المؤلف: الدكتور عبد الله البريدي؛
الناشر: مركز الأمير عبد المحسن بن جلوي للبحوث والدراسات الإسلامية؛
سنة النشر: 2023م؛
عدد الصفحات: 115؛
تمهيد
إن الإنسان في وجهة النظر الغربية المعاصرة كيان مستقل أحادي بعيد عن منظومة الأسرة أو المجتمع، وهو في المقابل مجموعة من الحاجات المجردة التي تحددها الرأسمالية واللذة، وعليه فقد تنبأ الدكتور عبد الوهاب المسيري خلال رسالته للدكتوراه في جامعة روتجرز بالولايات المتحدة الأمريكية في تسعينيات القرن الماضي، بانعطاف الممارسة الجنسية في الغرب نحو “المثلية”، بل وتوقع حتمية هذا الانحراف واصفًا إياه بـ “الانحراف الجنسي البروتستانتي”، ويظهر الهجوم على الطبيعة البشرية هنا في المفهوم الجديد للأقليات؛ من بينهم الشواذ.
ووعيا منه بأهمية الموضوع فقد حاول عبد الله البريدي أن يكشف عن بعض الأسباب التي تفسر هذه الظاهرة ويسلط الضوء على عوامل انتشارها والتشجيع على بثها.
سياق تأليف الكتاب
يأتي الكتاب في سياق حرج، بالنظر إلى الانتكاسات القيمية التي شهدها ويشهدها عالم اليوم؛ من تردي أخلاقي معيب، وانفصام طبيعي (فطري) نكد، واستلاب ثقافي مقصود. والسعي المتسارع غير المسبوق نحو إشاعة ظاهرة الشذوذ الجنسي، والضغط من أجل الاعتراف به والتطبيع معه كحق من حقوق الإنسان، والضرب في المدلول المتجاوز أو قل المعيارية الأخلاقية.
بناء عليه، فالكتاب يندرج في اهتمامات المؤلف بالأسئلة الحضارية وإشكالات النهضة والتنمية، فهو إذا مساهمة جادة في تشخيص أسباب هذا الاهتمام المفرط وخلفياته الفكرية.
مضامين الكتاب
جاء هذا الكتاب حاويا مقدمة وأربعة أجزاء وخاتمة؛
أما المقدمة فقد تضمنت أصل الكتاب وسبب اختيار عنوانه؛ فقد كان أصله عبارة عن بحث تقدم به الباحث للندوة الدولية العاشرة لمركز الأمير عبد المحسن بن جلوي للبحوث والدراسات الإسلامية، أما سبب اختيار العنوان المتمثل في “إمبريالية الشذوذ” فباعتبار أن الكتاب جاء ليعالج “شيوع الشذوذ الجنسي وإشاعته على نحو غير مسبوق تاريخيا (…) فالإمبريالية في جوهرها ليست امبريالية أفراد، وإنما امبريالية نماذج أو أفكار، أو لنقل امبريالية نموذج حضاري ما”[1].
لقد تناول الباحث في الجزء الأول الموسوم بـــــ “الإطار المنهجي للبحث: إشكاليته وهدفه وأهميته ومنهجيته”، إشكالية البحث حاصرا إياها في معالجة ظاهرة “شيوع الشذوذ وإشاعته”[2]؛ حيث ازداد تنامي هذا الفعل المنبوذ بشكل كبير جدا، وقد بينت إحصاءات جالوب[3] هذا التنامي المهول المشخص في مستويات تقبل المجتمعات لظاهرة الشذوذ الجنسي.
وأشار كذلك إلى هدف البحث الذي يتمثل في هدفين أحدهما منهجي وآخر بحثي، فأما الأول فيتمثل في “محاولة التعريف بمنهجية بناء النماذج التفسيرية، بجانب محاولة تطبيق المنهجية المقترحة لبناء النماذج التفسيرية وتفعيلها في سياق دراسة ظواهر معقدة”[4]، وأما الثاني فيتجسد في “محاولة الوصول إلى النمط الكامن (=المطرد) المشكل لظاهرة شيوع الشذوذ الجنسي وإشاعتها، ومحاولة استكشاف المسارات والسيناريوهات المحتملة لهذه الظاهرة، في مقاربة تروم بلورة الخيارات التي يتوجب الإعداد لها من قبلنا لمنع حدوث السيناريوهات السلبية، أو التقليل منها بقدر المطاق”[5].
وقد توسل الباحث لتحقيق أهدافه وإيضاح الإشكال المطروح بــــــ “منهجية بناء النماذج التفسيرية”[6]، المقترحة من قبل المنظر عبد الوهاب المسيري، كون هذه المنهجية تعتبر النموذج التفسيري “بنية تصورية تجهد لأن تعكس شبكة العلاقات بين العوامل الرئيسية المؤثرة في الظاهرة المبحوثة، بما يوصل إلى تجريد نمط عام يمكننا من: التفسير والاستشراف لهذه الظاهرة، مع السعي لبلورة إطار للمعالجة المقترحة من قبل الدول الرافضة للشذوذ الجنسي لاعتبارات دينية وأخلاقية، وعلى رأسها الدول العربية الإسلامية، بما يشكل منصة حضارية لمواجهة هذا المد الكاسح بكل الوسائل المشروعة (= معالجة حضارية)”[7].
وفي الجزء الثاني عرض المؤلف للإطار المنهجي للنماذج التفسيرية مبينا أولا سماتها الابتكارية لدى المسيري في ثلاث خصائص:
الأولى: ابتكارية مفاهيمية؛ حيث نحث المسيري مجموعة من المصطلحات من قبيل “المتتالية النماذجية” و”اللحظة النماذجية”.
الثانية: ابتكارية منهجية؛ تجسدت في خاصية المرونة التي “تفضي إلى الطلاقة، والطلاقة تقود إلى الأصالة”[8]
الثالثة: ابتكارية تطبيقية؛ كونها لا تكتفي بالجانب التنظيري فقط، بقدر ما هي تفكير علمي واقعي اختبر على دراسات عديدة.
ثم انتقل إلى تعريف النماذج التفسيرية، بناء على توصيف المسيري له، بأنها “تمثيل تجريدي مبسط للواقع المعقد للظاهرة المبحوثة، يجهد لأن يعكس شبكة العلاقات للعوامل الرئيسية حيال تلك الظاهرة”[9]، ولفهم هذا النموذج التفسيري عند المسيري ينبغي التمييز بين أربعة أنواع من النماذج:
- النموذج الإدراكي؛ الذي يقع في دائرة اللاوعي عند عامة الناس.
- النموذج التفسيري (أو التحليلي)؛ وهو “خاص بالباحثين والعلماء الذين يسعون إلى جمع بيانات ومعلومات عن ظاهرة محددة، ويجتهدون في مراكمة الملاحظات والتحليلات والتجريدات والتركيبات لفترات زمنية كافية، إلى أن يصلوا إلى بناء نموذج تفسيري للظاهرة أو الظواهر المبحوثة”[10]
- النموذج المعرفي؛ يجهد لأن “يصل إلى الكلي (=الشمول والعموم) والنهائي (الغاية ومنتهى الشيء) للوجود الإنساني”[11]
- النموذج الكامن؛ وهو يحيل إلى “النمط المتكرر في الظاهرة المبحوثة، أي أنه يعكس الاطراد في الظاهرة”[12].
كما قدم بعض السمات التي تتطبع بها النماذج التفسيرية، نذكر منها:
- “الظاهرة الإنسانية تختلف عن الظاهرة الطبيعية وليس ثمة قوانين واحدة لهما”[13].
- “لا يمكن فهم الظاهرة الإنسانية عبر دراسة ظاهرها فقط، بل لا بد من دراسة إطارها الداخلي وبنيتها الجوانية (ثمة فرق بين قطعان الأغنام ومجموعة الأطفال)”[14]؛
- “لا يمكن الاكتفاء باستعادة الفاعل الاقتصادي أو الاجتماعي أو الجسماني أو الطبيعي فحسب، إذ يجب استعادة {الإنسان الإنسان} أو {الإنسان الرباني}: الإنسان المركب ذي الأسرار والفاعلية والإبداع”[15].
وأما أبرز إيجابيات هذا النموذج نذكر:
- “استرجاع الإنسان بكل تركيبيته والعقل بكل تركيبيته
- عدم الخضوع لإمبريالية المقولات
- إمكانية رصد الظاهرة بكل تناقضاتها وتركيبيتها وثنائياتها
- القدرة على التمييز بين الادعاء الأيديولوجي والنوايا والفكر من جهة، والسلوك والممارسة والأداء من جهة ثانية”[16].
وقدم الباحث في الجزء الثالث إطارا عاما لمقاربة المسيري في تفسير الشذوذ الجنسي؛ مبينا ركائزها ومساراتها، فخلص إلى أن ركائز هذه المقاربة يمكن استكشافها في النموذج التفسيري الذي قدمه للعلمانية الشاملة، حيث يمتاز نموذجه التفسيري بــ “قوة منهجية ومفاهيمية، مع اتسامه بكونه مستمدا من الواقع؛ أي أنه ليس نابعا من تفكير عقلاني مثالي أجوف، كالذي نجده في كثير من الأطروحات (الأكاديمية) الساذجة، إذ هو يجعل من الواقع محكا لاختبار النموذج وتعديله”[17]، إذ لم يكتفي المسيري بالجانب التنظيري، بقدر ما تتبع تلك المتتالية في ميادين الترشيد والفكر والدولة والاقتصاد والحياة العامة والخاصة والعلم والبحث، مما جعلها تتسم بالتبدل والتغير، وهو ما جعل المسيري يدعو إلى “ممارسة قطيعة إبستمولوجية، نرتحل عبرها مما يمكن وصفه بــ بارادايم التعريف إلى بارادايم النموذج التفسيري”[18].
ومن النتائج المهمة التي وصل إليها المسيري، عبر هذا النموذج في تتبعه لمتتالية العلمانية، تفكيك الإنسان إلى وحدات مادية بسيطة تستمد قيمتها من ذاتها دون الاعتبار بالمعايير الأخلاقية الإنسانية المطلقة.
ومن الركائز كذلك التي اعتمد عليها البريدي نموذج الحلولية الكمونية التي تجعل من الإله والإنسان والطبيعة جوهرا واحدا، فينعدم الحيز الإنساني، وتغيب الحرية والتجاوز، فيختزل الإنسان ويساوى بالكائنات الطبيعية. كما استفاد الباحث من نموذج الجماعات الوظيفية في دلالة على العزلة والتضييق على الناس فيصبح الإنسان وظيفيا ذو بعد واحد.
لقد عمد البريدي إلى جمع وتقديم أهم الأبعاد التفسيرية لظاهرة الشذوذ الجنسي وفق ما طرحه المسيري متناثرا في نصوصه محددا إياها في أربع:
أولا: الإنسان اللامدلولي: الذي يظهر نتيجة تغييب “الإله” الذي يمثل المدلول المتجاوز للغة، فيفقد “تجاوزه ويصبح دالا بدون مدلول، ليجري بعد ذلك إحلال مدلولات عديدة محل المدلول المتجاوز من أمثال: التقدم، الحرية، الإنسان”[19]، فينتقل مثلا مفهوم الأسرة من العلاقة الشرعية بين رجل وامرأة إلى العلاقة بين رجل ورجل، وامرأة وامرأة. ونفس الأمر ينطبق على أطفال الزنا الذين أضحوا يسمون بأطفال الحب أو أطفال الطبيعة.
ثانيا: الإنسان الرغائبي: حيث تكون للرغبة كامل السيطرة، فيعبر الإنسان ويرحل من العلاقة التراحمية إلى علاقة تعاقدية مؤسسة على إشباع الرغبة فقط، وهذا ما يدفع باتجاه تعديل منظومة المفاهيم، ومن ذلك استخدام مفهوم التفضيل أو الميل الجنسي عوض الطبيعة الجنسانية الثابتة للإنسان، مما يفتح الممارسة الجنسية لأي نمط من الشذوذ الجنسي سواء أكان مع إنسان مع نفس الجنس (أو ما يسمى بالمثلية) أو مع الأطفال (بيدوفيليا) أو حتى مع الحيوان (زوفيليا)[20].
ثالثا: الإنسان الاحتجاجي: أي النزوع إلى الشذوذ الجنسي باعتباره تمردا وردة فعل احتجاجية لما يعانيه الإنسان من غربة وفراغ جواني ووحدة جراء اكتساح العلمانية الشاملة للحياة الإنسانية وتكريس النمطية.
رابعا: الإنسان الموحد: الذي يظهر نتيجة ارتفاع معدلات الحلول والتفكيك والعلمنة، ومن أبرز تجلياته ظهور بذرة الجنس الواحد، والرغبة في تغيير الجنس، وتجاوز الثنائية الجنسية، فيصبح الجنس هو وسيلة التخاطب[21].
أما الجزء الرابع فقد جاء تحت عنوان؛ “نحو بناء نموذج تفسيري لشيوع الشذوذ الجنسي وإشاعته”، حاول المؤلف من خلاله إكمال المقاربة المسيرية وإضفاء لبنات جديدة تمكن من فهم النمط الكامن لظاهرة الشذوذ الجنسي[22].
يرتكز نموذج المسيري على ركيزتين أولاهما يتأسس على بعد غائي؛ أي وجود دوافع خارجية تدفع لانتشار وتبني الظاهرة، والثاني يرتكز على بعد ذاتي؛ يتعلق بالظاهرة نفسها. وعليه حدد النمط الكامن (المطرد) للظاهرة في أربعة عوامل مضمرة، وهي:
- الاحتجاجية/ التمردية، نتيجة ما يعانيه المجتمع من هيمنة وضغط وانسحاق واستهلاكية مما يعد ضمن آثار النموذج العلماني الشامل، حتى فقد الإنسان المعنى[23]
- الفردانية/ ج. اللامسؤولية؛ جراء انغلاق الإنسان على ذاته وتمركزه حولها[24]، مع طغيان النيوليبرالية في الاقتصاد والتنمية، والأنانية[25].
- الامبريالية؛ التي تمثلت في الهجوم على الآخرين (فرض الشذوذ بالقوة والتطبيع معه ومونديال قطر خير دليل) إثر تنامي فكرة التكتل والتوحد = الجماعة الوظيفية[26].
بعد هذا، خلص الباحث إلى مجموعة من السيناريوهات المحتملة للظاهرة مركزا على أشدها خطورة بالنسبة لعالمنا العربي الإسلامي:
- زيادة معدلات الاستغناء الجنسي (استغنائية جنسية)؛ أي استغناء الجنسين عن بعضهما البعض، خاصة مع ازدياد معدلات الفردانية وخروج المرأة للعمل الذي صاحبه شيوع أفكار الحركات النسوية[27]، مما يؤدي إلى نزوع نحو الاستمناء والمضاجعة الاصطناعية من خلال الأعضاء التناسلية الاصطناعية والدمى الاصطناعية.
- روحنة الشذوذ الجنسي (حلولية جنسية)؛ بإعطاء الشذوذ الجنسي بعدا إيمانيا وتفريغ الممارسات الجنسية في قالب مروحن[28].
- سلعنة الشذوذ الجنسي وتشسيعه (سلعنة جنسية)؛ أي الاستثمار في قطاع اللذة الجنسية عن طريق نشر المجلات والأفلام الإباحية، والتحول الجنسي، والشبكة المظلمة أو العميقة.
- فرض الشذوذ الجنسي (إمبريالية جنسية)؛ إذ الفضاء المعلمن الذي يقفز ويتجاوز المرجعية المتجاوزة يجعل من الحرية وسيلة للانعتاق والخرق والتمرد، مما يدفع المنخرط في ممارسات جنسية منحرفة يحاول فرض نمطه الجنسي.
وفي الأخير وضع الباحث بعض الطرق “تطبيقات النموذج” لمواجهة السيناريوهات المطروحة مركزا إياها في أربع:
الأول: المسار الديني الأخلاقي؛ من خلال تفعيله في المناهج الدراسية، والمناشط الفنية والإعلامية، وتكوين جبهات دولية لمقاومة المواد الإباحية[29].
الثاني: المسار التربوي الاجتماعي؛ وذلك بتبني – مقترح المسيري- حقوق الأسرة عوض حقوق الإنسان، باعتبارها وحدة بناء المجتمع والحاضنة للإنسان[30].
الثالث: المسار التشريعي القانوني: بسن قوانين تجرم وتدين كل سلوك منحرف يخالف الفطرة السوية.
الرابع: المسار السياسي الاقتصادي؛ من خلال خلق تكتلات سياسية لإدانة الشذوذ، وفرض عقوبات مالية لكل “من يشارك في الترويج للشذوذ الجنسي في الأماكن العامة أو في الشابكة”[31].
على سبيل الختم
صفوة القول، يظهر جليا أن الكتاب أبان عن أطروحته بعدة منهجية رصينة، وعلمية دقيقة، وقراءته تفيد في فهم ما يجري في العالم عامة والمنطقة الإسلامية خاصة.
_________________________________________________________________________________________________________________
[1] _ ص 5.
[2] _ ص 11.
[3] _ ص 11- 12.
[4] _ ص 13.
[5] _ ص 14.
[6] _ ص 14.
[7] _ ص 14.
[8] _ ص 21.
[9] _ ص 22.
[10] _ ص 23.
[11] _ ص 24.
[12] _ ص 24.
[13] _ ص 26.
[14] _ ص 27.
[15] _ ص 27.
[16] ص 28 – 29.
[17] ص 42.
[18] ص 42.
[19] _ ص 50.
[20] _ ينظر: المسيري، عبد الوهاب. العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، ط 1، 2002م، 1/ 256-257.
[21] _ ص 53 – 54.
[22] _ ص 61.
[23] _ ص 67 – 68.
[24] _ ص 68.
[25] _ ص 70.
[26] _ ص 68.
[27] _ ص 77.
[28] _ ص 81.
[29] _ ص 97.
[30] _ ص 97.
[31] _ ص 101.