكفار ورحمة وشهادة للمؤمنين الأتقياء، وقد واجهوها بقراءة اللطيف وبالأدعية والإكثار من الصلاة والرقية والحجابات…إلخ. ومن التفسيرات الدالة على ذلك، ما ذهبت إليه بعض جماعات الإسلام السياسي في المغرب التي فسرت هذا الداء بأنه جند من جنود الله.
أما الشكل الثاني من هذا الإدراك-الذي يسود عند عامة القوم وخاصتهم-ينظر إلى هذا الوباء على أنه “مؤامرة ماسونية” حبكها الغير “الكافر” و”الحاقد” المتربص بلإسلام والمسلمين. كما يفسر من قبل البعض على أنه من إخراج وصناعة رجال الأعمال الأمريكيين الذين أصبحت مصالحهم الاقتصادية مهددة أكثر بسبب صعود الاقتصاد الصيني وهيمنته على الاقتصاد العالمي، وبالتالي فالغرض من هذا الوباء هو إعادة ترتيب التوازنات الاقتصادية الدولية. بالإضافة إلى ذلك توجد العديد من التأويلات الأخرى المشابهة التي تندرج كلها في خانة ما يسمى بنظرية “المؤامرة”.
إن سيادة مثل هكذا التمثلات الاجتماعية والدينية والسياسية يجعل من الحاجة إلى منظور جديد للرعاية الصحية، ضرورة لا مناص منها في المجتمع المغربي لضمان الأمن الصحي. ولن يتأتى ذلك دون إيلاء الحق في الحياة وفي الصحة المكانة التي تليق بهما بين باقي الحقوق. فقبل التركيز على العلاج والاهتمام بالمرض ينبغي الاهتمام بالصحة والوقاية، وقبل الاهتمام بالمستشفى الجامعي والجهوي والإقليمي، ينبغي الاهتمام بالمجتمع المحلي وبالمركز الصحي الأولي، وقبل التدخل يجب الاهتمام بالمراقبة والتتبع، وقبل العلاج والاهتمام بالأمراض الحادة وجب الاهتمام بالأمراض المزمنة التي يواجه بسببها المرضى صعوبات كبيرة في تدبيرها والتعايش معها، كما يجب الاهتمام بالمريض كشخص له كرامة أكثر من الاهتمام بالمرض في ذاته، والاهتمام بالمقاربة الوقائية أكثر من المقاربة العلاجية التدخلية، لأن إشكالية الوقاية، في جوهرها، هي إشكالية سلوكية ومعرفية، إنها مسألة معارف وتمثلات وخبرات وتجارب وممارسات. ولفهم منطق السلوك الفردي والجنسي والغذائي والمهني والاجتماعي والعلاجي…إلخ، لابد من العودة إلى العلوم الاجتماعية التي شيدت نماذج نظرية ومنهجية عديدة، تسمح بتفكيك الميكانيزمات الخفية المتحكمة في سلوكات الأفراد وتمثلاتهم ومواقفهم بخصوص الوقاية والصحة ومصدرية المرض وطرق العلاج والعلاقة مع المرض والطبيب والمؤسسة الاستشفائية. ولن يتأتى ذلك -في نظرنا-دون العودة إلى براديغم التمثلات الاجتماعية للجسد والصحة والمرض.
من المعلوم أن صحة الفرد هي سيرورة دينامية تتأرجح بشكل دائم بين حالة السواء النسبي والاعتلال النسبي أيضا، وتتحدد هاته السيرورة بتداخل مجموعة من المحددات الذاتية المرتبطة بشعور الفرد وإدراكه وتقييمه لحالته الصحية، مع أخرى موضوعية ترتبط بالعوامل البيولوجية والبيئية والاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية المحيطة. فإذا كانت الصحة كما عرفتها منظمة الصحة العالمية هي حالة اكتمال السلامة بدنيا وعقليا واجتماعيا لا مجرد انعدام المرض أو العجز، وإذا كانت أيضا، حقا أساسيا من حقوق الإنسان، وإذا كان بلوغ أرقى مستوى صحي، يعد من الأهداف الاجتماعية والتحديات الراهنة للصحة العمومية على الصعيد العالمي، فإن بلوغ ذلك، لا يمكنه أن يتأتى دون الوعي بشمولية الظاهرة الصحية وتعقديها. وعليه، فالنهوض بصحة الأفراد ومواجهة التحديات التي باتت تطرحها الصحة العمومية على المجتمعات المعاصرة، يقتضي مقاربة شمولية تستند على جميع الجوانب المرتبطة بالصحة وعلى مبدأ العدالة الاجتماعية والاقتصادية ومبادئ حقوق الإنسان. فبدون اجتثاث الفقر والهشاشة والعنف والحروب واللامساواة والتمييز والوصم بوصفها أسبابا جذرية لاعتلال الصحة وارتفاع نسب الوفيات في صفوف الفئات الهشة، لا يمكن تحقيق إنصاف صحي يضمن حقوق جميع الفئات بشكل متكافئ ويصون حقها في الحياة والكرامة والرعاية، كما عبر عن ذلك إعلان ألما آتا للرعاية الأولية سنة 1978، وإعلان “حركة صحة الشعوب” في البنغلاديش سنة 2000، وإعلان مومباي في الهند سنة 2004، وإعلان الشعوب حول فيروس فقدان المناعة المكتسب والسيدا في بانكوك سنة 2004.
ويعد نموذج مسببات الصحة « Salutogène »، لعالم الاجتماع الأمريكي أرون أنتونوفسكي Aron Antonovsky، مثالا يعلمنا بأن الاعتراف هو المصدر الأساسي للصحة. فعوض الاهتمام بالمرض وعلاجه والوقاية منه، يركز هذا النموذج النظري على الاهتمام بالصحة، بصرف النظر عن الوضعية الصحية للشخص (الصحة الجيدة – الصحة السيئة). ويفتح هذا التوجه الطريق نحو بناء فهم موسع للرفاهية، مبتعدا بذلك عن النماذج الكلاسيكية المُهتمة بالبحث في مصدرية المرض “L’étiologie ” أو الخطر.
لهذا، فلاعتراف بالحق في الصحة للفئات المتضررة من اللاعدالة الاجتماعية والصحية، يساعد على تجويد نمط العيش، ويعزز الثقافة الوقائية بالمجتمع، ويرسخ مبدأ الاهتمام الذاتي للأفراد بتحسين شروط صحتهم، وذلك عبر تعزيز استقلاليتهم عن المنظومة الصحية وعن التبعية للطبيب والمؤسسات الصحية، كما يساهم في معالجة قضايا الصحة معالجة شمولية، تبدأ بمعالجة إشكالية اللامساواة الاجتماعية والمجالية والاقتصادية.