سأحاول في هذه الكلمات اليسيرة أن أقارب هذا الإنتاج الفكري مقاربة مفهومية، وذلك عن طريق تحليل وتفكيك البنى النسقية لأطروحة المؤلف، من أجل تمكين القارئ من النفاذ إلى عمق الكتاب والاستفادة من منهجه وأفكاره.
أولا: سياق الكتاب
جاء هذا الكتاب في سياق اليقظة السياسية – الاجتماعية التي عرفتها الشعوب العربية الإسلامية، التي انطلقت منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية التونسية، وهي يقظة سيطرت عليها هواجس الإصلاح السياسي والنهوض بالأوضاع الاجتماعية للمجتمعات العربية الإسلامية، فكان هذا الكتاب محاولة من صاحبه من أجل مقاربة الأسئلة والاشكالات التي أفرزتها هذه اليقظة الشعبية، سعيا إلى رسم معالم طريق الإصلاح السياسي والاجتماعي.
ثانيا: دلالة الربيع العربي
يرى صاحب الكتاب سلمان بونعمان أن اليقظات الشعبية العربية الإسلامية هي تعبير عن سخط الأمة من الحالة الحضارية المأزومة التي عمرت قرابة قرن من الزمن؛ ودليل على عدم نجاعة نموذج الدولة القطرية التحديثية الاستعمارية في الاستجابة لتطلعات الشعوب المسلمة، نظرا لمجموعة من العيوب التي تعتريها، أبرزها ما يلي:
– التخلف عن مواكبة التحولات الحضارية والثقافية العالمية
– الاستغراب الاجتماعي، باعتباره نموذجا مستوردا غريبا عن البيئة الاجتماعية
– الفشل التنموي في مختلف المجالات الإنسانية، فضلا عن الانتكاسة السياسية، بسبب فساد أساليب التدبير السياسي
– النزعة التسيدية على مختلف مرافق المجتمع ووظائفه، التي كان يختص بها المجتمع المسلم في تاريخه الاجتماعي.
ثالثا: أطروحة الكتاب الكبرى
السؤال المركزي الذي يشغل المؤلف في هذا الكتاب هو: كيف نبدع نحن المسلمين نموذج دولة حضاري قادر على الاستجابة لروح الربيع العربي وانتزاع الحق في الوجود الحضاري؟ وما ملامحة ومحدداته وجدلياته وآلياته؟
الجواب عن السؤال الأطروحة، تطلب من الباحث سلمان أن أربعة فصول كبرى وهي:
- الفصل الأول: سؤال العلاقة بين الدولة والمجتمع؛
- الفصل الثاني: سؤال العلاقة بين الدين والدولة؛
- الفصل الثالث: أي نموذج بديل لدولة الربيع العربي؟
- الفصل الرابع: دولة الربيع العربي: نزعة التسيد وآليات الترويض؛
وإذا تأملنا عناوين هذه الفصول، يمكن القول إن الفصلين الأول والثاني عبارة عن مقدمتين تأسيسيتين، حاول فيهما الباحث أن يؤسس لأطروحته في طبيعة دولة الربيع العربي، بينما الفصلان الثالث والرابع عبارة عن الجواب عن سؤال نموذج الدولة، من جهة معالمه وخصائصه ومقوماته، بحيث تكون العلاقة بين الفصلين الأول والثاني من جهة، والفصلين الثالث والرابع من جهة ثانية، علاقة تكامل تأسيسي.
1 – سؤال العلاقة بين المجتمع والدولة
خلص الباحث سلمان بعد استعراضه لآراء المفكرين في طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع إلى أن هذه العلاقة لا تخرج عن أربع حالات، وهي:
- دولة قوية ومجتمع ضعيف (هيمنة مؤسسة الدولة على المجتمع)؛
- دولة ضعيفة ومجتمع ضعيف؛
- دولة ضعيفة ومجتمع قوي (تمتع المجتمع باستقلال كبير في نشاطه الاجتماعي)
- دولة قوية ومجتمع قوي
وفي تحليله لطبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة في التاريخ الإسلامي (ما قبل الدولة الحديثة)، وجد الباحث أن مؤسسة الدولة في التاريخ الإسلامي تختلف اختلافا جذريا عن نمط الدولة الحديث، ذي النزعة التسيدية على كل مرافق ومجالات المجتمع، وإنما كان مجتمع الأمة المسلمة يتمتع بقدر كبير من الاستقلالية في التدبير والنشاط الاجتماعي، بحيث كان نفوذ مؤسسة الدولة ضعيفا داخليا، لكن على المستوى الخارجي كان قويا، وهذا شكل نوعا من التكامل بين الدولة والمجتمع، مما جعل الدولة قوية في مواجهة الأخطار والتهديدات الخارجية.
وبناء على هذا الحقيقة، يرى الباحث أن نجاح أي نموذج من الدولة في العالم العربي الإسلامي، يتوقف على استرجاع هذا الضرب من العلاقة بين الدولة والمجتمع، وذلك من خلال تأسيسه على مقومين:
الأول: أن الأمة هي الأصل، بينما الدولة نتاج مؤسسي للأمة، وهذا يعني ضرورة استرجاع المجتمع الأمة لوظائفه الأصلية.
الثاني: أن الأمة هي مصدر الشرعية، ومفاده أن أي نموذج من الدولة ينبغي أن يكون نابعا لا من خارج المجتمع الأمة وإنما من داخله.
وفي نظر الباحث أن فشل نمط الدولة الحديثة في العالم العربي راجع إلى الإخلال بهاذين المقومين، ولا أدل على ذلك من أن هذا النمط قام على أساس احتكار جميع الوظائف المجتمعية التي كان المجتمع – الأمة يتمتع بها بناء على النظرة الإسلامية إلى حقيقة الاجتماع البشري ووظائف الأفراد والجماعات فيه.
2 – سؤال العلاقة بين الدين والدولة
يستعرض الباحث في سياق الجواب عن هذا السؤال ضربين من الخطاب:
الأول: خطاب العلمانيين، ويقوم على أساس الفصل بين الدولة والدين، أو الفصل بين السياسة والدين، مقلدا في ذلك النموذج الغربي.
الثاني: خطاب الإسلاميين، ويقوم على أساس أن الإسلام دين ودولة، بحيث لا يمكن الفصل بين السياسة والدين.
ويرى الباحث أن الخطابين معا يعتريهما قصور في التنظير لعلاقة الدين بالدولة، فضلا عن عدم وضوح الرؤية؛ فتصور العلمانيين يؤدي إلى مصادمة قيم المجتمع المسلم، وإحلال القيم الغربية محلها، أما الإسلاميون فلم يقدموا نموذجا متكاملا ومتماسكا لطبيعة العلاقة بين السياسة والدين.
في نظر الباحث المشكلة ليست في علاقة الدين بالدولة، لأنه لا توجد دولة بدون دين، فكل دولة لها مرجعيتها القيمية والوجودية التي تحدد اختياراتها في مجال القيم والعقائد، وهذا المرجعية يمكن النظر إليها باعتبارها دينا.
وعلى هذا يرى المؤلف أن الدولة لا مناص لها من الاستناد إلى الدين والانطلاق منه، وعندئذ يكون المطلوب في المجال الإسلامي هو كيف نوظف المنظومة الدينية، قيما ومفاهيم وعقائد، في بناء الدولة بناء لا يتناقض مع هوية المجتمع الأمة، وقادرا على التعامل مع كل مستجدات المجتمع وتحقيق مطالبه المشروعة؟ فضلا عن رفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية والحضارية، التي تفرضها التطورات العالمية الحديثة.
3 – الربيع العربي وأطروحة الدولة العادلة
إن الأطروحة الأساس التي يدافع عنها سلمان في كتابه هي أطروحة الدولة العادلة، وهنا نتساءل: ما خصائص الدولة العادلة؟ وما طبيعة علاقتها بالمجتمع الأمة؟
أ - خصائص الدولة العادلة
تتميز الدولة العادلة، وفق التصور الذي قدمه الباحث سلمان، بالخصائص الآتية:
– العدل، والمقصود بالعدل هنا مفهومه الشامل، ويتخذ صورتين:
الأولى: العدل العمودي، ويكون بين الدولة والمجتمع، وذلك بحماية حقوق الأفراد والجماعات ومصالحهما من تعسف الدولة، وتمكين المواطنين من حقوقهم ومصالحهم المشروعة، فضلا عن مكافحة كل أنواع الحيف والظلم التي يمكن أن تقع من الدولة على المواطنين، بحيث ينبغي للدولة أن تعامل الجميع على أساس العدل، بغض النظر عن المذهب والانتماء.
الثاني: العدل الأفقي، ويكون بين الأفراد والجماعات، وذلك بالفصل فيما يقع بين الأفراد والجماعات من خصومات، فصلا عادلا، يرجع الحقوق إلى أصحابها، ويقف في وجه المعتدين، عن طريق تفعيل مؤسسات الدولة وأجهزتها المختصة.
– الحرية، وتتخذ صورتين:
الأولى: الحرية الداخلية، وتتمثل في حماية الحريات العامة والفردية، التي تقتضيها المرجعية الأخلاقية والقيمية الموجهة للمجتمع الأمة.
الثانية: الحرية الخارجية، وتتجلى في رفع وصاية الأجنبي عن قرارات الدولة، وذلك بالاستقلال عن أي توجيه خارجي في اتخاذ القرارات الوطنية، خارجيا وداخليا.
- القدرة، ومفادها أن تتمتع الدولة بالقدرة على الفعل.
- الفاعلية، ومفادها أن تكون الدولة فاعلة في المجالات التي تختص بها، تبدع وتنجز وتنفذ وتتبع، فلا تقاس فاعلية الدولة بكثرة المؤسسات، وإنما تقاس بفاعلية هذه المؤسسات على أرض الواقع، وبما تقدمه للمواطنين من خدمات ومنافع.
- التعاقد السياسي، ومفاده أن التدبير السياسي للدولة ينبغي أن يكون نتاج تعاقد سياسي حقيقي بين مختلف الفاعلين في الدولة، بعيدا عن آفات الاستئثار والإقصاء والانفراد، التي تضعف مشروعية القرارات، وتحدث تصدعات في التماسك المجتمعي.
- محاصرة نزعة التسيد، وتتمثل في تقييد الدولة بما يجعلها لا تتحول دولة تسلطية، وذلك عن طريق الآليات الآتية:
- آلية التأنيس، أي النظر إلى الدولة باعتبارها فعلا إنسانيا؛
- آلية التأسيس، أي ربط قوة الدولة بقوة المؤسسات وفاعليتها ونجاعتها؛
- آلية الدمقرطة؛
- آلية تقييد السلطة بالشرعية والمرجعية المجتمعية؛
- آلية مكافحة الاستبداد، عن طريق حماية الحريات العامة وانتهاج اللامركزية في التدبير.
إن طريق النهوض بدولة ما بعد الربيع العربي ينبغي، في نظر الباحث سلمان، أن يمر لزوما عبر النهوض بالإنسان العربي المسلم في مختلف جوانبه، وهذا يتوقف في نظره على آليتين:
– الأولى: إحياء مؤسسات الأمة وإرجاع اليقظة إلى الإنسان العربي المسلم.
– والثانية: تفعيل هذه المؤسسات المختلفة على أوسع نطاق ( من هذه المؤسسات: الأسرة، والتعليم والبحث العلمي، القضاء، الاقتصاد، الصحة والأوقاف، الدعوة …) لتصبح صاحبة المبادرة والفعل والبناء، باعتبارها مؤسسات مسؤولة أمام الله تعالى وأمام الأمة.
ومن جاني آخر يجب على هذه المؤسسات أن تضطلع بمهمتين عظيمتين:
الأولى: استنبات قيم الفضيلة والخير، والإسهام الفعلي في عمارة الأرض، أو إن شئت قل: أن تضطلع بجلب المصالح والمنافع للإنسان باعتبار ذلك واجبا دينيا وتكليفا شرعيا.
الثانية: التصدي لكل أشكال الظلم والحيف والاعوجاج الذي يقع على الإنسان بما في ذلك اعوجاج السلطة السياسية، أو إن شئت قل: أن تضطلع بدفع المفاسد والمضار باعتباره واجبا دينيا وتكليفا شرعيا.
إن الطريق الناجع في نظر سلمان لمحاصرة الاستبداد بمختلف مظاهره، هو تفعيل مؤسسات الأمة، والبحث عن السبل التي تحررها من نزوات المستبدين السياسيين، كائنا ما كان مذهبهم، وذلك عن طريق تحرير المجتمع واستعادتة من خلال إحياء العمل الأهلي، وتفعيل المبادرات القاعدية، وبث الروح في المؤسسات والمنظمات والتضامنات الشعبية المختلفة، وبذلك تكون الأولوية هي تعظيم دور الأمة والمجتمع …
وهكذا يطرح نموذج الدولة “العادلة والفاعلة والقادرة” أفقا يستوجب الكفاح النظري والمنهجي والقيمي والديمقراطي من أجل تعميقه في دولة الربيع العربي، وترتبط قوة أفق هذا النموذج بقوة فعالية نموذج المجتمع “الحي والقوي والفاعل”، فالمجتمع الحي كابح لجماح الاستبداد وقوته تمنع الدولة من التغول والهيمنة وفعاليته تتجلى في المبادرة والانطلاق نحو النهوض.
ولتعميق النظر عمد الكاتب إلى توطين النظر لمفهومي العدل والحرية بالتأصيل الشرعي والتعليل المقاصدي، ليخلص إلى أن العدل قيمة حاكمة على غيرها، وإذا انتفى أو تجزأ أو حل محله الظلم خربت الدولة، لأن الظلم مؤذن بخراب العمران، بحسب تعبير ابن خلدون، ويعتبر الباحث أن العدالة الاجتماعية هي مركز التقاطع بين نموذج الدولة العادلة والقادرة والفاعلة، والمجتمع الحي القوي والفاعل.
إن عملية الاتصال بنموذج الأمة هي الأصل والانفصال عن نموذج الدولة ضد الأمة في التحول المجتمعي، يفرز ما نسميه بنموذج “استعادة الأمة” لسيادتها ولحاكميتها على نفسها ولحضورها الفاعل في الفضاء العام، ليس بمنطقٍ ماضويٍّ أودينيٍّ مغلقٍ، بل بعودة جمهور الأمة كفاعلٍ مؤثرٍ وذاتٍ متحررةٍ، وتجديد الصلة بقيم الانتماء والرموز الثقافية وأبعاد الهوية، فضلاً عن إحياء أخلاق الفاعلية الحضارية والطاقة الجماعية التي تعكسها الحوارية والسلمية والتدافعية والأخلاقية واليقظة.
هكذا إذن، يتبلور نموذج الدولة العادلة، الفاعلة، والقادرة، في سياقٍ تكامليٍّ بين الدولة والمجتمع، إذ لا يعني تقوية المجتمع ومؤسساته الاستغناء عن الدولة وانكفائها، بل الحاجةُ ملحةٌ باستمرار إلى إبداع تركيبٍ خلاقٍ بين النموذجين معاً، بحيث لا يستغني أحدهما عن الآخر، ويتطور في الممارسة الديمقراطية والتدافع المجتمعي.
وفي الختام أقول: إن الهاجس الذي يوجه كتاب الباحث سلمان بونعمان، هو هاجس الإبداع، كيف نبدع نموذجا جديدا للأمة؟ فإذا كان مالك بن نبي قد قال في عصره: إن الأمة التي لا تقرأ تموت قبل آوانها، فأنا أقول في هذا العصر: إن الأمة التي لا تبدع سرعان ما تموت، لأنها أمام خيارين اثنين، كلاهما موت محتوم: إما أن تضمحل من تلقاء نفسها فتموت ذاتيا، وإما أن تذوب في غيرها ذوبانا كليا، ولعل محاولة المؤلف سلمان لا تريد الخيارين معا، وإنما تنتصر لخيار الحياة، ولا حياة إلا مع الإبداع.