تمثل العلوم الاجتماعية اليوم إحدى أبرز الواجهات التي يعاد من خلالها إنتاج الهيمنة الثقافية داخل الجامعة المغربية، وذلك عبر ما يبدو للوهلة الأولى خطابا أكاديميا محايدا، بينما يستبطن في عمقه تصورات ومفاهيم تنتمي إلى نسق غربي متمركز، نشأ تاريخيا في سياقات استعمارية، وتحول إلى نموذج معرفي مهيمن يُقدّم بوصفه “حقيقة كونية” لا تقبل النقاش.
تتبنى المناهج الجامعية –من حيث المحتوى والبنية المفاهيمية– مسلمات التاريخانية والتراكم المعرفي الخطي، وتدرس مفاهيم مثل “العقلانية” و”التقدم” و”التحرر” بمعزل عن أصولها الفكرية وسياقاتها السياسية، فتفرغ من دلالاتها المعيارية وتعاد توظيفها لتكريس موقع التفوق الغربي.
وعندما يستحضر “النقد” في المقررات، فإنه يظل حبيس أدوات الغرب ومفاهيمه ونسقه الإبستيمولوجي، فيستعيد شرط الهيمنة ذاتها بآليات مكرسة من الداخل، مما يجعل الجامعة المغربية فضاء لتكريس الخضوع الرمزي بدل الاشتباك المعرفي. هكذا تتحول قيم الأكاديمية والموضوعية والتحرر إلى أقنعة تمنح الشرعية لخطاب معرفي رومانسي يعيد إنتاج الإعجاب غير المشروط بالغرب، ويعطل إمكانات التفكير في أفق تحرري بديل ينبع من الواقع العربي الإسلامي ويصطدم بنظام الهيمنة.
سياق الحرب وإعادة موضعة الجامعة المغربية
تظهر حرب الإبادة الصهيونية على غزة منذ أكتوبر 2023، انكشاف هشاشة البنية المفاهيمية المستوردة في الجامعة المغربية، وتعري زيف الحياد الأكاديمي أمام وقائع تتطلب موقفا أخلاقيا ومعرفيا واضحا[1]. فقد انهارت دعاوى “الموضوعية” عندما انحاز خطاب أكاديمي واسع إلى توصيف المقاومة بوصفها «عنفا غير مشروع»، فيما اعتبرت الإبادة الصهيونية «دفاعا مشروعا عن الأمن»، واستخدمت مفاهيم مثل “السيادة” و”الشرعية” و”الدولة” لتبرير اختلال أخلاقي فادح في قراءة الفعل المقاوم[2].
هذا الانحياز يفضح التواطؤ البنيوي للمناهج مع سرديات الهيمنة التي تفرغ المفاهيم من مضمونها التاريخي والمعياري، وتعيد تدويرها كآليات لضبط الخطاب والتحكم في المعنى[3]. كما كشف تردد قامات جامعية عديدة، بل وتواطؤ بعضها، عن غياب الإحساس برسالتها النقدية، واعتمادها على تحليلات تنتجها مراكز أبحاث غربية تعيد صياغة الوقائع بمنظور استشراقي جديد، يفرغ الشعوب من حقها في المقاومة ويجمل الفاعل الاستعماري.
يمثل هذا السياق الحربي لحظة إبستيمية فارقة تلزمنا بمراجعة جذرية للمناهج، وبإطلاق مبادرات بحثية تربط المعرفة بالفعل المقاوم، وتعيد تعريف مفاهيم “الدولة” و”الشرعية” و”العنف” على ضوء معايير العدالة التي تنتصر لحقوق الشعوب لا لآليات القهر، وتنطلق من النسق العربي الإسلامي بدل البراديغم الغربي. وعليه فالجامعة اليوم مطالبة بأن تتحرر من موقع التابع، وتعيد تموضعها كفاعل في إنتاج خطاب مضاد للهيمنة، يحاور العالم من موقع السيادة الثقافية والمعرفية[4].
أولا: إشكالية التاريخانية والتراكم المعرفي
تستند المناهج الراهنة إلى فرضية أن المعرفة نتاج تراكم خطي يبدأ من الفلسفة اليونانية ويمر بمحطات النهضة والأنوار، ثم الحداثة وما بعدها. غير أن هذا السرد يغفل العنف الرمزي الذي رافق توسيع الأفق المعرفي الأوروبي خارج حدوده[5]. بعبارة أخرى، يختزل التاريخ العالمي في سياق أحادي المركز، تصور فيه مساهمات الحضارات الإسلامية، الإفريقية والآسيوية كهوامش ظرفية[6]، لا كبؤر إنتاج مستقلة ولا كأنساق فكرية كاملة.
يتجلى هذا المنظور في هيكلة مساقات الفلسفة، حيث يتم تقديم العقل الديكارتي وكانطية العقل المحض بصفتهما المنطلق المركزي لأي تفكير فلسفي، بينما يعامل ابن رشد أو الغزالي أو ابن خلدون كمجرد حلقات انتقالية أو أسماء ثانوية في بنية سردية غربية متماسكة[7]. وتنعكس هذه الانتقائية على الطلبة فيصير التفكير النقدي مرادفا للقطيعة مع التراث المحلي بدل مساءلته، ويقدم التأصيل المعرفي غير الغربي سواء في الفلسفة أو التاريخ أو علم الاجتماع على أنه خرافة أو خطاب ما قبل عقلاني[8].
وعلى الرغم من الإسهامات الغنية للفكر العربي الإسلامي في هذه الحقول، سواء في أعمال ابن رشد أو الغزالي أو ابن خلدون أو مفكري المقاصد أو حتى السوسيولوجيين المغاربة المعاصرين، فإن حضور هذه الإسهامات في المناهج لا يزال هامشيا[9]، وغالبا ما يستحضر باحتشام أو كنوع من التكميل الثقافي غير المنتج. بل كثيرا ما تُقدم هذه الإسهامات على نحو يجعلها كأنها منتوج مغلق غير قابل للتطوير، لا يبنى عليه نسق معرفي أو تأطير منهجي بديل. وتتمحور مقررات الجامعة حول مناهج الغرب وإشكالاته (مثل الجندر، النوع، العلمانية، التعددية الثقافية…)، دون الاشتغال بأسئلة السياق المغربي والعربي والإسلامي.
ويعبر هذا الإقصاء المعرفي عن انفصال الجامعة عن نخبها الفكرية، وعدم تفاعلها مع المسارات المحلية في إنتاج المعرفة، وارتهانها لرهانات خارجية تملي عليها أجندات بحثية ومفاهيم جاهزة[10]، تسوَّق باعتبارها علمية ومحايدة. إن غياب مشروع معرفي مغربي أو عربي إسلامي متكامل في هذه الحقول لا يعكس فقط خللا منهجيا، بل يعبر عن فقدان الإرادة في بناء أفق معرفي مستقل يعيد الاعتبار لتجاربنا التاريخية واحتياجاتنا المجتمعية[11].
ثانيا: الأكاديمية والموضوعية كأدوات هيمنة
يسوق لحيادية المعرفة داخل الجامعات باعتبارها قيمة عليا تتخطى الأطر الزمانية والمكانية. غير أن الخطاب الأكاديمي ذاته يعيد إنتاج المركزية الغربية عبر افتراض حياد يطمس علاقات القوة التي صاغت المفاهيم. فتقرأ الدولة مثلا وفق تعريف فيبر لاحتكار العنف المشروع، ويقدم مفهوم الفرد على أساس ليبرالي صرف، بينما تهمش التصورات الإسلامية التي ترى الفرد جزءا من نسيج اجتماعي‑روحي أوسع.
هذا الحياد المفترض يستخدم عمليا كآلية إقصاء، تمنع أي مقاربة بديلة من أن تقدم بوصفها علما. فكل رؤية تنطلق من تراث إسلامي أو تجربة مقاومة تتهم بالأدلجة، بينما يعد استيراد مفاهيم الغرب إبستيمولوجيا مشروعا محايدا. وهكذا تتحول الجامعة إلى معمل لإنتاج القابلية للاستعمار.
ثالثا: الرومانسية الأكاديمية والإعجاب غير المشروط بالغرب
تستبطن النخبة الأكاديمية خطابا يمتدح الثورة العلمية الغربية باعتبارها ذروة العقل الإنساني[12]، وتدرس “التاريخانية” باعتبارها الخط البياني للتقدم الذي لم يكتمل بعد في العالم غير الغربي[13]. ينجم عن ذلك موقف رومانسي يخلط الإعجاب بالآخر مع الإذعان لمفاهيمه، ويسقط إمكانية بناء مقاربات نقدية مستندة إلى التجارب المحلية والوعي بالسياقات المختلفة.
وهذا الخطاب لا ينتج فقط انبهارا معرفيا، بل يكرس الإقصاء داخل الحقل الأكاديمي نفسه، حيث ينظر بازدراء لأي مقاربة تنطلق من سؤال الهوية أو المرجعية الثقافية، ويتم إقصاء النقاشات حول الإسلام كفاعل حضاري[14]، أو حول فلسطين كمحدد معرفي، لصالح مقاربات تعتبرهما مشكلات سياسية لا تعنى بها المعرفة.
رابعا: تداعيات التمركز الغربي على الحقول المعرفية
تتجلى آثار التمركز الغربي داخل الجامعة المغربية في مختلف الحقول المعرفية، حيث يعاد إنتاج النموذج المعرفي الغربي دون تفكيكه، وتمارس عملية إقصاء رمزية لكل مقاربة تنبع من سياق محلي أو رؤية بديلة. ويتم ذلك من خلال فرض نماذج تفسيرية، مفاهيم، وآليات قراءة لا تراعي الخصوصيات الثقافية والمعرفية للمجال المغربي والعربي الإسلامي.
في الفلسفة، يغلب العقل الأداتي الذي يفصل بين المعنى والغاية، ويختزل التفكير الفلسفي في مسارات عقلانية غربية تبدأ من ديكارت وتمر بكانط وهيغل لتنتهي إلى نيتشه وفوكو. قد يبدو للوهلة الأولى أن تنوع هذه التيارات يمثل ثراء مفاهيميا يتيح تعددية نقدية حقيقية داخل النسق الفلسفي الغربي. غير أن هذا التنوع يظل حبيسا للبراديغم ذاته، إذ يشترك –رغم تبايناته- في مركزية الإنسان الغربي، وفصل المعنى عن الغاية، وإقصاء المرجعيات الدينية والأخلاقية غير الوضعية. ومن ثمّ، فإن ما يبدو اختلافا بين هابرماس وماركس، أو بين نيتشه وديكارت، ليس سوى تباينا داخليا لا يرقى إلى مستوى القطيعة الإبستمولوجية. بل إن بعض هذه التيارات تُسوَّق في جامعاتنا كأصوات نقدية، بينما هي في الواقع تعيد إنتاج التمركز الغربي بأقنعة جديدة. وفي المقابل، تقصى الإبستيمولوجيات الإسلامية والمقاصدية، وينظر لها بوصفها لاهوتا أو تفكيرا ما قبل حداثي غير مؤهل للمساهمة في إنتاج فلسفة معاصرة[15]. وهكذا يغيب ابن خلدون، وابن رشد، والشاطبي، وطه عبد الرحمن وغيرهم بوصفهم مصادر حية لفلسفة بديلة، قادرة على مساءلة الحداثة من موقع مغاير، لا الركون إلى مركزيتها أو محاكاتها.
في السوسيولوجيا، تهيمن مفاهيم مثل التحديث، العلمانية، والتفكك الاجتماعي بوصفها مؤشرات لتقدم المجتمعات، دون التفكير في المعايير البديلة التي تضع التماسك القيمي والديني والرمزي كمؤشرات دالة على الدينامية المجتمعية. وينظر إلى البنيات التقليدية بوصفها عوائق أمام التحديث، في حين أن هذه البنيات قد تشكل في بعض السياقات ضمانا للتماسك والاستقرار المجتمعي.
أما الأنثروبولوجيا، على الرغم من أن النقد المغربي والعربي قد نجح في فضح النوايا الاستشراقية الكامنة خلف الأنثروبولوجيا الكولونيالية، وكشف عن توظيفها في إنتاج صورة مختزلة ومهيمنة عن الذات المغربية، إلا أنه لم يستطع –في غالب الحالات– التحرر من أدوات التحليل الغربية[16]. فالمفاهيم، وإشكالات البحث، وأطر التفسير، لا تزال تشتق من براديغم خارجي، ثم تسقط على السياق المحلي. وحتى مع دعوات بعض الباحثين إلى “الكتابة المزدوجة”، التي تمزج بين موقع الداخل والخارج، فإن الكثير من هذه الجهود ظلت مشروطة بالأطر النظرية الغربية ذاتها، مما يحول دون بلورة جهاز مفاهيمي أصيل ينبع من التجربة المغربية نفسها.
في العلوم السياسية، يفرض نموذج الدولة‑الأمة الحديثة ذات الشرعية القانونية الوضعية كأفق وحيد للفهم[17]، وينظر إلى أشكال الشرعية الرمزية أو الدينية باعتبارها مخلفات تقليدية. كما يساق الخطاب الديمقراطي الليبرالي باعتباره معيارا أوحد للحكم الرشيد، دون تفكير في النماذج الشورية أو التداول الأهلي أو تجربة الأمة الجامعة التي تتجاوز منطق الدولة القطرية.
أما في الاقتصاد، فيكرس منطق السوق المفتوح والنموذج النيوكلاسيكي، وتغيب النماذج الاقتصادية البديلة مثل الاقتصاد الإسلامي، الاقتصاد التضامني[18]، أو مقاربات التنمية ذات الطابع الأخلاقي والبيئي. ويختزل الإنسان في بعده الإنتاجي الاستهلاكي، دون اعتبار لحاجاته الرمزية أو لأبعاد الكرامة في التفكير التنموي.
ويشمل ذلك أيضا علم التاريخ، الذي يدرس غالبا من منظور خارجي يركز على السياقات الأوروبية (الثورة الفرنسية، عصر الأنوار، الحربين العالميتين…) دون منح القيمة اللازمة للزمن المغربي والعربي الإسلامي، أو مساءلة أشكال كتابة التاريخ التي تمارس الإقصاء الرمزي والهامشي للذات الوطنية. فالتاريخ في الجامعة المغربية لا يقارب كأداة لإعادة بناء الذاكرة الجماعية أو لفهم دينامية الهوية الوطنية، بل يعالج غالبا من خلال سرديات خطية استشراقية، تفكك البنيات المحلية لصالح قراءة استعمارية للتطور[19].
إن هذه التداعيات لا تعكس فقط خللا في تمثل المعرفة، بل تعبر عن مشروع إبستيمولوجي كامل لإعادة إنتاج النخبة التابعة، المتصالحة مع منطق الهامش، والعاجزة عن بلورة بدائل تنبني على سيادة معرفية حقيقية. قد يُعترض على هذا التشخيص بوجود أصوات أكاديمية ناقدة داخل الجامعة المغربية، أو محاولات لإدماج بعض المرجعيات المحلية في المقررات. غير أن هذه المبادرات، وإن بدت واعدة في ظاهرها، لا تخرج في الغالب عن إعادة إنتاج المفاهيم الغربية بأدوات محلية، أو تظل أسيرة النسق النظري ذاته الذي تسعى لتجاوزه. بل إن المحاولات القليلة التي سعت إلى التأسيس المعرفي البديل –كأعمال طه عبد الرحمن– رغم عمقها الإبستيمولوجي وانطلاقها من تأصيل لغوي ومرجعية إسلامية صريحة، لا تزال تعاني من تعقيد مفاهيمي يجعلها بعيدة عن التداول العملي في الحقول الجامعية، ويُشعر القارئ أنها بحاجة إلى مزيد من الاشتغال البنائي لصياغة جهاز مفاهيمي عملي وواضح، يمكن أن يؤسس عليه مشروع معرفي بديل.
خامسا: نحو معرفة مقاومة تعيد بناء الذات الحضارية
لقد آن الأوان لكشف الخداع المفاهيمي الذي يتخفى وراء مسميات الحياد والكونية والموضوعية في المناهج الغربية. فالمنهج الغربي لا يقدم للجامعة المغربية كأداة للفهم فحسب، بل يسوق بوصفه النموذج الوحيد الممكن[20]، وهو في حقيقته أداة ناعمة لإعادة إنتاج الهيمنة وصياغة الوعي[21] داخل قوالب تخدم المركز وتقصي الأطراف، من خلال لغة “العقلانية”، و”العلمية”، و”الحداثة”، التي تُفرغ المفاهيم من سياقاتها الأخلاقية والتاريخية، وتعيد تطبيع التبعية من داخل الخطاب الأكاديمي ذاته.
إن القول بانخراط المعرفة في معركة التحرر لا يعكس موقفا أيديولوجيا طارئا، بل يستند إلى وعي حضاري بالمرحلة التاريخية التي تمر بها الأمة، وهي مرحلة تُهيمن فيها المنظومات الغربية على الوعي والمفهوم والخطاب. وبما أن خلاص الأمة لا يمكن أن يتحقق دون تحرر شامل –مادي ورمزي– فإن المعرفة، بصفتها من أهم روافع النهوض، لا يمكن أن تبقى على هامش هذه المعركة. بل إن إنتاج الوعي، وتحرير اللغة، وتفكيك المفاهيم الوافدة، هي كلها شروط أولى لبناء سيادة معرفية تؤسس لنهضة حقيقية. فالمعرفة التي لا تسهم في مقاومة الهيمنة، تُصبح –ولو بغير قصد– جزءا من بنيتها.
لقد كشفت الحرب الجارية –في غزة تحديدا- أن المعركة ليست فقط مواجهة عسكرية، بل لحظة انكشاف إبستيمية، تسقط الأقنعة عن مفاهيم تم تسويقها كحقائق علمية بينما هي منتوجات تاريخية لهيمنة غربية مزمنة[22]. وهنا تبرز الحاجة إلى مساءلة النسق المفاهيمي الغربي لا لمراكمة المعرفة فوقه، بل لكسر منطقه[23] وإماطة اللثام عن وظائفه السلطوية في ضبط الخطاب وتشكيل التصورات وتوجيه المواقف[24].
وعليه، فإن التقدم الحقيقي لا يتحقق باتباع أثر الآخر، وإنما بالشروع في إنتاج مشاريع معرفية تنطلق من النسق المغربي الإسلامي، بتداخله التاريخي والثقافي والجغرافي[25]. هذه المشاريع ينبغي أن تنبثق من هموم المجتمع المغربي، من ذاكرته، ومن مقوماته التاريخية، وأن تؤسس لمنظومة مفاهيمية بديلة ترى في الإنسان كائنا متجاوزا لا مجرد مستهلك أو فرد معزول[26].
والمعرفة المقاومة ليست مجرد موقف سياسي مناهض للهيمنة، بل هي مشروع إبستيمولوجي متكامل يعيد تعريف موضوعات البحث وأسئلته وأدواته ومفاهيمه، بحيث تصبح الجامعة فضاء لإنتاج الوعي النقدي، وإعادة بناء الذات الحضارية، وتفكيك البنيات الرمزية للاستعمار المعرفي. إنها معرفة تنطلق من سؤال: من نكون؟ لا مما يجب أن نكون عليه بحسب وصفات الخارج[27].
إن هذه الحرب تمثل فرصة تاريخية لإعادة الاعتبار للمنطلقات الأصيلة للأمة المغربية والإسلامية، ولفتح مسار معرفي جديد يتجاوز النماذج الجاهزة نحو معرفة متخلصة من التبعية، تنبني على التحرر، والكرامة، والسيادة. فالمعرفة، إن لم تكن منخرطة في معركة التحرر، فستظل أداة في يد الهيمنة مهما تجملت بالأكاديمية والعقلانية.
وتتجلى ملامح هذه المعرفة في الانحياز للضحايا، والانطلاق من قضايا المجتمع لا من اهتمامات الممولين، وفي الدفاع عن سيادة المفاهيم المحلية، ومقاومة الاختراق الثقافي باسم المعايير الأكاديمية. هي معرفة تنطلق من الذاكرة، وتعيد الاعتبار للمحلي[28]، وتؤمن بأن الجامعة ليست فقط مصنع أطر، بل قاعدة تحرير حضاري طويل النفس[29].
لهذا، فإن بناء معرفة مقاومة لا يقتصر على تغيير المحتوى، بل يقتضي مراجعة منطق البحث العلمي نفسه، وإعادة تحديد العلاقة بين الجامعة والمجتمع، وإعادة الاعتبار لقيمة الالتزام المعرفي دون الوقوع في الدعائية. إنها معرفة تنتصر للحق في صياغة المفهوم، وتحرير اللغة، والاحتفاظ بالقدرة على الحكي من موقع الذات لا من موقع الترجمة الدائمة.
خاتمة
لقد أظهرت الحرب الصهيونية على غزة وصمود المقاومة والشعب الفلسطيني أن الصراع المعرفي لا يقل ضراوة عن الصراع العسكري؛ ففي اللحظة التي تقصف فيها البيوت تقصف أيضا المفاهيم. إن استمرار تدريس العلوم الاجتماعية في الجامعة المغربية وفق براديغم التمركز الغربي يحولها إلى أداة لإعادة إنتاج الهيمنة الثقافية بدل تفكيكها، ويحول دون بروز فكر نقدي قادر على مساءلة الواقع.
ولا يمكن الحديث عن تحرر معرفي ما لم يجرد الخطاب الأكاديمي من حياديته الزائفة، ويعاد بناء مفاهيمه ضمن أفق حضاري ينطلق من الواقع المغربي‑الإسلامي ويخاطب العولمة من موقع الندية لا التبعية. عندئذ فقط تتجسد الأكاديمية والموضوعية كقيم تحرر لا كأقنعة لسلطة المركز، وتصبح الجامعة أفقا ممكنا لبناء السيادة الرمزية في زمن تتهدده الإبادة المادية والمعرفية معا.
الهوامش:
[1] Edward W. Said, Culture and Imperialism (New York: Vintage Books, 1994), 272.
[2] Joseph A. Massad, Islam in Liberalism (Chicago: University of Chicago Press, 2015), 88.
[3] Pierre Bourdieu, Langage et pouvoir symbolique (Paris: Seuil, 2001), 55.
[4] Walter D. Mignolo, “Epistemic Disobedience and the Decolonial Option: A Manifesto,” Transmodernity 1, no. 2 (2011): 44.
[5] محمد عابد الجابري، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1980)، 29.
[6] طه عبد الرحمن، روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006)، 47.
[7] حسن حنفي، من النقل إلى الإبداع: نحو تأسيس علم استئناف الفلسفة الإسلامية (القاهرة: دار التنوير، 1989)، ج1، 66.
[8] طه عبد الرحمن، سؤال العمل: بحث في الأصول العملية في الفكر والعلم (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث، 2012)، 107.
[9] عبد الله حمودي، الشيخ والمريد: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، ترجمة عبد اللطيف الإدريسي (الدار البيضاء: دار توبقال، 2001)، 15.
[10] سيف عبد الفتاح، نحو بناء منهجية معرفية إسلامية (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1993)، 91.
[11] محمد أركون، نقد العقل الإسلامي، ترجمة هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، 1998)، 78.
[12] طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000)، 27.
[13] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1986)، 85.
[14] محمد أركون، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، ترجمة هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، 1990)، 91.
[15] طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005)، 73.
[16] حسن رشيق، القريب والبعيد: كيف يفكر الأنثروبولوجيون في المغرب (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2009)، ص. 113
[17] وائل حلاق، الدولة المستحيلة، ترجمة عماد منصور (بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2013)، 27.
[18] منير شفيق، التنمية والتحرر في الفكر الاقتصادي الإسلامي (هيرندون، فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996)، 95.
[19] حسن رشيق، أنثروبولوجيا المغرب: إسهامات ومفاهيم (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2009)، 112.
[20] Wael B. Hallaq, Restating Orientalism: A Critique of Modern Knowledge (New York: Columbia University Press, 2018), 49
[21] عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر (القاهرة: دار الشروق، 2006)، 142
[22] وائل حلاق، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي (بيروت: مركز نماء، 2014)، 29
[23] طه عبد الرحمن، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2002)، 88
[24] عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (القاهرة: دار الشروق، 2002)، 217
[25] طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000)، 57
[26] عبد الوهاب المسيري، الفردوس الأرضي: دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية (القاهرة: دار الشروق، 1986)، 87
[27] إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1997)، 30–35.
[28] عبد الكبير الخطيبي، الذاكرة الموشومة، ترجمة صالح علماني (الدار البيضاء: دار توبقال، 1992)، 54
[29] مالك بن نبي، شروط النهضة (دمشق: دار الفكر، 2002)، 99







