في صميم الانشغالات الفكرية الموصولة بالزمن السياسي المتحرك في العالم العربي الاسلامي، والتي عبر عنها كتابه “فلسفة الثورات العربية”، يواصل سلمان بونعمان، الباحث المؤسس بالمركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، اشتغاله على مآلات الحراك العربي في خضم “الربيع” مشخصا الأعطاب التي عجلت بانهيار نموذج سياسي متجاوز للحكامة، ومستشرفا مسالك العملية الانتقالية العسيرة والمحفوفة بالمخاطر الداخلية والخارجية نحو دولة ديموقراطية تحقق الحرية والعدالة. إن الكتاب بهذا المعنى عمل تأسيسي من حيث راهنيته الملازمة لمسلسل تغيير لم يفرز بعد مآله النهائي المستقر، تركيبي من حيث منهجيته المفتوحة على مختلف الاجتهادات التي قدمتها وتقدمها التيارات الفكرية المختلفة، استشرافا لمستقبل الاجتماع السياسي داخل الفضاء العربي الاسلامي.
يقدم الكاتب إصداره بوصفه محاولة لتجديد منهج مقاربة الظاهرة الثورية في منطقة تحمل إرثا استبداديا يتجاور أيضا مع تراث ممانع قوي. محاولة تتبنى الفهم الكلي في إدراك أبعاد الظاهرة وامتدادها وتعقد مساراتها، من خلال تجاوز العدة المنهجية القديمة وتجنب الاسقاطات التجريبية وأسر النماذج التاريخية في فهم ظاهرة تتجدد كل يوم وتتعقد إمكانية استشراف مستقبلها.
قوة مجتمعية جديدة
إن الباحث يتطلع الى نحت نموذج تفسيري مركب هو نموذج التغيير الثوري الانتفاضي المقاوم، الذي من شأنه استشراف القدرات الكامنة في المجتمعات العربية، القادرة على تأجيج الثورات واستنبات الأرضية المناسبة لنجاحها واستمرارها، وذلك بالاستناد الى منظور تركيبي في تناول التحولات السياسية والانتفاضات الثورية وطبيعة الحركات الاحتجاجية الجديدة. هذا النموذج يؤشر على تخلق قوة مجتمعية جديدة وطاقة روحية وأخلاقية انتفاضية، في شكل فاعل احتجاجي جديد غير حزبي وغير تقليدي، أبدع وسائله وطور خياراته وأنتج قياداته وراكم خبراته الانتفاضية في دينامية الفضاء العام.
الكتاب تفكير في دولة الثورة بوصفها موضوعا للتغيير الثوري لا أداة له، فقد كانت الثورات العربية إعلانا تاريخيا عن نهاية دولة ما بعد الاستقلال الناقص وأفول نموذج سياسي في الحكم يفتقد مقومات الحياة الكريمة وأسس العدالة الاجتماعية ويعدم أي إمكانية للخروج من حالة التأخر التاريخي والتخلف الحضاري.
ومع تنوع زوايا نظر الكتاب وتعدد مداخل مقاربته لظاهرة التحول السياسي الثوري في العالم العربي الاسلامي، إلا أنه يكاد يتمحور حول هاجس مركزي، معرفي ونضالي معا، كنهه تحويل موارد القوة وزمام المبادرة وشرعية التوجيه والتأطير من الدولة إلى المجتمع. وفي هذا، يتوسل الكاتب طريق تحقيق اتصال فاعل مع الخبرة الحضارية العربية الاسلامية التي تجلت فيها قوة المجتمع الاسلامي العربي ومؤسساته وجماعاته وحيويته الحضارية ودوره الحاسم في النهضة والإصلاح وبناء الحضارة. وهو منظور يعرف، في ذات الآن، انفصالا إدراكيا عن نموذج الدولة القاهرة لصالح نمط متجدد يمكن لقوة المجتمع في ظل دولة قادرة وعادلة.
ومن هنا يبدو الكاتب واعيا بالأهمية التاريخية السياقية لمشروعه الذي يعزز المحاولات التأصيلية لعملية استعادة تاريخية لسيادة الامة وحاكميتها على نفسها ولحضورها الفاعل في الفضاء العام، ليس بمنطق ماضوي أو ديني مغلق، بل بعودة الجمهور كفاعل مؤثر وذات متحررة وتجديد الصلة بقيم الانتماء والرموز الثقافية وأبعاد الهوية. ومع عسر المهمة التاريخية وتراكم ارث التسلط المعطل للقدرات والنافي للفاعلية الحضارية للمجموعة، فان الباحث يبدو مقتنعا بحيوية المدركات القيمية والسياسية والحضارية التي تظل متجذرة في اللاوعي العام للمجتمع العربي.
هم إعادة بناء الدولة العربية
إن الباحث يعيد تحديد عمق السجال السياسي لما بعد الثورة في منطقة إعادة بناء الدولة العربية الجديدة وتحقيق الإقلاع الحضاري والانتقال الديموقراطي…في هذا السياق، تتبلور الحاجة إلى نموذج الدولة الفاعلة والقادرة التي يستعرض بانفتاح على الفكر السياسي الغربي والعربي الاسلامي معا، معالمه ومقوماته. وهو بوجه خاص، يستلهم إسهام تيارات عربية فكرية حملت هم الاطار الدولتي النموذجي لتحقيق مطامح امة تنشد مكانة لائقة في التاريخ من منطلق تجربتها الخاصة، ومنفتحة على الممارسات الكونية الرائدة. لا ضير أن تتجاور في هذا المنظور اسماء متعددة المرجعيات من قبيل مدرسة إعادة تشكيل العقل المسلم المعاصر التي يجسدها عبد الوهاب ولمسيري، وطه عبد الرحمان ومالك بن نبي…الخ ومدرسة تجديد الفكر القومي العربي من قبيل محمد عابد الجابري وعزمي بشارة وبرهان غليون…الخ.
ينطلق الكاتب من أن مسارات تطور العلاقة بين الدولة والمجتمع في مشهد ما بعد الثورات العربية، تؤرخ لمرحلة فارقة تسعى إلى إعادة تأسيس علاقة الدولة بالمجتمع على أسس تركيبية مغايرة يعاد فيها الاعتبار للمجتمع بوصفه فاعلا في علاقته بالدولة،
بعد أن نسبت له النظريات الاجتماعية والسياسية والأنثروبولوجية قابليته الثقافية للاستبداد، واستسلامه له. يستدعي الباحث في هذا الصدد فكرة الباحثة هبة رؤوف عزت التي تلاحظ أن الدولة جاءت كتدبير لاحق لوجود الجماعة، ورغم هيمنتها عليها وإمساكها بخيوط السلطة، “بقيت دوما بحاجة لتبرير نفسها أمام المجتمع. فعلى الرغم من أهميتها، بقيت الأولوية في المجتمع الاسلامي للجماعة/ الأمة وأهدافها التاريخية (ص 49). في تجربة الاسلام الأولى المشرقة، الحضارة هي التي بنت الدولة، وليس الدول هي التي بنت حضارة الاسلام. الدولة عنصر ناظم لطاقات الأمة.
دولة في خدمة الأمة
يؤكد سلمان بونعمان أن الأمة ليست مصدر الشرعية والسلطة فقط، بل هي أيضا مصدر الهوية والنسق الحضاري والحياتي. ومن خلال الشرعية التي تؤسسها الأمة، تتحدد القواعد العامة التي ينبني عليها الدستور والقانون والنظام العام، ومن ثم تتحدد الأدوار والمؤسسات التي تقوم بهذه الأدوار، كما تتحدد الواجبات التي تتوزع بين عناصر البنية الاجتماعية والمؤسسية للأمة وبين الدولة (ص 59). إنه نموذج الدولة في خدمة الأمة على أساس تكاملي، غير صدامي. فقد جعلت أنظمة الاستبداد الدولة وحشا دنيويا يلتهم كل مصادر الشرعية ويختزل كل المرجعيات على حساب شرعية الجماعة والأمة. ومن الضروري العمل في حقبة ما بعد هذه الأنظمة على تقويم هذه العلاقة وتجاوز معادلة “مجتمع ضعيف ودولة متغولة”.
الاختلال الذي وقع في المعادلة يرجع الى تطورات في منظومة القيم المرجعية لدى العقل والوجدان المسلم حول الدولة في بنية المجتمع، التي صارت تنظر للدولة والسياسة بمفاهيم القوة والسلطة والسيطرة والتحكم في ابتعاد تام عن جوهر الرؤية الاسلامية الحضارية التي ترى أن السياسة علم مصلحة واصلاح.
دولة الاستبداد لعبت دورا تفكيكيا عكس الدولة الغربية، وعاشت المجتمعات العربية الاسلامية تحت نير حداثة مشوهة أدت الى فقدان المجتمعات المسلمة الحديثة لخبراتها التاريخية، وتدمير المؤسسات التقليدية، وإحلال مؤسسات جديدة بمنطق الإلغاء الكلي لاي إمكانية للاستفادة من سابقاتها.
تضافر في هذا الإطار تفكيك المؤسسات التقليدية مع الفشل في توطين المؤسسات الحديثة. إنها إحالة صريحة على أطروحة المفكر الفرنسي برتران بادي في نظريته عن “الدولة المستوردة” (بفتح الراء). يخلص المؤلف الى أن الدولة العربية الحديثة تمثلت قيم العلمنة ومنطق الاستبداد من جهة، وقامت بتأميم الدين والتغول على كل مساحات الفاعلية المجتمعية وأشكال التعبير التحررية من جهة أخرى.
مصالحة عاجلة وشاملة بين القوى المجتمعية
قلب الأوضاع في المخاض الجديد يستدعي حسب الكاتب، نقلا عن محمد محفوظ إنجاز تسوية تاريخية وحضارية بين الدولة والمجتمع في المجال العربي الاسلامي باعتبارها قضية مصيرية في بناء مشروع النهضة المأمول وبلورة صيغة حضارية ضابطة للعلاقة بين الدولة والأمة. وميدانيا، يتطلب بناء هذا النموذج البديل إنجاز مصالحة عاجلة شاملة، حسب المفكر المغربي أبوزيد المقرئ الادريسي، بين القوى السياسية أحزابا وجماعات ضاغطة، وبين الحركات الاسلامية والعشائر والقبائل والأقليات الدينية والعرقية والمذهبية والجمعيات الأهلية.
إن خيار استكمال تحرير المجتمع واستعادة عافيته يتطلب حسب الكاتب (ص 94) تفكيك السلطة المطلقة للدولة وبنيتها العميقة المتجذرة في التحكم والهيمنة والتغول، من خلال احياء العمل الأهلي وبث الروح في المؤسسات والمنظمات الشعبية المختلفة. وبهذا تكون الأولوية هي تعظيم دور الامة والمجتمع وممارسة أدوارها العميقة بوصفها ضميرا جماعيا يراقب الحكم والسلطة.
إن عصر الثورة العربي فرصة واعدة على طريق النهضة يتمثل في استكمال تحرير الأمة من سيطرة الدولة القومية القابضة والدولة العميقة الناعمة المتغلغلة، واقامة دولة الناس واعادة بناء الأمة وجماعاتها ومؤسساتها، وتطوير فلسفة القوانين الحالية، لاعادة تقسيم الأدوار بين الدولة والأمة، وتأسيس المؤسسات على أسس جديدة.
تحرير الدين من دولة الاستبداد
ومن جملة التحديات التي تعترض هذا المشروع النهضوي الطموح، احتدام الاستقطاب الذي طبع الفكر السياسي العربي الاسلامي فيما يخص تحديد الأطر المرجعية لبناء الدولة بين القطيعة الجذرية مع التراث التاريخي والحضاري أو الوصل المطلق المتماهي معه، أو نوع من الجمود على فقه سياسي سلطاني متجاوز. وقد تبلور ذلك أساسا في خيارين: الأول يعتقد أن الحل في بناء الدولة العربية الحديثة هو في الاستناد الى العلمانية باعتبارها عقيدة مرجعية نهائية للدولة دون اعتبار للدين والمرجعية الأخلاقية للأمة، أما الخيار الثاني فيؤمن أن أزمة الدولة العربية ناتجة عن تعطيلها للشريعة مع لحظة سقوط الخلافة العثمانية والخلاص يقتضي إعادة بنائها، هذا مع الوعي بالتفاوتات القائمة داخل كل تيار.
رهان عملية التغيير التاريخية ليس في فصل الدين عن الدولة وإنما في كيف نجعل المنظومة الدينية قادرة على التعامل مع اشكاليات المجتمع الحديث ومع التنوع الديني والاثني في المجتمع. المطلوب توليد منظومة اسلامية ذات طابع انساني تتعامل مع كل المعطيات. في المقابل، ان كان الاسلام لا يعترف بالكهنوت، وان كانت الدولة الغربية حررت السياسة من الدين، فان المطلوب تحرير الدين من الدولة، وحرمانها من توظيف رموزه.
الدولة التي ينبغي للمسلمين بناؤها ليست نموذجا جاهزا، في نظر الكاتب، بل ما ينتج عن الارادة الحرة للأمة وبالتراضي بين أفرادها. خيارات التقابل بين الدولة الاسلامية المدنية والدولة الحداثية المدنية وهمية إذن( ص 143). الحلم المنشود يكمن في بناء دولة عادلة في النظام الذي يتعلق بها والعلاقات السياسية القائمة فيها، ودولة فاعلة في بناء شرعيتها الديموقراطية المتسقة مع شرعية الانجاز، ودولة قادرة على اتخاذ القرار المستقل وبناء استراتيجيات تنموية ونهضوية وحضارية شاملة ومندمجة وثورية. وفي هذا البنيان المثالي، تبرز قيمة العدل كغاية تكسب النظام السياسي الشرعية وتنزعها عنه. إنها القيمة المركزية في المنظومة السياسية الاسلامية.
في دولة ما بعد الربيع، يعتقد سلمان بونعمان أن جوهر الاصلاح السياسي الجذري هو تأسيس عقد اجتماعي بين الدولة ومواطنيها، يجعل المواطنة بمعناها السياسي والقانوني محور الرابطة المعنوية بين الحاكم والمحكوم،
ويستند الى مبادئ وأسس احترام حقوق الانسان واقرار التعددية السياسية والفكرية، وتمكين مختلف القوى والتكوينات الاجتماعية من التعبير عن مصالحها ومطالبها من خلال قنوات شرعية مع توفير ضمانات تمثيلها في هياكل الدولة ومؤسساتها بصورة عادلة ومتوازنة، مع اقرار مبدإ الفصل بين السلطات، واستقلالية القضاء وتوفير ضمانات المشاركة السياسية ليقود ذلك الى اقرار مبدإ التداول السلمي على السلطة طبقا للارادة الشعبية.
إصلاح النسق الثقافي
لا يتورط الباحث في سجن المقولات السياسية البحثة المرتهنة لملعب صراع القوى والأفكار، بل يبدو منتبها للحاجة الى رؤية شمولية داعمة للمشروع السياسي النهضوي. وهي بالتأكيد توجد عناصرها في النسق الثقافي. من هنا، يجزم الكاتب أن أي اصلاح سياسي جذري جاد وعميق لا يمكنه النجاح ما لم يرتكز على اصلاح النسق الثقافي المواكب للثورة السياسية، فمعالجة ظاهرة الاستبداد السياسي تقتضي قبل ومع وبعد الاصلاح السياسي العمل على معالجة ظاهرة القابلية للاستبداد والقابلية لصناعة الاستبداد، ذلك أن الديمقراطية ليست فقط مؤسسات بل نظام تثقيف في نطاق أمة بكاملها، كما يقول مالك بن نبي. الأصل في الثقافة أن تتحول الى نقد مستمر للسياسة، النقد الذي تحاول السياسة افشاله أو تعطيله.
ويخلص الباحث في هذا السياق الى أن التغيير الحضاري سفر ثقافي طويل ومكابدة فكرية ووجدانية مستمرة، ننتقل فيه من ثقافة الانتظارية والتبريرية والخرافية الى ثقافة اداء الواجبات وتحمل المسؤوليات واعمال العقل، ومن ثقافة الكلالة والغش والريع الى ثقافة الحرية المسؤولة وثقافة الانجاز وتقدير العمل وترسيخ العطاء. هذا التغيير لا يتم بمجرد اسقاط رأس نظام سياسي وإحلال نظام آخر مكانه، وإنما يتطلب وقتا أكبر، ونفسا أطول، وجهدا أكثر لأن يشمل تغيير العادات والتقاليد والأفكار في اتجاه تجاوز أنساق التفكير السائدة (ص 279).