عند عبد الوهاب المسيري “نموذج تفسيري” خاص، بغض النظر عن صحته من عدمها، وبعض النظر عن مدى “تجريده للواقع الموضوعي في حركته الملموسة”. إنه طرح جديد في منظومة الفكر الإسلامي، وإن استمدّ تركيبه من مراجع غربية يصرّح بها المسيري ولا يخفيها. تقل هوامش المسيري، غير أن مراجعه مدرجة بشكل أو بآخر في متن نصه.
ربما سبقه مفكرون غربيون، ماركسيون مجددون، إلى بعض الأفكار، كأدورنو وهوركهايمر وفروم ولوكاتش وألتوسير وغرامشي وهبرماس وماركيوز وغارودي وغيرهم. ربما استلهم “صرخته” من صرخات فلاسفة غربيين كمارتن هايدغر، أو قساوسة وباحثين في المسيحية فكروا في المسألة الدينية على ضوء مستجدات العصر. ربما يكون كل هذا صحيحا، إلا أن تركيبه في متن المسيري يمنحه جِدة غير مسبوقة في الوطن العربي. لقد بذل المسيري مجهودا كبيرا لتعريف القارئ العربي بالمدرسة النقدية الألمانية (فرانكفورت خاصة)، بل لتبيئتها عربيا وإسلاميا. وهذا في نظرنا من التجديد الإيديولوجي والفلسفي، المعرفي بالمعنى العام للمعرفة (أعمّ من العلم).
عموما، اهتم المسيري في عمله النظري بموضوعين كبيرين:
-نقد العلمانية:
وفي هذا لم يكن المسيري حداثيا في نقد ما بعد الحداثة، وإنما حاول نقد الحداثة وما بعد الحداثة ب”مرجعية نهائية متجاوِزة”. لم ينحُ منحى التمييز بين مرحلتي الحداثة وما بعد الحداثة كما فعل كثيرون في الوطن العربي، بل بحث عن جذور الثانية في الأولى، وخلص إلى أن مرجعيتهما واحدة هي “المرجعية الكامنة” (عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان). هذه المرجعية ذاتها هي ما أفرز “العلمانية الشاملة” بخصائصها: التشيؤ، التسلع، التوثن، الحوسلة، العقل الأداتي، التعاقد، نهاية التاريخ، الخ (عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، الجزء الأول)؛ كما أفرزت “التمركز حول الأنثى” بما هي تجلّ صريح من تجليات التمركز حول “الكامن”، حول “ذات المرأة الكامنة” بفصلها عن مجتمعها، عن الزوجية والأسرة وغيرها من المفاهيم التي لا اعتبار لها في “الحلولية الكمونية” (عبد الوهاب المسيري، قضية المرأة والتمركز حول الأنثى).
-تفكيك الصهيونية:
في نموذج المسيري، الصهيونية منتوج مادي غربي، هي “لحظة علمانية نماذيجية شاملة” (الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان)، لحظة بروز “الإنسان المادي/ الطبيعي”، كما ظهر في النازية والفاشية. فالنازية والصهيونية عند المسيري إفراز حداثي، بينهما عدد من القواسم المشتركة، لعل أبرزها “النقاء العرقي” بما يعنيه من “تمركز حول العرق”، وهذا نوع آخر من التمركز حول “الكامن” (عبد الوهاب المسيري، الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ). لم تتشكل “اللحظة الصهيونية” في فراغ، بل في شرط تاريخي أنتجها على مراحل. لكشف هذا الشرط بذل المسيري مجهودا كبيرا في رصد واقع الجماعات الوظيفية اليهودية في أوروبا زمن الإقطاع، ثم زمن الرأسمالية فيما بعد. وقد كان صريحا وواضحا في إخضاع هذه الجماعات لنموذجه التفسيري، باعتبار قابليتها للوظيفة امتدادا “للمرجعية النهائية الكامنة”، كما هي وظيفية الكيان الصهيوني أيضا (عبد الوهاب المسيري، الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذج تفسيري جديد). عاصر المسيري هذا الكيان ورصد واقعه وتحولاته، تابع صحفه وجرائده ومؤلفات مثقفيه، فأهله هذا العمل لاستشراف مستقبله، فضلا عن تفكيك عقله وبناه الاجتماعية والسياسية والثقافية. ونتيجة لهذا العمل الدؤوب والمستمر، خلص المسيري إلى أن الكيان يسير نحو زواله، بسبب تناقضاته الداخلية والتهديدات الخارجية المحيطة به (عبد الوهاب المسيري، انهيار إسرائيل من الداخل).
السؤال المطروح على المسيري، في هذين الموضوعين، ليس متعلقا بمدى تجديده وسبقه فيهما. فتركيبه جديد ومتفرد وإن كانت أصوله المرجعية متعددة. السؤال مطروح على المسيري في عمق منهجه المفاهيمي، على أي أساس يُعرّف؟ على أي أساس ينتج هذا المفهوم أو ذاك؟ كيف يضع هيجل وماركس وفرويد ونيتشه وداروين في خانة واحدة؟! كيف يرى الحداثة وما بعد الحداثة فلسفة واحدة؟! هل “المرجعية المتجاوزة” تقتضي “التحيز” ضد ملموسية الواقع المادي؟! هل إخضاع واقع مادي متغير لنموذج تفسيري عملية سديدة معرفيا؟!
هذا مقال للتنبيه، لتصحيح العلاقة بفكر عبد الوهاب المسيري؛ وليس للإجابة على هذه الأسئلة، التي خصصنا لها محاولات أخرى، والتي نرجو أن نجيب عنها بشكل مستقل مستقبلا. وما نريده هنا هو إرجاع الاعتبار لمجهود المسيري وأهميته في مواجهة تعفّن النظام الاجتماعي الرأسمالي. قد لا يصيب المسيري التفسير، لأسباب مركبة في حياة المسيري؛ إلا أنه يحسن التنبيه إلى “السيولة الكاسحة” التي أفرزتها الرأسمالية في هذه المرحلة من تاريخها. الصهيونية نتاج تعفن وتقهقر نفس النظام، يدعم المسيري المناعة ضدها وإن لم يضعها وضعا سليما في الشرط الاجتماعي لنشأتها وتطورها!