مدخل:
يعتبر التأصيل المفهومي والتمييز المنهجي والتقعيد الشرعي لقضايا التدين وواقع الناس ومعاملاتهم وأعرافهم وثقافاتهم من آكد المهمات العلمية والمطالب البحثية المنوطة بمجتمع الباحثين وجمهور الدارسين، وذلك لما لهذا الضرب من الدراسات من نتائج سَنية وعوائد مفيدة على الفهم والسلوك، ولما لها من أبعاد تجديدية وتصحيحية لتدين الناس، وخاصة الشباب المتحمس لدينه والمصطف في صف الدعاة إليه والمنافحين عنه.
ولا شك أن المسلمين في تدينهم متأثرون ببيئاتهم وأوساطهم الثقافية وتقاليدهم وأعرافهم المحلية، وهو ما يجعل عملية التدين مشوبة ببعض ذلك، والتمييز بين ما هو من الدين وما هو من صميم الأعراف والثقافات أمر ضروري ترشيدا للتدين وتحصينا للثقافات من الاختراقات، وهو ما سنتعرف على جزء من تطبيقاته في كتاب الدكتور عبد الرزاق وورقية الموسوم بـ (التمييز بين الديني والثقافي في تدين المسلمين)، وهو كتاب فريد في بابه، وضع اليد على مكمن الداء وشخصه تشخيصا علميا، وأبان عن تمفصلاته واشتباكاته، ومواطن مفترقاته.
السياق الفكري لتأليف الكتاب:
إذا نظرنا بعين الفاحص المتبصر والناقد المتحرر في أشكال الانحراف التي تشوب التدين، خاصة في البيئات الغربية، وأجَلْنا الفكر في ما يصلنا عن طريق وسائل الإعلام من سلوكات وتصرفات تُضفَى عليها صبغة الدين وحلية الالتزام وتُعلل بالحرص على الثوابث، إذا تأملنا كل ذلك، لاح لنا سياق تأليف الكتاب، المتمثل في انهمام المؤلف بقضية ترشيد التدين، والعمل العلمي الرصين والهادئ لإصلاح معاقد النظر والبُنى التصورية والأنساق الفكرية التي تتبرعم في سلوكات ومظاهر تُخفي ما تستبطنه من خلل في الفقه وقصور في النظر.
ومن ثم، فعلاج هذه المظاهر والتجليات لا يفيد في شيء، بل لا بد من حفر في عمق الداء ومأتى الخطل، وعليه؛ فالكتاب يأتي في ظرف حرج جدا، ومنه أهميته من حيث إسهامه في رصد خلل جلي في إدراك المسافة بين النص والواقع.
مضامين الكتاب:
تحوي صفحات الكتاب مقدمة وثلاثة مطالب ثم خاتمة، وسنعرض في هذا الحيز لأصول قضاياه ومهمات مضامينه، على أن الاستفصال فيها لا يغني عنه سوى مراجعة الكتاب بتمامه وكماله.
أما المقدمة فقد بسط فيها المؤلف سبب تأليفه للكتاب ومقاصده منه، فأما سببه فهو ما سجله على بعض المسلمين –وخاصة في ديار المهجر- من “خلطهم بين كثير من الأمور المتشابهة ظاهرا والمتباينة حقيقة، كخلطهم بين الأمور التعبدية والأمور العادية، وعدم تمييزهم بين الامتثال للتعاليم الدينية بقصد التعبد والتوسل بالتدين لأغراض مناقضة للقصد الشرعي، وجمعهم بين الإيمان بأمور الغيب السمعية والاعتقاد في الأوهام والخرافات والأساطير، وتسويتهم بين قراءة القرآن تعبدا ورُقية، وبين قراءته على طريقة الشعوذة والسحر”[1]، إلى غير ذلك من القضايا التي غاب فيها التمييز الشرعي فقها وعملا.
أما مقصد الكتاب فهو التنبيه على هذا الخلط المقصود وغير المقصود، وتنبيه الباحثين وشحذ هممهم لـ”فك الإشكال الواقع نتيجة عدم التمييز بين الثقافي والديني في السلوك الديني الإسلامي، وتصحيح مسار التعبد وفق مقاصد الدين، كما هي مستقرأة من الأدلة الشرعية الثابتة، والتمييز بين ما هو مقصود شرعا، وما هو عادي ثقافي معفو عنه”[2].
وقد تناول الكتاب في مطلبه الأول التحديد المفهومي لكل من مصطلحي (الديني) و(الثقافي)، وذلك بنوع من التتبع لمواردهما في الوضع اللغوي والاستعمالات الشرعية والمواضعات البشرية، مع التركيز على الاستعمال الاصطلاحي المعتبر عند المؤلف نموذجا تفسيريا يحاكِم إليه مضامين الكتاب وتنظيراته وخلاصاته.
وقد استقر رأي الدكتور عبد الرزاق في مفهوم (الديني) على الإبقاء عليه في عمومه دون تخصيص، فالدين عنده ما يَدين الناس به من الأديان السماوية المعروفة والمنشترة بين صفوف أهل في الغرب على جهة التخصيص، ولا يقصد من هذا التحديد تمييع المفهوم بقدر ما يؤم إلى تناوله في سياق التعايش والتساكن بين أهل الديانات في مجتمع واحد، على أنه حين ناقش قضايا المسلمين في هذا الكتاب فإنه يحاكمها بقواعد شريعة الإسلام ومقاصده.[3]
أما مفهوم الثقافة عنده فهي مرادفة لما عند الفقهاء من الأعراف والعوائد، وقد عرج على هذا الترادف الاستعمالي مستقرا على كون الثقافة “بمعناها العملي هي طريقة مجتمع ما في عيشه، ومأكله، وملبسه، ونومه، وحياته، وموته، وفرحه، وحزنه، وبنيانه، وفنه، وغنائه ورقصه واحتفاله …”[4]، منبها على أن علاقة الدين بهذه الأعراف والثقافات مبنية على التهذيب والتشذيب، لا على الإقصاء والإبعاد، وهو معنى مؤسِّسٌ -عند المؤلف- لقضيته التي سيدافع عنها في قابل المطالب.
وقد جعل للسلوك الثقافي أو الأعراف ثلاث حالات في علاقتها بالشريعة الإسلامية:[5]
- الحالة الأولى: هي حال الموافقة لمقاصد الدين.
- الحالة الثانية: هي حال المخالفة لمقاصد الدين.
- الحالة الثالثة: وهي دائرة الأعراف الثقافية المسكوت عنها.
وبعد هذا التأصيل المفهومي، شفعه المؤلف بضبط قاعدي ونسقي، وذلك ليحصل التمييز المنهجي بين الديني والثقافي ولا يقع الخلط بينهما في تدين المسلمين، ويمكن إجمال ما قدمه الدكتور من ضوابط في الآتي:
أما الديني، فضوابطه أربعة، نوردها دون شرح، اختصارا ومراعاة لطبيعة هذه المراجعة:[6]
- الضابط الأول: ورود الدليل الصحيح على كونه من التكليف.
- الضابط الثاني: أن يثبت فيه نمط ديني متبع.
- الضابط الثالث: أن يكون من شرط صحته قصد التعبد.
- الضابط الرابع: أن يظهر في الفعل وجه للتعبد به غير خصوصي.
وهي ضوابط متشبعة بالفكر الأصولي والمقاصدي المنطلق من النصوص الشرعية ومن خلفية المؤلف العلمية، ولا شك أنها ضوابط تختزل تفاصيل وتفاريع يمكن الرجوع إلى مظانها في متن الكتاب.
ثم بين الكتاب ضوابط السلوك الثقافي، وهي:[7]
- الضابط الأول: اختلافه باختلاف الأقوام والمجتمعات.
- الضابط الثاني: لا وجه للتعبد فيه في ذاته.
- الضابط الثالث: ليس فيه نمط ديني موحد يتأسى به.
- الضابط الرابع: التعلق الشديد للناس به.
أما المطلب الثالث والأخير من الكتاب، فقد خصه المؤلف لجرد المقتضيات اللازم استحضارها حين التمييز بين الديني والثقافي في عملية التدين الفردي والجماعي، وهي مقتضيات يمكن وصفها بالقواعد الشرعية الواجب الاحتكام إليها لحصول التمييز المطلوب، ولكون هذه المراجعة لا تقصد إلى تلخيص الكتاب بتفاصيله كلها، نلمع إلى هذه المقتضيات جريا على السَّنن المتبوع فيما سبق:[8]
- المقتضى الأول: تحكيم الكليات المقاصدية في الترجيح بين الثقافي والديني.
- المقتضى الثاني: ضرورة التمييز بين العادات والعبادات.
- المقتضى الثالث: التمييز بين بعض الوظائف الشرعية.
- المقتضى الرابع: ضرورة الانخراط في التحضر المجتمعي المعاصر.
ثم ختم المؤلف كتابه بتقرير خلاصته المستفادة منه والمحمولة على أنها المقصد الأساس من تأليفه، وهي أن “الإسلام بوصفه الدين السماوي، البالغَ إلينا كتابُه بالمعجزة والتواتر، لم يكن أبدا في يوم من الأيام معرقلا للفعل الحضاري، بل بالعكس من ذلك كان مُنشئا لحضارة مستقلة بذاتها ابتدأت بالأمر بالتعلم واستمرت بأوامر الاعتبار في الكون والتفكر والتعلم والحجة والحكمة، {إقرأ}، وساهمت من جانبها في تطور الحضارة الإنسانية، وقد شهد بهذا العقلاء من الناس شرقا وغربا ومن لدن جميع الأمم”[9].
مرجعية الكتاب:
توسل المؤلف بعُدة منهجية ورصيد ببليوغرافي متين، وذلك أنه اعتمد الدراسة المفهومية والسياقية لتحديد حقائق مفردات كتابه، والتمييز بين استعمالاتها، والإبقاء على ما يخدم مقصد الكتاب منها، فاستعان بمنهج المقارنة والتمحيص للمفاهيم، فضلا عن توسله بعُدة علمية وخلفية منهجية أصولية وفقهية أسعفته في عملية النقد والتمحيص والترجيح والاختيار.
كما أن الكتاب نهل من مؤلفات متنوعة المشارب متعددة التخصصات، جامعة بين كتب تأريخ العلوم، ومظان الحديث، ومصنفات الفقه، ومجامع القواعد الفقهية، والنوازل العملية، فضلا عن كتب لاتينية من مشارب متنوعة؛ ومعنى هذا أن الكتاب حوى عصارة موضوعه واستقاها من مظان أصيلة، وهو ما انعكس بالإيجاب على أفكاره ومضامينه، وساعد على البلوغ إلى مقصده وهدفه.
قضية الكتاب:
يمكن تحديد قضية هذا السفر المختصر في صفحاته المتسع في دلالاته، في ما يمكن الاصطلاح عليه بأجواء التدين العام، في بلاد المسلمين وخارج بلادهم، مما يسمى دار المهجر، وذلك أن تدين المسلمين في بلاد الغرب خصوصا، شابه نوع من التداخل والامتزاج والخلط بين تعاليم الدين الأصيلة وما استصحبه المسلمون من أعراف وتقاليد وثقافات، فصار التدين في الظاهر ثقافة والثقافة دينا، فصعب التمييز بينهما عند المتدينين أنفسهم، فنتج عن ذلك سوء فهم وإفهام للدين.
ومن ثم، سعى المؤلف إلى فك الارتباط بين التدين باعتباره ممارسة اجتهادية لتنزيل مبادئ الدين وأحكامه وتمثلها في الواقع المعيش، فرديا وجماعيا، وبين الأعراف والتقاليد والاختيارات الثقافية التي هي منتج متولد عن تفاعل مجموعة من المعطيات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والبيئية.
ورافع بقوة من أجل بيان أن عدم الوعي بتلك التمايزات يوقع في الغلو والتطرف ويسيء للدين والتدين، بل ويباعد بين غير المسلمين والإسلام.
تقويم عام:
يعد الكتاب إضافة نوعية إلى المكتبة الإسلامية، على صغر حجمه، لكنه غني ببعده النقدي وأفقه الاستشرافي ونفسه الاستشكالي.
وما أنفع النقد الذي ينبثق من داخل المنظومة، فهو مؤشر سليم على احتواء الكيان على الخلايا الحية المُمكّنة من بناء المناعة واستعادة المبادرة.
أسعف استبطان المؤلف للرؤية الكلية والأبعاد المقاصدية في الإجابة عن الإشكال المطروق، وأبان عن أهمية الدرس الأصولي في صيانة الفكر من الزلل وحفظ السلوك من العوج، وفتح أمام الباحثين آفاقا رحبة لارتياد قضايا معاصرة تعتبر من واجب الوقت، والتي تستدعي تضافر جهود الباحثين لمعالجتها المعالجةَ العلمية المكينة وفق قواعد العلم وأصوله.
استعمل المؤلف جهازا مفاهيميا ساعد على حسن إيصال الفكرة وإيضاح القضية، لتحقيق التواصل المثمر مع القارئ، بعيدا عن لغة التجريح والتقرير.
كما نلحظ بشكل ملموس أن الأفكار بنيت بطريقة منطقية سلسلة، متراصة ومتماسكة، فأفضت إلى نيل الطُّلبة المرتجاة.
على سبيل الختم:
انطلاقا مما سبق، يتضح أن الكتاب أبان عن قضيته النقدية والتصحيحية لفهوم وتطبيقات تدينية بعُدة منهجية قويمة وخلفية علمية متنية، مما يؤهله إلى أن يكون مرجعا للباحثين في الموضوع، وبابا مشرعا لهم على قضاياه، لمزيد من البحث والتنقيب والتأصيل والتفريع؛ غير أن المقصد من الكتاب وإن بدا نظريا من جهة، غير أن وجهته عمليةٌ لما يتسم به موضوعه من واقعية تلح على مزيد من الترشيد في التدين والتصحيح لواقع أهله بين المسلمين وبين غيرهم.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين.
الفهرس
[1] – (ص 8).
[2] – (ص 9).
[3] – (انظر: ص 12-20).
[4] – (ص 21).
[5] – (ص 23).
[6] – (ص: 24-29).
[7] – (ص: 32-46).
[8] – (ص: 52-59).
[9] – (ص 66).