توطئة
ما يزال فيلم المخدوعون على قائمة المنع على الرغم من مرور أربعين عاماً على إنتاجه، الفيلم مقتبس من رواية غسان كنفاني رجال في الشمس التي صدرت في العام 1963، ولكن المخرج توفيق صالح كان قد أجرى بعض التعديلات أثناء كتابته للسيناريو، كان أبرزها أن جعل الشخصيات الثلاثة تخبط على الخزّان في نهاية العمل. يقول: “وجدتُ وأنا يكون السيناريو أكثر إنسانية وأكثر بعداً عن أي سياسة؛ لذلك ارتأيت أن يخبط الإنسان قبل أن يموت”.
يُعد هذا الفيلم واحدا من أفضل مائة فيلم أنتجتهم السينما العربية، وحصد جوائز عدة بينها جائزة مهرجان قرطاج 1972 والجائزة الأولى من مهرجان ستراسبورج لأفلام حقوق الإنسان 1973 والجائزة الأولى من المركز الكاثوليكي الدولي ببلجيكا 1973؛ إضافةً إلى جائزة لينين للسلام من مهرجان موسكو عام 1973.
السيناريو
يتناول الفيلم قصة ثلاثة فلسطينيين من أجيال مختلفة، تتباين ظروفهم وحوائجهم الحياتية، إلا أنّهم يتشاركون في غايتهم المتمثلة في الهرب إلى أرض النفط والثروة-الكويت- وذلك لتحسين ظروفهم المعيشية.أبو قيس: الفلاح الذي تقدّم به عمره وخسر بيته وأرضه وزيتونته، أسعد: الشاب الثائر المتهم بالتآمر على الدولة الأردنية، مروان: الطفل الصغير الذي اُضطر لترك مدرسته لينغمس في مقلاة العمل؛ ليعيل أمه وإخوته، بعد أن تخلى عنهم شقيقه الأكبر الذي يعمل في الكويت أيضاً، ووالده الذي ترك أمه ليتزوج بامرأة مبتورة القدم؛ لا شيء إلا لأنها ستعفيه من إعالة أطفاله أو بحد قوله: ستعفيه من “إطعام نص دزينة حلوق مفتوحة”، فضلاً عن امتلاكها بيتاً مسقوفا، لطالما كان يحلم به.
كلٌ على حدى، اجتازوا طريقهم حتى البصرة، ليجمعهم شط العرب ببعضهم وبأبي الخيزران- صاحب الخزان-، الفلسطيني الذي يعمل عند رجل الأعمال الكويتي الثريّ، البلديات الثقة والسائق المحترف، القادر على تحقيق الحلم وتهريبهم إلى الكويت.كل ما عليهم هو المكوث في الخزّان 6 دقائق عند الحدود العراقية ومثلها عند نظيرتها الكويتية. غير أن أخبار الراقصة كوكب التي تسربت إلى موظفي الحدود الكويتية، أفسدت على أبي الخيزران خطته، فتأخر على خزانه، وأفسد “آب اللهاب الي بدوب المسمار في الباب “على ثلاثي كنفاني حياتهم؛ فدخلوا أرض الكويت ولكن أمواتا…
الخط الحكائي
تُحاكي أحداث الفيلم حياة الشعب الفلسطينيّ إبان عام 1958وما بعدها، أيّ بعد النكبة بعشرة أعوام، حين بدأ الفلسطينيون يستفيقون من الصدمة، ويدركون حقيقة ما حل بهم، بين مخيمات اللجوء والتشرد، والفقر والوعود الكاذبة وضياع القضية. يُسلط الفيلم الضوء على التجذابات النفسية والصراعات الداخلية التي يرزح تحتها الفلسطيني في ظل ذلك الواقع المُركب، وما تمخض عنها من نماذج متعددة للشخصية الفلسطينية مع تركيز واضح على شخصية الفلسطيني الملائمة لحبكة الفيلم، والذي قرر الانسحاب من الميدان والبحث عن خلاصه الفرديّ، والانتقال من أرض الفردوس المفقود إلى أرض الفردوس الموجود الكويت.
سعد: الشاب الثائر المتهم بالتآمر على الدولة الأردنية، مروان: الطفل الصغير الذي اُضطر لترك مدرسته لينغمس في مقلاة العمل؛ ليعيل أمه وإخوته، بعد أن تخلى عنهم شقيقه الأكبر الذي يعمل في الكويت أيضاً، ووالده الذي ترك أمه ليتزوج بامرأة مبتورة القدم؛ لا شيء إلا لأنها ستعفيه من إعالة أطفاله
في ترميز واضح يشير الفيلم إلى العلاقات المتشابكة والمتعددة التي تتمحور حول الموت الفلسطيني، فمن واقع الفقر المُسيس والممنهج الذي أورث في نفس شخصية أبا قيس الذل والمهانة، والذي أفضى به بأن يخرج من فلسطين مُرغماً للكويت؛ “فهم بدهم إياك تظل قاعد مذلول شحّاد، وإلي ما بموت برصاص اليهود بموت بذل الإعاشة فليش ما تروح هناك يا أبو قيس؟ ما حلك تعرف إنك ضيعت شجراتك وبيتك وضيعت بلدك كلها؟”.
ويرمز الفيلم أيضاً إلى تواطؤ الحكام العرب ضد الشعب الفلسطينيّ، وهو التوجه السياسي لليسار الفلسطيني، والذين عبّر عنهم كنفاني بالمهربين سواء منهم الأردنيين الذين يتولون التهريب إلى البصرة، أو العراقيين الذين يتولون التهريب إلى الكويت؛ فأظهرهم بمظهر المتاجر في الشعب الفلسطيني، الذي يهدف لتحقيق مكاسبه الشخصية؛ فالمهرب الأردني الصديق ورفيق الثورة، يغدر بأسعد، ليحاول أخذ حذره ويقول للسمسار العراقي: “الدليل الي راح تبعتوه معنا راح يهرب قبل ما نقطع نص الطريق، ولهيك ما راح أعطيك الــ15 دينار إلا لما نوصل الكويت”.
وفي ترميز ثالث تشير أحداث الفيلم إلى القيادة الفلسطينية المتمثلة في منظمة التحرير الفلسطينية، والتي رأها كنفاني عاجزة ومغرورة وتسعى لمكاسبها الشخصية الضيقة أيضا، وهي لم تكن كذلك بل صارت بسبب الهزائم المتكررة وضيق الأفق وانعدام البدائل، فمثلها بشخصية أبو الخيزران، الفلسطيني الذي حارب وأصيب إصابة أفقدته رجولته، ليحمله عجزه الجنسي إلى الكفر بكل قيم الكرامة والبحث عن المال. يقول كنفاني على لسانه مرة وهو يخاطب أبا قيس، وبعد ضحكة ساخرة: ” الموت..بتحكي عن الموت يا أبو قيس وأنا الشوفير والقائد؟”، وثانية وهو معلما الشاب الناشئ مروان: ” القرش أولاً، ثم القيم والمبادئ والأخلاق”.
وفي ذات السياق؛ يرمز الفيلم إلى الموت الفلسطيني بإماتت القضية؛ والتي يمثلها الشاب أسعد الثائر الذي آثر الانسحاب من منتصف الطريق والذي لم يستجب لنداء صديقه حين قال :” خليك معانا هالمشاكل كلها مش راح تنحل من هناك، أي مشكلة بالعالم ما بتنحل إلا إذا الواحد قرب عليها مش هرب منها”، والموت المبكر للإنسان حينما تدفن فيه طفولته، ويُحرم من حقه في التعليم ليحمل أثقال الحياة مبكراً مثل مروان، الذي اضطر لأن يترك مدرسته ويسافر إلى الكويت ليعيل عائلته، وموت الوطن في المنفى الذي يمثله الأخ الأكبر لمروان الذي سبقه إلى الكويت فعمل وتزوج واستقر، ولم يعبء بحال حتى أقرب الناس إليه.
خامساً:التأطير التاريخيّ للفيلم
تُجسد أحداث الفيلم معاناة اللاجئ الفلسطينيّ بعد نكبة العام 1948؛ الذي لم يفقد بيته وأرضه وزيتونه فحسب، بل وحتى أوراقه الثبوتية ووثائقه الشخصية؛ فقد تسببت النكبة بنزوح أكثر من 850 ألف فلسطيني، وتدمير أكثر من 531 قرية فلسطينية، هاجروا إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى عدد من الدول العربية المجاورة كالأردن وسوريا ولبنان، عايش اللاجئون الفلسطينيون أحوال معيشية واقتصادية سيئة، فإن فاجعة فقد الأرض بالنسبة للفلسطينيّ تتعدى المعنى الوجداني للوطن إلى فقدان مصدر الدخل الأول؛ فقد كان الفلسطينيون يعتاشون على فلاحة الأرض وزراعتها بأشجار الزيتون المبارك ومختلف أنواع الحبوب والبقوليات، فضلاً عن بيارات الحمضيات، وأصبحوا يقتاتون على ما تقدمه لهم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين –الأونورا.
تزامن هذا الأمر بظهور الدولة القطرية في الوطن العربي على يد الاستعمار بعد الحرب العالمية الأولى، التي أوجدت فكرة الحدود بين البلدان العربية، وفرضت تعريفا جديدا للهوية العربية يقوم على مبدأ المواطنة القطرية، والذي أوجد مفهوم السيادة للدولة وأصبحت عملية الانتقال من مكان إلى آخر في الوطن العربي منوطة بقوانين الحدود والوثائق التي لا يحملها الفلسطينيّ اللاجئ.
تميزت تلك الحقبة التاريخية أيضاَ ببداية ظهور النفط في دول الخليج العربي، والذي انتقل به اقتصاد الخليج من الاقتصاد البدائي القائم على تربية المواشي والذي بالكاد يكفي لتأمين متطلبات الحياة اليومية بشكلها الأدنى إلى اقتصاد ريعي ساهم في انتقالهم من حياة البداوة إلى المدنية، ليبدأ الخليج مشاريعه التنموية؛ التي اضطرته لاستيراد الأيدي العاملة الوافدة التي كان معظمها في البداية من فلسطين.
التأطير السياسيّ للفيلم
على الصعيد السياسيّ، يكشف الفيلم القانون الأول الذي يحكم عالم السياسة في العصر الحداثي، وهو مبدأ القوة، ” فالجرذان الكبيرة تأكل الجرذان الصغيرة “، والشعب الفلسطيني الضعيف، الذي استكان للواقع وانسحب من الفعل التاريخي، وسلّم مصيره للأشقاء العرب في تلك الفترة، قد تكالب عليه القاصي والدانيّ.
سياسيا، شهدت هذه الفترة ذروة المد القومي الذي قاده عبد الناصر، والذي حمل شعارات ثورية تغنت بالوحدة العربية وتحرير فلسطين، إلا أنها لم تحقق أي انتصار في صعيد المكاسب السياسية، بل أن الشعارات الرنانة ووعود التحرير التي أشبُع بها الشعب الفلسطيني من الزعماء العرب، كانت تستخدم في حقيقتها لتحقيق مآرب سياسية محضة، تتمثل باكتساب شرعية سياسية لأنظمتهم السياسية، أو للمزاودة بين الأنظمة السياسية العربية التي كانت تشهد خلافات واسعة على صعيد علاقاتها البينية. عبر كنفاني عن هذه الحالة حين أنطق أبا قيس قائلا:” أنت شو مستني؟ كله كلام في كلام، سويت الراديو نبي وظليتك تسمع حكي، وإلي بسمع حكي بقطف طق حنك، ليش ما بتتحرك وبتتولى أمور حالك”؟ في إشارة واضحة إلى رغبة القيادة الفلسطينية في ذلك الوقت بتولي زمان الأمور، وقيادة الشعب الفلسطيني إلى مشروع تحرري حقيقي، ولكن هذه القيادة والتي تمثلت في شخصية أبي الخيزران، استسلمت بعد أول مطب مرت به، لتتحول إلى قيادة فاشلة عاجزة تتاجر في الشعب والقضية الفلسطينية.
التأطير الثقافيّ للفيلم
ثقافياً؛ يتعرض الفيلم لموضوعين أساسيين، أولهما: التعليم في فلسطين في تلك الحقبة، والتي حمّلها كنفاني صبغته اليسارية أيضاً، الذي كان يعتمد بشكل أساسي على التعليم الدينيّ –الكُتّاب- ولم يكن يعتني بجوانب ثقافية وتوعوية أخرى، ولم يكن يركز على المشروع الحركة الصهيونية في فلسطين والذي كانت بداياته في العام 1889 مع نابليون، فقد غاب التعليم التحرري عن كُتاب القرية كما غابت قضايا عربية أخرى؛ فأبو قيس لم يسمع عن شط العرب إلا عندما تلصص على صف ابنه قيس.يحاول كنفاني أيضاً إعطاء صورة مثالية للعلم والمعلم الذي يريد، من خلال شخصيته المعلم سليم، الذي كان يسعى لربط المعرفة بالثورة، والعلم بالتحرر وقضايا الوطن، ، ويختار له خاتمة تليق بالفلسطيني الثائر المتعلم؛ فيموت ويده لم تفارق البارود. وفي ذات الوقت يسعى كنفاني للتقليل من شأن التعليم الديني، الذي رآه سكونيا أقرب إلى الأفيون أو دخان الشيشة الذي يقتات عليه الرجال. فالمعلم سليم ابن مدينة يافا الذي جاء لتعيلم الأطفال في مدرسة القرية، لم يكن يعرف الصلاة، وفي المقابل كان يعرف أشياءً كثيرةً أخرى؛ في المشهد التمثيلي:
-” بدك تصلي إمام في الناس يا سليم بكرة”
-” أنا بعرفش أصلي، بس بعرف أعمل أشياء كثير ثانية، بعرف أطخ مثلاً؛ إذا هجموا عليكم صحوني؛ يمكن أقدر أفيدكم”.
أما الموضوع الثاني؛ فيتعلق بالتمثيل الثقافي للمرأة في المجتمع الفلسطينيّ في تلك الفترة، والذي حكمه التزواج بين الصورة النمطية في العادات والتقاليد الفلسطينية السائدة في تلك الفترة، وبين نظرة الكنفاني الخاصة عنها. فأم قيس كانت الحلقة الأضعف في حياة أبي قيس؛ وكانت السبب الأساس الذي دفعه للسفر إلى الكويت، فهي وإن كانت عديمة الرأي صامتة لا تتحدث إلا بقولها” زي ما بتشوف يا أبو قيس” إلا أنّ إماءتها كانت ذات دلالات أخرى، يحمل الفيلم في طياته أيضاً أن المرأة هي سبب الخطيئة الأولى وسبب الغواية، “فبعد الزواج بطّل أخو مروان يبعت فلوس لأهله، وكلهم ببطلوا يبعتوا”، على حد تعبير أبو الخيزران. وهي أيضاً العبء الذي يحمله الأب أو الأخ على ظهره ولا يتخلص منه إلا بتزوجيها، ” فعم أسعد أعطاه 50 دينار بس عشان يرجع يتزوج بنته، وأبو مروان حصل على حلم حياته ببيت مسقوف بس عشان يتزوج مرأة عاجزة لا يرغب بها الرجال، وأبوها بدو يطمن عليها”.
مقارنة الفيلم بأعمال أخرى: فلسطينياً، عربياً، أو عالمياً
إن مسلسل التغريبة الفلسطينية يجسد مجموعة من الرموز متعددة الأبعاد، وكانت قصة “مسعود وعايد وسعيد” ثلاثة رجال قرروا الذهاب إلى منفى آخر، وهو الكويت، كل منهم حمل قصة اجتماعية وسياسية مختلفة، وجمعم اللجوء والفقر، واتخاذهم منحى البحث عن لقمة عيش بعيدة عن حياة الذل التي لاقاها اللاجئ، لقمة عايش كان ثمنها حياة أحدهم.
يشبه مسلسل التغريبة الفلسطينية، فيلم المخدوعون المستوحى من رواية رجال في الشمس، حيث قرر الرجال الثلاثة السفر إلى الكويت، وتجسدت حالة موت سعيد في التغريبة الفلسطينية حالة موت الرجال الثلاثة خلال رحلة العذاب في الصحراء إلى الكويت بحثاً عن لقمة الخبز المغمسة بالذهب الأسود.
Top of Form
مقارنة الفيلم بأعمال أخرى صهيونية
في الأدب الصهيوني، كانت رواية خربة خزعة أقرب إلى الحديث عن ما آلت إليه الأوضاع الفلسطينية إبان النكبة عام 1948، وتدور هذه الوثيقة الأدبية التي تُدين الجرائم التي اقترفها الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني.
تستند هذه القصة إلى وقائع شارك فيها الكاتب يزهار سميلانسكي، عندما كان ضابطاً في استخبارات فرقة الجيش المكلفة بمهاجمة مجموعة من القُرى الفلسطينية الواقعة بين المجدل وبيت حانون، والقيام بعمليات “تطهير” شاملة لهذه القرى: حمامة، الجورة، خربة الخصاص، نعلية، الجية، بربرة، هربيا ودير سنيد، هذه الفرقة كانت تابعة للوحدتين 151 و152.
خلاصة
تكمن خصوصية الرواية الكنفانية في قدرتها على مواكبة تحولات الواقع الفلسطيني من المأساوية إلى الدرامية إلى الملحمية عبر خلق واقع روائي فني مواز ومستقل يتأسس على قراءة ما بين الهوية والمنفى، وتنتهي الرواية بموت رجالها الثلاثة داخل خزان وهم يحاولون اجتياز الحدود البعيدة عن حدود الوطن، ويتمثل موتهم في الخزان بالمعاناة المستمرة التي يعيشها الشعب الفلسطيني قبل وفاته، وحتى بعد وفاتهم تجد أن نهايتهم كانت في صحراء لا علم لأحد عنهم فيها، ودون مقابر تجسدياً للمقولة التي بدأ فيها الفيلم “الي ما له وطن ماله في الثرى ضريح”.
المعلومات الببليوغرافية
- اسم الفيلم: المخدوعون، The Dupes
- سنة الإنتاج:
- الجهة المُنتجة: المؤسسة العامة للسينما- دمشق.
- إخراج: توفيق صالح.
- تأليف: غسان كنفاني. سيناريو وحوار: توفيق صالح.
- تمثيل: محمد خير حلواني (أبو قيس) ، بسّام لُطفي( أسعد)، صالح خلقى( مروان)، عبدالرحمن آل رشي( أبو الخيزران).
- رابط الفيلم: https://www.youtube.com/watch?v=pRZzbmNwi8w