وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب على قانون “قيصر لحماية المدنيين السوريين” المعروف اختصارا بقانون قيصر بعد مصادقة مجلس الشيوخ الأمريكي عليه بأغلبية ساحقة (89 شيخا من أصل 100)، واسم قيصر أطلق على أحد المنشقين عن الحكومة السورية لإخفاء هويته بعد تسريبه لعشرات الآلاف من الصور التي توثق للتعذيب الذي مارسه النظام السوري بحق معارضيه، وهي الصور التي أثارت ردود فعل ساخطة وغاضبة على المستوى الدولي.
وتكمن أهمية قانون قيصر في أنه سيصبح قانونا وطنيا ملزما، وسيبدأ في النفاذ بعد مرور ستة أشهر من إقراره من قبل الرئيس ترمب، وسيستمر تطبيقه لمدة خمس سنوات. من هذا المنطلق يمكن فهم استعجال النظام السوري وحليفه الروسي في إطلاق معركة استعادة محافظة ادلب، ودخول تركيا بكل قوتها لوقف تقدم النظام السوري، على خلاف ما وقع عندما شن النظام السوري وحلفاءه الروس والإيرانيين حملاتهم لاستعادة العديد من المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة المسلحة، وبالتالي ستشهد الأربعة أشهر القادمة حتى بدء نفاذ قانون قصير صراعا محتدما بين النظام السوري وحلفاءه من جهة ومعارضي النظام وتركيا من جهة أخرى حول السيطرة على محافظة ادلب إذا لم يتم التوصل لاتفاق بين تركيا وروسيا.
لذلك ستكون تركيا من أكبر المستفيدين من إقرار قانون قيصر ودخوله حيز التطبيق، لأنه يعني عمليا وقف عمليات تدوير النظام السوري ووقف محاولات إعادة العلاقات بينه وبين العديد من الدول، ومن بينها دول تقع في خصومة مع تركيا، وبالتالي التقليل من محاولات تهديد الأمن القومي التركي من الجنوب التركي، وتخفيف الضغط على تركيا في موضوع القضية السورية، وإعادة طرح القضية ضمن جدول الأعمال الأمريكي.
- مضامين قانون قيصر:
من الملاحظات المهمة فيما يتعلق بقانون قيصر هي أن القانون تم إقراره ضمن ميزانية الدفاع الأمريكية، مما يوحي بأنه أصبح يحظى بأولوية لدى المؤسسات الأمريكية الصلبة، وذلك بعد عدة سنوات من بقاءه حبيس مجلس النواب الأمريكي منذ عهد الرئيس السابق باراك أوباما. وهذا الإقرار الأمريكي لقانون قيصر يأتي بعد استعادة النظام السوري وحلفاءه لغالبية الأراضي السورية وانحصار المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.
ويفرض القانون سلسلة من العقوبات على الحكومة السورية ومسؤوليها وكل شخص أجنبي يعمل لصالحها أو لصالح روسيا أو إيران، وبحسب القانون تشمل العقوبات:
- كل شخص سواء كان مقاولا عسكريا أو مرتزقا أو قوة شبه عسكرية يعمل لصالح النظام السوري أو باسمه، أو باسم الحكومة الروسية أو الإيرانية؛
- كل شخص يبيع أو يقدم سلعا أو خدمات أو تكنولوجيا أو أي دعم يسهل بشكل كبير صيانة أو توسيع الإنتاج المحلي للنظام السوري من الغاز الطبيعي أو البترول أو منتجاته؛
- كل شخص يبيع أو يقدم قطع غيار للطائرات أو قطع الغيار التي تستخدم لأغراض عسكرية في سوريا لصالح أو نيابة عن النظام السوري لأي شخص أجنبي يعمل في منطقة تخضع لسيطرة مباشرة أو غير مباشرة من قبل النظام السوري أو القوات الأجنبية المرتبطة بها؛
- كل شخص يقدم بشكل مباشر أو غير مباشر خدمات البناء إلى النظام السوري.
وأجاز القانون للرئيس الأمريكي تعليق العقوبات جزئيا لمدة سنة أشهر في مجموعة من الحالات:
- توقف النظام السوري أو روسيا عن استخدام المجال الجوي لاستهداف السكان المدنيين بمختلف الأسلحة؛
- رفع النظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين للحصار المفروض على المناطق الخارجة عن سيطرتهم، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية بانتظام لتلك المناطق المحاصرة، والسماح للسكان المحاصرين بحرية السفر والوصول للرعاية الطبية؛
- قيام النظام السوري بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والسماح للمنظمات الدولية لحقوق الإنسان بإجراء تحقيقات مستقلة؛
- توقف النظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين عن استهداف المنشآت الطبية والمدارس والمناطق السكنية.
- تبعات قانون قيصر على مختلف الفاعلين في الملف السوري:
تختلف تبعات قانون قيصر بالنسبة لمختلف الفاعلين في الملف السوري باختلاف الموقف من النظام السوري، وهكذا سيكون حلفاء النظام والنظام نفسه من أكبر المتضررين من القانون، في حين سيكون خصوم النظام وحلفائهم الدوليون وعلى رأسهم تركيا أكثر المستفيدين من القانون.
- خنق نظام الأسد اقتصاديا:
مع دخول قانون قيصر حيز التطبيق في الأسابيع المقبلة سيكون نظام الأسد أكبر المتضررين من القانون، ذلك أن العقوبات المتضمنة في القانون تعني عمليا فرض حصار اقتصادي خانق على النظام الذي يعاني أصلا من أزمة اقتصادية بسبب تكاليف وتبعات الحرب الأهلية المستمرة منذ تسع سنوات، كما أن من شأن تطبيق العقوبات الأمريكية الجديدة إضافة أعباء اقتصادية على الحاضنة الشعبية للنظام السوري والقوى الاجتماعية المساندة له، وهو ما من شأنه خلق حالة من التململ في تلك الحاضنة تجاه النظام نتيجة تضرر مصالحها الاقتصادية، وهي الحاضنة التي لم تعاني اقتصاديا خلال فترة الحرب الأهلية كما عانت الحاضنة والقوى الاجتماعية المعارضة للنظام.
وهنا لا يمكن مقارنة تبعات العقوبات الأمريكية المرتقبة تجاه النظام السوري بمثيلاتها التي طبقت ضد صدام حسين والقذافي، فبالرغم من قساوة العقوبات التي فرضت على العراق وليبيا زمني صدام والقذافي إلا أنهما دولتين غنيتين من ناحية الموارد الطاقية، مما مكنهما من الالتفاف على تلك العقوبات بشكل نسبي للحفاظ على الحواضن الاجتماعية للنظامين، في حين أن سوريا دولة فقيرة ماديا، وحتى مصادر الطاقة من آبار للبترول تقع تحت سيطرة القوات الأمريكية؛ بالإضافة إلى أن نظام صدام كان يتوفر على جيش نظامي قوي لم يتعرض للتفكك كما هو الشأن بالنسبة للنظام السوري الذي انضمت أعداد كبيرة من جيشه للمعارضة المسلحة. لذلك ستكون التبعات الاقتصادية جراء تطبيق قانون قيصر صعبة على الحاضنة الشعبية المساندة للنظام السوري وبالتالي ستكون أكثر قبولا وانفتاحا أمام أي مسار سياسي يكون بديلا عن الأسد.
- إيقاف مشروع تدوير الأسد:
كان ملفتا أن تشمل العقوبات المتضمنة في قانون قيصر عمليات البناء والهندسة، مما يستشف معه أن مؤسسات القرار الأمريكية تسعى لإفشال أي مشاريع لإعادة الإعمار التي كثر الحديث عنها بعد سيطرة النظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين على غالبية الأراضي السورية، وهي المشاريع التي بدأ الروس وبعض دول الخليج في الترويج لها في سياق الحديث عن إعادة تدوير نظام الأسد. لكن مع قانون قيصر ستتراجع دول الخليج عن خططها في إعادة العلاقات مع نظام الأسد، وهي الخطط التي تأتي في سياق الخصومة مع تركيا والموقف من الربيع العربي والتيار الإسلامي، كما أن الدول الأوروبية وبقية الدول وفي مقدمتها الصين سترفض المشاركة في أي مشاريع لإعادة الإعمار في سوريا خوفا من العقوبات الأمريكية، ويكفي هنا الاستشهاد بتخلي كل الدول وفي مقدمتها الصين عن استيراد النفط الإيراني مخافة العقوبات الأمريكية.
وعليه ستضاف أعباء جديدة على روسيا، وستتعمق ورطتها بسوريا، والتي ستتحول مع قانون قيصر بدون منفعة من الناحية الاقتصادية، خصوصا مع العقوبات الأوروبية والأمريكية المفروضة عليها بعد تدخلها في أوكرانيا واحتلالها لإقليم القرم، والأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر منها إيران نتيجة العقوبات الأمريكية، والتي تدفعها لتقليص الاعتمادات المالية المخصصة لحلفائها الإقليميين وفي مقدمتهم النظام السوري. كما أن العقوبات المتضمنة في قانون قيصر ستكون لها تبعات على قطاعي الطاقة والأسلحة الروسيين، وبالتالي مبيعاتها من هذين القطاعيين الحيويين، لأن القانون تضمن عقوبات بحق كل من يقدم مساعدات أو مبيعات أو تكنولوجيا للنظام السوري في هذين القطاعين، وبالطبع فروسيا تأتي على رأس من يقدم ذلك الدعم للنظام السوري.
- تخفيف الضغط عن تركيا:
من الملاحظات الجديرة بالاهتمام هو أن التدخل العسكري التركي المباشر لدعم الحكومة الشرعية في ليبيا جاء بعد أيام قليلة من توقيع ترمب لقانون قيصر، وهو تدخل يبدو أنه تم وفق ضوء أخضر أو تفاهم مع الولايات المتحدة، وقد عبر عن هذا الأمر مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط والأدنى ديفيد شينكر الذي أثنى على التدخل التركي في ليبيا لكونه يسهم في خلق توازن مع قوات حفتر المدعومة من قبل مجموعة من الدول ومن بينها روسيا.
لقد أسهم إقرار قانون قيصر في إعادة القضية السورية ضمن جدول الأعمال الأمريكي وبالتالي الإسهام في التخفيف من الضغوط التي تعيشها تركيا بسبب تبعات تلك القضية، وهي تبعات ذات تكاليف اقتصادية وأمنية وسياسية على تركيا وحزب العدالة والتنمية الحاكم، ويأتي على رأس تلك التبعات ارتفاع نسبة الرفض الشعبي لاستمرار تدفق اللاجئين السوريين على الأراضي التركية، والتكاليف المالية التي يتطلبها تدبير شؤون اللاجئين، وتهديد الأمن القومي التركي من الشمال السوري. لذلك فإقرار قانون قيصر سيدفع بروسيا للتسريع بإيجاد حل سياسي للقضية السورية، لأنه لا يمكن لروسيا الاستثمار في نظام مأزوم اقتصاديا، ويعاني حصارا دوليا، كما أنه سيكون لدى الروس تخوفات كبيرة من تعرض الشركات العاملة في قطاع الطاقة لعقوبات أمريكية، مما سيؤثر على قطاع الطاقة الذي شكل عصب الاقتصاد الروسي، خصوصا مع العقوبات الأمريكية على مشروع نورد ستريم 2 لنقل الغاز الروسي لأوروبا، والتي دفعت الشركات الأوروبية المشاركة في بناء خط الأنابيب للانسحاب من المشروع، وهو أمر يصب في مصلحة تركيا ويزيد من اعتماد روسيا عليها لنقل غازها لأوروبا لا سميا بعد تدشين خط السيل التركي قبل أسابيع لنقل الغاز الروسي لتركيا ودول جنوب وشرق أوروبا، وهو الخط الذي سيمكن من نقل 31.5 مليار متر مكعب سنويا من الغاز الروسي نحو أوروبا. وأمام هذه التحديات المطروحة على روسيا والخوف من تبعات قانون قيصر ستكون مضطرة للتعاون مع تركيا لإيجاد حل سياسي للقضية السورية.
كما أن من شأن إقرار قانون قيصر وقف مخططات الدول الخليجية للتحالف والتقارب مع نظام الأسد لتهديد الأمن القومي التركي انطلاقا من الأراضي السورية، وبالتالي سيسهم القانون في تخفيف العبء على تركيا في الملف السوري، وانتقالها بكل ثقلها لإدارة ملفات إقليمية أخرى وفي مقدمتها الملف الليبي.