أولا : البطاقة التقنية للكتاب .
العنوان: الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر.
الكاتب: د طه جابر العلواني (رحمه الله).
الناشر: مركز دراسات فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد بالتعاون مع دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
عدد صفحات الكتاب 291 من الحجم المتوسط، وعدد فصول الكتاب: ستة فصول.
سنة النشر: ط 1 / 1424ه – 2003 م.
ثانيا: أهم القضايا المثارة في فصول الكتاب.
مقدمة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا هو عبارة عن دراسات و أبحاث، يعالج طه جابر العلواني ( رحمه الله) في جملتها
- أطروحة تمثلت في”قضايا التعددية والتنوعية، والخصوصية والعالمية، وثنائية الأنا والآخر؛ الآخر الداخلي والآخر المختلف، من منظور فقهي، تلتمع في ثناياه رؤية منهاجية معرفية”[1]،استطاع بيان خصائصها في مستوى أول: التأكيد على تجاوز الفكر الإسلامي في وقت مبكر( المقصود هو التجربة النبوية والخلافة الراشدة ) للثنائية بين ما هو خاص وشخصي، وما هو عام عالمي، فاستوعب الكثير من العناصر الموروثة من مختلف الحضارات. وفي مستوى ثان: قدم نقدا واعيا لثغرات المواقف الفقهية كما رصدها عند سلف الأمة، فمنع من الوفاء بالدور المنوط به، فعجز عن الاستئناف. وهو ما عكس حالة التوتر والقلق اللذين دفعا به إلى “تقديم مادة غنية حول الخصوصية والعالمية، من أجل رأب الصدع وتجاوز الانفصام الذي “تنتمي إليه الذات “الأنا” التي تنتمي إلى الماضي، بينما ينتمي فيه حاضر الذات إلى “الأخر”، وضعية يجد فيها “الأنا” العربي نفسه يتحدد بماض يريد تجاوزه وبحاضر لم يعد بعد له، الأمر الذي يشعر بفراغ على صعيد الهوية”[2].
بفكر مشبع بمرجعية قرآنية، وبموازاة توظيف علمي للعناصر الحية من التراث، واستدعاء قيمه الإيجابية، يمكن إعادة إنتاج مفاهيم الخصوصية، والعالمية، والتعددية، والتنوعية، والأمة، والحاكمية، والمواطنة، للمناقشة والبحث والتحليل فكانت أبرز ملامح المنهج الموظف:
- أنه انتهج الاستقراء والمقارنة والتحليل التاريخي.
- أنه رام بيان المنهجية المعرفية القرآنية بمحدداتها وخصائصها في معالجة إشكالية الأنا والآخر، ما يعطي للكتاب أحقيته في رسم علاقة واعية مع غيره من الأنساق المعرفية الموافقة أو المغايرة من حيث مرجعية استمدادها.
- أنه استدل بالأبحاث والدراسات الأصيلة داخل نسقها الحضاري سواء صدرت عن مسلمين أو غير مسلمين كالمستشار طارق البشري، وأبو القاسم حاج حمد، وروجي جارودي، وصمويل هنتهجتون..
- ويهدف المؤلف إلى “نقد الصور النمطية المشوشة والمشوهة لواقع الإطار المرجعي الإسلامي في الفكر الغربي والإسلامي في أفق تصحيح وضعها المعرفي وطرحها كمشاكل وليس كإشكالات أي إعادة طرحها منظمة غير مشوهة ومشوشة.
- أفكار الكتاب ومضامينه المركزية:
“التعددية..أصول ومراجعات بين الاستتباع والإبداع”[3]
لا أحد ينفي أن أفضل ما عرفته البشرية من التعدد في العروق والأديان والمذاهب والألسن والألوان كان في عالمية الإسلام الأولى “حين أخرج الله العربي للناس كافة حاملا القرآن المجيد يخرج به من يشاء من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، فأدى العربي هذه المهمة التاريخية دون استعلاء ذاتي، ومن غير أنانية فردية أو قبلية أو قومية، لأن القرآن كان قد أخرج العربي من مطلقه الفردي ليبني الجماعة المؤلفة”[4].
وهو ما دفع المراكز البحثية الغربية المعاصرة، في إطار المركزية الغربية إلى الاهتمام (يمثل تجديدا وتراكما للتراث الاستشراقي) بقضايا العالم العربي والإسلامي، وتنظر إليهم “على أنهم الخطر الداهم الذي يمكن أن يحبط سائر الجهود الحضارية للمركزية الغربية التي تحاول أن تعيد تنظيم العالم من جديد وتفصله على مقاس قبضتها الحديدية فتذيب سائر خصوصيات الأمم والشعوب بحيث تعطيها فرصة ونعمة الاندماج بحضارة وثقافة المركز ذي القابلية المدهشة على الاستتباع”[5].
إن الكشف عن مسألة اللغة العربية وأهميتها في فهم وتأطير التعددية ارتبطت أولا: بالهوية العربية ف ” كانت قبل الرسالة الخاتمة مجالا لتجسيد الذات والتعبير عن التميز والتفوق والتعالي الحضاري”[6]، وتمثلت ثانيا: في نسبية تموقعها من القرآن المجيد الذي نزله الله تعالى بلسان عربي مبين[7].
إن التعامل العضي والتجزيئي أمام هذه الظاهرة الفريدة أدى “بالعربي إلى فقد قدرته على الامتداد العالمي الكوني وإحساسه بدوره الرسالي الممتد، وفقد الإسلامي الإحساس بعالمية الرسالة التي وصلت إليه واستحالة احتواء خصائصها في إطار إقليمي أو قومي أو شعوبي أو جغرافي..”[8].
إن غياب الدراسات التحليلية والمقارنات الحضارية بين شبكة المفاهيم والأفكار والتصورات والمصطلحات التي اشتمل القرآن عليها وأبان عنها، قد حال بيننا وبين اكتشاف الأبعاد الهائلة للثورة المفاهيمية والفكرية التي أحدثها القرآن المجيد في الوعي العربي بحيث أحدث فيه ذلك التحول الداخلي وأعيد تكوينه وإخراجه من مطلقه الذاتي والقبلي لتهيئته لامتداد رسالي عالمي كوني لا يتوقف حتى يرث الأرض عباد الله الصالحون ويغمر الهدى والحق الأرض كلها”[9].
لا شك أن ” التعددية ” كمفهوم غربي يمثل جزءا من منظومة مفاهيمية انبثقت عن “المنهاج المادي” كقاعدة فكرية، ونشأت تدريجيا في إطار استمدادها الإغريقي القائم على نمط العلاقة المضطربة بين الإنسان وبين إلهه. كما أثر المنهج المادي الذي ولد “فكرة النسبية” في الاستبعاد التام لمفهوم النبوة من العقل الإنساني والوجدان البشري[10]، فانتفت بذلك فكرة التقديس للأفكار بقدسية مصادرها.
لم تكن فكرة “التسامح” كافية في استيعاب التعدد والحيلولة دون الاختلاف والتنازع بأفضل من “فكرة النسبية” التي أفرزت مشكلة انتفاء مبدأ انقياد الإنسان لعقيدة أو فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة. فوقع التناقض بين الحرية المطلقة في إنشاء الأفكار والفلسفات، وبين حاجة المجتمع إلى نظم موحدة،[11] الشيء الذي سارع بظهور “الديمقراطية” كوسيلة للحفاظ على التوازن بين القوى بحيث يصبح انتشار السلطة وتوزيعها تعبيرا واقعيا اجتماعيا واقتصاديا عن مبدأ “تعدد الإرادات”، ومبدأ ” المشاركة السياسية”، دون اللجوء إلى العنف أو إلى فرض النفس بالقوة بطريق الثورة أو الانقلاب، ودون حاجة للخروج على الشرعية”.[12]
لا بد من التنبيه إلى خطورة استيراد المفاهيم الغربية (التعددية والحداثة والنهضة والتنمية والديمقراطية وغيرها)، وإضفاء اللباس الشرعي عليها بحشد الآيات والأحاديث والأصول والفروع الفقهية؛ بحجة أنها حالة واقع فرضت نفسها على العقل العربي المسلم وبدأت تضغط عليه لقبولها وتبنيها، والعمل على تقليده في أشكالها، دون ملاحظة لأية شروط أو مواصفات أو ظروف أو خصوصيات، تقتضي ضرورة ملاحظتها أجملها في ملاحظتين:
1 – أن التركيز على المدخل السياسي بدل المعرفي في فهم التعددية، يؤدي إلى الغبش والاضطراب في التصور العربي الإسلامي، بحيث يؤدي إلى تفكيك العرى والأواصر الفكرية والاجتماعية ويمكن من تكريس مزيد من الهيمنة والاستتباع، وغالبا ما تكون تداعياته الإقصاء ثم العنف والعنف المضاد.
2 – أن التعددية من المدخل المعرفي تفضي إلى التسليم والإدراك الواعي باختلاف الناس وبأولوية الاعتراف بأن لجميع البشر الحق الكامل في الحياة والكرامة الإنسانية، وأن الاعتراف بتعدد إدراك الحقائق يكون وسيلة تدافع بين الناس تستلزم الحوار والتعارف تبعا لتنوع المصادر المعرفية والأنساق التي تصدر عنها.
يؤكد الكاتب على أن تكون تلكم المفاهيم عامل دفع إيجابي يحقق للأمة حركيتها وفاعليتها الحضارية، ومن هذا المنطلق نحت العلواني مفهوم “التنوعية” بديلا عن مفهوم التعددية، وفي ذلك يقول:” إننا نختار التنوعية مفهوما عربيا إسلاميا بديلا عن التعددية: فالتنوعية لها جذورها وأصولها العربية الإسلامية، فهي تعتمد على جذر فلسفي عميق قائم على أن الله تعالى قد خلق الكون متنوعا، وكذلك الإنسان المقابل له”[13].
إن منهجية القرآن المعرفية في كيفية التعامل مع مستويات التنوع الفطرية والكسبية إزاء الكون والناس موجهة في المستوى الأول: بمحدد منهجي تجلى في تسخير الله تعالى الكون للإنسان لتلبية متطلباته، بينما تمثل المحدد الثاني على مستوى التنوع الإنساني في قصدية التعارف المؤدية إلى التآلف ثم التآخي والنافية للتناكر والتخالف والاختلاف”[14]. مصداقا لقوله تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير”[15].
وفي هذ الإطار يمكن الحديث عن “الشورى” كمفهوم بديل له أصالته وقدرته الكبيرة على أداء وظائف الدمقراطية كلها، ليس فقط كونه مدخلا وقائيا لاستيعاب القوى دون عنف وتحقيق للتوازن بينها، وإنما كطاقة تحقق من خلال ارتباطها بشبكة المفاهيم الإسلامية المتعاضدة معها ( التعارف والتآلف والتآخي والتعاون ) حماية “للأمة الوسط والأمة القطب”[16]، لتقوم بتكاليف الشهادة على أساس عالمية كونية شاملة تؤلف بين البشر كلهم في إطار من الهدى ودين الحق.
يعطي الكاتب تشخيصا مقارنا بين ماضي تبطل الأمة وتدهورها وبين ترواحها في عصرها الحالي ليخرج بسمات ثلاثة أساسية: “الأولى: تمثلت في كون الأمة لم تبحث في ماضيها عن بدائل خارج إطارها المعرفي وهويتها الحضارية الإسلامية. والثانية: أن مكونات التجديد المختلفة في الأمة لم ينكر بعضها على بعض وكان تعددها استئنافيا في مراكز حضارية مختلفة في دمشق وبغداد والقاهرة والأندلس واسطنبول. والثالثة: أنه لم تقع مفاضلة أو تمايز بين الشعوب المكونة للأمة بين العربية وغيرها”[17].
في حين عرفت سمات التدهور في العصر الحالي الارتداد إلى الأصول الضيقة الإقليمية والعرقية وبالتالي تمزق الكيان الاجتماعي للأمة وظهور إسرائيل كدولة، واتخاذ بدائل وضعية تنبئ عن هيمنة النموذج المعرفي الغربي ودخول الأمة العربية مرحلة الإدماج”. وقد مرت هذه المرحلة بأربعة مراحل:
أ – مرحلة تطويق أقطارها وعزلها، وتدمير إمكانات التواصل بينها.
ب – مرحلة التغلغل الشامل وفرض التبعية الشاملة.
ج – مرحلة الهيمنة العسكرية للتهيئة لبناء أجهزة التغيير والإشراف على عمليات التفكيك، وإيجاد الأنظمة التابعة القادرة على مصادرة احتمالات التغيير باتجاه إعادة بناء الأمة.
د – مرحلة الإذابة التامة والإدماج الشامل المنبثقة عن اتفاقية “سايكس بيكو”، ثم النظام العالمي الجديد”[18].
يعتقد العلواني أن “الأزمة الفكرية والمنهجية “، لدعاة التقدم والتحديث جعلت أول ما جعلت الإسلام في إطار الأنساق المغلقة التي تفترض أول ما تفترض تحريره من خلال عملية إلحاق وتبعية ترسم فيها نماذجه المعرفية كما تفرض أنماط حياته الاستهلاكية اليومية من أكل ولباس وغيرها.
يختم العلواني فصله بسؤال ملح يتمركز حول “ما هو الحل ؟ “[19].
وفي خضم مقاربته للإجابة يوجه نقدا لاذعا للنخبة من أبناء الأمة الإسلامية ويدعوها إلى استثارة طاقاتها، وكوامن الحياة فيها لتسترد عافيتها وتستعيد فاعليتها، ويرى أنها ” تتطلب أول ما تتطلب إعادة اكتشاف مكونات الأمة ومقوماتها، وخصائصها العقلية والنفسية، وتشخيص المرحلة التي تمر بها، وأي خطأ في هذا التشخيص، أقل ما يترتب عليه تخلف الأمة عن دخول الدورة الحضارية. وتمضي عليها سنة الاستبدال”[20].
لقد أدت مختلف الحلول المقترحة من النخب داخل النسق العربي الإسلامي التي تلبست بأفكار النهضة والإصلاح والقومية والعلمانية الليبرالية والشمولية أو التي طرحت شعار ” الإسلام هو الحل” ضمن أدوات ووسائل الصراع الدائر حول السلطة. إلى الدخول في مرحلة جديدة سمتها العنف والتناكر والاضطهاد السياسي، كما أدت نتيجته إلى ضمور وغياب الأهداف الكبرى في رؤية الأمة[21].
لذلك يقترح الكاتب للخروج من هذه الأزمة تجاوز اعتبار الإسلام وسيلة وأداة لإدارة الصراع السياسي، لأنه كان دائما من حيث المنطلق المعرفي ” الركن الشديد الذي يمثل للأمة مرجعيتها في إعادة وعيها على أهدافها، وتوضيح الأولويات لها”. وبالتالي يمكن بهذا المدخل المعرفي وليس السياسي، تجاوز تلك اللاءات ( لا للعنف السياسي، لا للأصولية، لا لأعداء التخلف والتنمية والديمقراطية والتعددية السياسية) التي ترفع كلما نُوديَ حقيقة وصدقا بشعار ” الإسلام هو الحل”.
“الإسلام والتعايش السلمي مع الآخر”
حقيقة أن الإسلام يؤسس القواعد المشتركة للقاء بين بني آدم جاءت مع أبي الأنبياء إبراهيم، وبذلك يمكن الحديث عن نبوة وخلافة تتجاوز بقيمها العليا المشتركة نوازع الظلم والانحراف، كما تنفي كل ما يحمل على التفريق بين البشر والممايزة بينهم، بالاستناد إلى وحدة الأب آدم.
من هنا يرى العلواني أن مختلف العالميات التي عرفتها البشرية والتي غفلت بطبيعة أطرها المرجعية عن الرؤية السليمة لخالق الكون والإنسان والحياة، أدت إلى غياب المعايير والموازيين السليمة لبناء المشتركات التي توجه نحو التآلف والتعارف والتنوع والتآخي والأمن والسلام، فقام مقامها الصراع والتنابذ والإقصاء والإلحاق أو الإبادة.[22]
يتغير هذا الواقع المتأزم للإنسانية مع رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الخاتم “التي صدقت على تراث النبوات كلها وأعادت تقييمه كاملا نقيا مصحوبا برؤية شاملة للكون والإنسان والحياة أوضحت قواعد الاستخلاف والابتلاء والتسخير، ودعائم الاستقرار ومنطلقات السلام، لتقضي على كل وسائل سيطرة الإنسان على الإنسان. كما أوضحت أن الأرض كلها بيت للإنسان باعتبار إنسانيته. وأن في نور هذه الرسالة تنتفي عوامل التسلط والجبروت والكهانة والكسروية والقيصرية وسواها، لتحل محل ذلك كله ” نبوة رؤوفة رحيمة ” تعمل على تحرير الناس كل الناس من الإصر والأغلال وتجمع كلمتهم على كلمة سواء، فالرب واحد والأب واحد والأرض بيت واحد”[23]. وبالتالي كان ختم النبوة بمقتضى حاكمية الكتاب، طريقا لاكتشاف مفهوم “الخلافة الجديد على منهاج النبوة” فنأمن بذلك من تترس البعض ضمن ” معسكر ضال منحرف يدافع عن كلمات الطواغيت الفاجرة”[24] مثل:” ما علمت لكم من إله غيري” القصص 8. و” أنا ربكم الأعلى” النازعات 24.
ويسوق الكاتب جملة من المفاهيم (الكفر والإيمان / دار السلم ودار الحرب – دار العهد/ العلاقات الدولية / العقل الطبيعي / التفكيك)، ليبين أثرها السلبي على الممارسة الإسلامية في تعاطيها مع مسائل التعددية والتعايش والعلاقات المشتركة. قدم الكاتب نموذجين لذلك فعلق على نص مطول للإمام الشافعي في رسالته، وآخر للسرخسي في السير الكبير بين منطق التعضية والنظرة الضيقة السائدة لهذه المفاهيم والقضايا، فمن خلال الحديث عن حالة الأرض والعالم عند البعثة قسم الشافعي “الناس صنفان: أحدهما أهل الكتاب: الذين بدلوا أحكامه، وكفروا بالله، وثانيهما الكفار: الذين ابتدعوا ما لم يأذن به الله، ونصبوا بأيديهم حجارة وخشبا وصورا استحسنوها، ودعوها آلهة فعبدوها”، وحدث السرخسي أن ” النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا في الابتداء بتبليغ الرسالة والإعراض عن المشركين، ثم أمر بالمجادلة بالتي هي أحسن، ثم أذن لهم في القتال، ثم أمروا بالقتال بشرط انسلاخ الأشهر الحرم، فاستقر الأمر على هذا، ومطلق الأمر يقتضي اللزوم، إلا أن فرضية القتال المقصود بها إعزاز الدين”[25].
وعليه، فقد أرجع الكاتب سبب هذه التصورات الضيقة للعالم بعيدا عن الإطار العقدي الإسلامي إلى عصر التدوين، على اعتبار أنه في ذلك الوقت كانت الدولة التي تم بناؤها وورثت دولة الخلافة قد تعرضت لعمليات تدافع وجهاد أوصلتها إلى حالة من التمايز والمفاضلة مع أجزاء كثيرة من أمم الأرض؛ مما دفع بفقهاء المسلمين آنذاك ومفكريهم إلى تأصيل تلك الحالة الواقعة.
وبالاستناد إلى منهجية الجمع بين القراءتين يؤكد العلواني أن القرآن المجيد من أجل تجاوز هذه النظرة التجزيئية الضيقة حرص على إيجاد تعبئة نفسية لدى المسلمين مقابل تلك الحالات الشاذة التي لم تستجب لهدي من سبق من الأنبياء، وذلك ليستقيم الأمر ولو بعد حين، وتعود الإنسانية إلى الأصل الذي خلقت من أجله ونشأت عليه ألا وهو الإيمان بوحدانية الرب ووحدة الأب، ووحدة الأصل، ووحدة البيت ( الكون ) إضافة إلى وحدة الحق،.. “[26].
إن طبيعة العلاقات الدولية قبل الإسلام كانت “إما علاقة حماية أو علاقة تحالف، وما عدا ذلك فباقي العالم كله أعداء وديارهم دار حرب”. ويذكر سفر التثنية “حين تقترب من مدينة لتحاربها ادعها إلى الاستسلام فإن قبلت وفتحت لك أبوابها فالشعب الموجود فيها كله يسخر ويستعبد، فإن رفضت السلم معك ورغبت في الحرب، فحاصرها، وبعد أن يسلمها إليك إلهك الباقي الملك فحطم بالسيف جميع ذكورها، أما النساء والأطفال والأنعام فغنيمة”. وفي قانون روما “أن الأجنبي كان محروما في غير أرض دولته من الحقوق كلها الأصلية والثانوية فلا شخصية قانونية للإنسان خارج أرضه”. وأما المسيحية فإن انقسامها إلى ” مسيحية شرقية” وإلى “مسيهودية” آلت إلى “مسيحية غربية” ورثت تلك الأحلام قياداتها فيما عرف ب “حركة الأنوار” شيئا أساسيا واحدا هو النظر إلى الذات باعتبارها ” المركز والقطب والسند” والنظر إلى كل ما عداها باعتباره الهوامش ومصادر اللبن والعسل والأسواق، وبذلك لم يعد للأحاديث والأفكار التي كانت تصدر عن قيادات التنوير حول الإنسانية والعالم والرؤية العالمية من معنى إلا ذلك”[27].
وفي نظر الكاتب أن العلاقات الدولية في ظل الهيمنة الغربية ” كانت تقوم على أفكار بسيطة وساذجة في ما مضى، يسهل دحضها وتجاوزها، أما بعد ذلك فإن تلك الجهود لمفكري الغرب استطاعت أن تفلسفها وتجعل منها نسقا معرفيا ومؤسسيا له فلسفته ومناهجه ونظرياته وأحكامه المعيارية المصنعة، لتسقط من خلال ما سمته بعلوم ومعارف إنسانية واجتماعية نعوتا سلبية على أبناء الحضارات الأخرى خاصة أبناء الشرق من عرب ومسلمين”[28].
وهكذا فإن حركة تدوين المعارف التي تلبست بلبوس العالمية فصار دورها فيما بعد باعتبارها علوما إنسانية واجتماعية غربية هو التنظير والشرعنة لما يفعله ذلك الخليط الغربي العجيب المتمثل في الكنيسة الكاثوليكية والمواقف والنبوءات التوراتية والتلمودية والبروتستانتية والاتجاهات العلمانية والنزعات العقلانية والرومانسية..لتتم السيطرة على العقل الإنساني غير الغربي، بجعله بؤرة للاستبداد والتأخر والكسل والعاطفة البلهاء، والأوهام والسحر واللاعقلانية”[29]، سواء تمت السيطرة ب “إيجاد نخب وقواعد داخلية مصنوعة على المقاس وقابلة للاستعمار، أو من خلال الفتوحات الاستعمارية على حد تعبير مالك بن نبي” [30].
وفي المقابل يرى الكاتب أن “الرؤية الإسلامية” للعلاقات الدولية قبل أن تكون ضرورة شرعية، فهي ضرورة وجود وحياة، “فلا سلم ولا أمن ولا سعادة ولا طمأنينة للعالم إلا بأن تدخل البشرية كلها في “السلم” كافة وأن تتجه لتجاوز تلك الجراثيم السرطانية الخطيرة التي حفلت بها معارف الغرب التي تهيمن على عقلية العالم المعاصر”[31]. ولذلك فالدعوة موجهة إلى النخب في الأمة الإسلامية لإيجاد البدائل بالاستمداد من حاكمية الكتاب الكوني لإعادة بناء العلاقات الطبيعية وفقا لعالمية الهدى والحق[32] .
إن خط الاستقامة المتمثل في قيم التأسيس: التوحيد، والتزكية والعمران”[33]، يسعف على تجاوز الإقرار بالتعدديات الدينية والثقافية والحضارية كأقصى ما وصلت إليه الحضارة المعاصرة إلى استيعابها والتأليف بينها بعد الإقرار بها بما لا يسمح ببروز أية أسباب للصراع والتنابذ[34].
وبموازاة ذلك فلا بأس من التحذير من بعض العقبات في طريق السعي الإسلامي إلى هذا المستوى منها:
- الخطأ الذي ترسخ في أذهان بعض المسلمين من ضرورة اتباع ذات الوسائل التي اتبعت في عمليات الانتشار الإسلامي الأولى وهي الفتح.
- إقامة دولة كدولة المدينة لتكون قاعدة الانطلاق نحو العالم لإخضاعه للخليفة المسلم الوحيد، والذي عليه أن يحول أهل دار الحرب إلى مواطنين في دار الإسلام.
- تعلق الخطاب الإسلامي المعاصر في بعض توجهاته وتياراته بالوقائع التاريخية بما اعتبرته وسائل حفظ وحماية لكيان الأمة في التعبئة الدائمة والمستمرة لتحقيق أم الأماني وهي بناء الدولة والوصول إلى الحكم.
- التحذير من تصرفات يغلب عليها ردود الأفعال ناتجة عن ولع المغلوب بتقليد الغالب.
- تقديم الإسلام وقيمه في دائرة الحلال والحرام وفي إطار الفقه الموروث ومعارف عصر التدوين[35].
إن منطلق الدخول في السلم كافة وفق الرؤية الإسلامية الكونية /العالمية “كفيلة بتقديم منهج منضبط ونماذج معرفية قادرة على إبراز وتقديم القواعد الأساسية والقيم المشتركة التي يمكن للإنسانية أن تجتمع عليها، وهي قيم الهدى ودين الحق والتوحيد والعمران والتزكية والعدل والحرية والمساواة في ظل الأخوة الإنسانية”[36].
لقد تكهن صمويل هنتجتن بأن المرحلة الأخيرة في نشوء الصراع وتطوره على إثر الاختلاف في الدين -خاصة دين الإسلام- الذي هو “أثر جوهري في الصراع بين الحضارات – وأنه هو الدين الإسلامي – الذي يجعل هذا النوع من الصراع أطول الصراعات وأكثرها عنفا فإن العلواني يعتبر ذلك “ليس صحيحا وهذه المقالة من صمويل في دين الإسلام هي “سذاجة أو قصور تتسم بأنها استشراقية تقليدية، حرمته خلفيته وانتماؤه إلى حضارة الصراع والتنابذ الغربية الأمريكية، من رؤية أي جانب من جوانب الحضارات والأديان والثقافات غير الجانب الصراعي التنابذي الذي هو محور ارتكاز الحضارة الغربية”[37].
وعلى النقيض من هذا التصور الضيق القائم على الصراع نجد أن “جارودي قد تأثر بالمنظور العمراني الإسلامي فلم يتوقع صراعا بين الحضارات بل حوارا بينها يمهد للعالمية ويهيئ لها، فهو يؤكد أن ما اصطلح الباحثون على تسميته بالغرب إنما ولد في ما بين النهرين وفي مصر فهو لم يولد من فراغ، ولذلك يوجه لوما شديدا للغرب على جهله بمزايا وخصائص الحضارة الإسلامية خاصة، والحضارات الأخرى عامة ويدعوه لاكتشافها”[38].
يؤكد الكاتب في خاتمة فصله الثاني على ضرورة الفهم المنهجي والجمع بين القراءتين التي تفضي في اعتقاده إلى الاجتهاد الجماعي والعمل الجماعي لأنها “تعلم كيفية قراءة القرآن في كليته في تماثل وانسجام مع قراءة الكون الطبيعي في كليته، فهناك آيات طبيعية مبثوثة يكشف العقل نظامها الكلي، وقوانين ارتباطها وصولا إلى منهجها، وكذلك الأمر مع آيات القرآن حيث يكشف نظامها الكلي ووحدتها العضوية المنهجية”[39]. وبناء على التركيب الذي يستهدي بضوابط الكونية التي فصلها القرآن المجيد تتكشف أبعاد التفاعل والصيرورة المزيلة لكل سكونية في الفكر الإسلامي حاولت تجاوز ما كان من إشكالات وفقا لمنطق التوفيق والتلفيق والتفكيك”[40].
إن القول بضرورة ” الاجتهاد الجماعي” باعتباره مفهوما قائما على تكامل فروع البحث المعرفي ضمن الإطار الكلي لمعالجة الظواهر الإنسانية والطبيعية. هذا الاجتهاد الجماعي المتسع لكل مركبات الواقع ومناهج المعرفة يقلص لدينا حالات الشعور بإمكانية الإصلاح بالجهود الجزئية”[41].
وتبعا لمنهجية الجمع بين القراءتين، وعلى البنائية القرآنية، ثم على منهاجية السنة النبوية الكلية، يتسنى للأمة الإسلامية -في نظر الكاتب- تخليص مفاهيمنها التي تجتالها العولمة في طبيعة علاقاتها الدولية من حمولاتها السلبية التي ارتهنت إلى التاريخ أكثر مما ارتهنت إلى النص القرآني المطلق والمستوعب.
وكمثال قدم مفهوم الجهاد وهو عنده “مفهوم عبقري كسائر مفاهيم القرآن يمتد ليغطي مساحة كبيرة، فهو يتسع حتى يغمر السلوك الإنساني كله للأسرة والمجتمع والدولة والفرد، وهو لا يتوقف على القتال ولا على الحرب إنه مفهوم متصل تماما بمقاصد الشريعة وبالقيم العليا الحاكمة: التوحيد والتزكية والعمران، فكل قصد، أو نية، أو فكر، أو عمل، أو قول، أو تخطيط يصدر من أهله يستهدف تعزيز هذه القيم الحاكمة أو المقاصد العليا فهو جهاد”[42].
ومن خلال المنهجية المعرفية القرآنية التي تستند إليها محددات القيم الحاكمة، وعالمية الخطاب، وحاكمية الكتاب وختم النبوة، وشريعة التخفيف والرحمة، نفهم في نظر العلواني” أن الأرض من حيث كونها ميدانا لفعل العمران واحدة، والبشر من حيث كونهم مستخلفين لتحقيق العمران أمة واحدة، ثم تنقسم الأرض من حيث كونها دارا إلى دار إجابة ودار دعوة وكلاهما دار إسلام”[43].
“الإسلام والغرب: حوار أم صراع”؟
انطلق الكاتب من تحديد قبلي لمفهومين أساسيين هما ” الحوار والحضارة “، معتبرا أن بناء القرآن المجيد لمفهوم الحوار كان جزءا من بناء عقلي ونفسي لا يمكن الاستغناء عنه في حضارة المسلمين[44]. وعند بيان مقومات طرفي معادلة الحوار: الإسلام والغرب يرى أن “العمران” من أبرز مقومات وخصائص الحضارة العربية الإسلامية لأنها “قد امتلكت قبل نشأتها الأولى وأثناء بنائها وسيرورتها ذلك التداخل المتميز بين العربية والإسلام الذي جعل منها حضارة تأليف لا تدابر، وحضارة احتواء واستقطاب دون تسلط، وحضارة جمع دون دمج أو هيمنة، وحضارة سلام وأمن لا استعلاء فيها ولا استقواء، وحضارة إصلاح وعمران لا تخريب فيها ولا إفساد، وهي تؤمن للمنتمين إليها كرامتهم دون النظر إلى أي فوارق، لأنها منذ البداية وضعت سائر الفوارق في إطار التنوع الداعي إلى التعارف والتآلف حتى صارت حضارة عمرانية عديمة النظير. فهي حضارة بنيت على التوحيد فكان جوهرها وأساسها نحو الحقيقة الذاتية للإنسان”[45].
ويقدم العلواني في معرض هذا جوابا عن تساؤل من لم يفهم سبب إصراره على وصف حضارتنا بالعربية إضافة إلى الإسلامية؟ ولمثل هذا السائل يقول: “إن العربية والعروبة إطار لمجموعة من القيم الثقافية تتخذ من اللغة العربية مظهرا خارجيا يعكس تلك القيم ويعبر عنها، ولقد واكبت العربية الإسلام في انتشاره، وصارت الوسيلة الأساس في تعبير الإسلام عن نفسه وقيمه. كما صار الإسلام مضمونها ومدلولها، ومعناها ومغزاها، فاستطاع القرآن الكريم حمل العربية والإسلام معا لينطلق بهما في العالم الفسيح”[46].
وإذا كان في ظل هذا الإطار المعرفي العمراني الإنساني فهم المسلمون الأوائل الحوار باعتباره بحثا عن الحقيقة والصواب، فتمسكوا بقواعد وآداب الحوار مهما كانت النتيجة ما دامت قناعتهم ببذل الجهد واستفراغ الوسع في سعيهم نحو الحق والحقيقة كامنة في النفس. فما هي أسباب التي أقحمت الأمة في دوامة الأفول الحضاري الإسلامي؟
يبرز العلواني أن مسيرة التراجع والأفول الحضاري الإسلامي كانت بدايتها مع انفراط أواصر الحوار الداخلي بين القرآن والسلطان حيث “لم يعد القرآن مصدر تربية الأفراد الأول، عقلا ونفسا وخلقا وسلوكا.
وبذلك لم يعد ممكنا تكوين المجتمع به، ولا إقامة البنيان الثقافي عليه”[47].
هكذا جرت سنة الله بالتداول الحضاري فخرج ذلك المارد الغربي من عباءته السياسية بمفاهيمه الخاصة حول الحوار التي غذتها أطره المرجعية المتعالية ونظمه المعرفية الصدامية.
والحق أن العلواني في علاقة الغرب بالحوار قد ميز بين فريقين مختلفين: الأول ” أهل العلم والفكر الذين لم يكونوا بعيدين عن تصور المسلمين، كما عرفه “تيتلر” بأنه” طريقة إقناع تشوبها الكرامة في تعامل كافة الأطراف الذين وإن اختلفت آراؤهم، فإن مصلحة مشتركة تجمعهم، هي البحث عن أكبر قدر ممكن من الحقيقة التي يمكن لعقل أن يتوصل إليها عبر جو من الثقة والاحترام المتبادل”[48]. والثاني: حوار السياسيين الذي “يغلب عليه مفهوم لي ذراع الخصم، واستخدام كل ما تسمح به لغة الحوار السياسية من التواء في الخطاب ولحنه وفحواه، ولا يقتضي أن ينظر المحاور إلى من يحاوره بثقة واحترام، أو رغبة صادقة في الوصول إلى حل، بل يحاول القوي الاستبداد بالضعيف، وأخذ كل ما يمكن أن يؤخذ منه مع محاولة إيجاد شعور لديه بأنه أعطى ما اعطى مختارا”[49].
ولذلك يشترط الكاتب “التوازن في القوى” كضرورة أساسية لقيام حوار حقيقي بين أطرافه لأنه “إذا توازنت القوى كان هناك مجال للحوار، أما إذا لم يتحقق ولو قدر ضئيل من التوازن فويل للضعيف من القوي، وويل للفقير من الغني”، وبالتالي فإن ما يعرف بتوازن النمور أو الأسود”[50] هو فقط الضمانة الوحيدة للسلام، فعلى العرب والمسلمين امتلاك القدرة على التوازن مع الغرب حتى يمكن الحديث عن حوار غربي إسلامي”[51].
ومع أن هناك صعوبة في تحديد تاريخ دقيق للحديث عن النشأة المعاصرة لفكرة حوار الحضارات نجد الكاتب وبشيء من التجاوز يربط ذلك في الغرب بين “قيام عصبة الأمم وانتهائها وعجزها عن الحيلولة دون وقوع الحرب العالمية الثانية، ثم قيام الأمم المتحدة ونشأتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندها أحس العالم كله المنتصر والمغلوب بالحاجة الماسة إلى تحقيق سلام وبناء أمن عالمي”[52]، في حين كانت في رأي الكاتب نشأة حوار الحضارات في العالم الإسلامي “بشكل ساذج حين راجت لدى كثير من قيادات المسلمين ومفكريهم أن فكرة خصومة الغرب لهم خصومة مبنية على جهل الغرب بهم، وأن الحوار سيبني جسورا وسيعرف الغرب بالإسلام والمسلمين، ومن التعارف سيكون التآلف والتعاون وينتهي الصراع”[53].
ويرى أن نشأة هذه الفكرة في العالم العربي الإسلامي المعاصر ارتبطت بردود الفعل التي خلفتها مقالة صمويل هنتنجتن “حيث بدأ العقل المسلم والعربي ينشغل بهذه القضية وبدأت تستحوذ على أولوياته دون أن يكون ذلك نابعا من إحساس عربي إسلامي بضرورة الحوار مثلا، أو كونه ضرورة اجتماعية، أو إشكالية فكرية، ودون أن ينبع الطرح من داخل هذه المجتمعات، بل جاء من خارجها وألقي عليها”[54].
وبعد هذه الملاحظة المنهجية حول نشأة فكرة حوار الحضارات في العالمين الغربي والإسلامي المعاصرين أشار إلى جملة من النقاط التي يجب أخذها بعين الاعتبار، تمثلت أساسا في ثلاث نقاط مركزية على الشكل التالي:
أولا: أن مسألة حوار الحضارات والحوار العربي الأوربي جاءت بعد أعقاب حرب أكتوبر 1973، حين كتب روجي جارودي كتابه حول “حوار الحضارات” واعتبر أن الحوار وليس الصراع هو المخرج الأساس للغرب لتجديد ذاته والخروج من أزماته، ودعا فيه الغرب إلى ” التخلي عن غروره وغطرسته، ودعوته إلى إنشاء حوار مع الحضارات الأخرى وبخاصة حضارة القرآن، التي لا شك عند –جارودي- أن الحوار معها سوف يعود على الغرب وحضارته بفوائد لا تحصى، أقلها تخليص العالم من مركزية الغرب وأبعاده الأحادية”[55].
ثانيا: ضرورة التمييز بين الحوار من منطلقاته الفكرية الفلسفية التي أساسها قرع الحجة بالحجة بغية الكشف عن الحقيقة، وبين الحوار من منطلقات التفاوض السياسي الذي تحكمه عناصر القوة وليس الحق، وتهدف إلى تحقيق الغلبة والمصلحة. هذا التمييز في نظر العلواني ضروري “حتى يستطيع العرب والمسلمون تجاوز السؤال التالي: هل المطلوب عند العرب والمسلمين هو حوار حضاري يهدف إلى الحقيقة؟ أم هو عمل يحقق مصالح معينة لطرف، ويفرضها بمنطق وحق القوة وليس بقوة الحق؟[56]
ثالثا: حتى يمكن تأسيس هذا الحوار الحضاري على قواعد معرفية مستقيمة ينبغي التركيز على أهم القضايا الأساسية لحوار الحضارات والتي أشير الكاتب إلى أبرز ما ذكره الكاتب على الشكل التالي:
أ – اعتماد الحوار والهدف منه في السياق المعرفي الذي يعني الوصول إلى الحقيقة بالرغم من الاختلاف الحاصل حول الأفكار والقيم والمعايير.
ب – الحضارة ينبغي أن يتم تحديدها وفق القواعد والأسس الفكرية الثابتة التي تتضمن رؤية للعالم وتحدد الموقف من الإله والإنسان والكون والحياة.
ج – الاختلاف سنة من سنن الله في الكون، ومن ثم لا ينبغي السعي لتذويب الآخر.
د – الحوار الحضاري ينبغي أن يتأسس على حرية الاختيار والتعاون والتعايش والكرامة الإنسانية بدل القهر والإكراه وتزييف الوعي أو الغزو.
ه – الحوار الحضاري ينبغي أن يكون على مستوى الأسس والأطر المرجعية والأنساق المعرفية وليس على مستوى المنجزات المادية والنظم الإدارية.
و – رسالة الإسلام لها تجليات متعددة ومتنوعة وبالتالي لا ينبغي النظر إليها من منظورات ضيقة قومية أو إقليمية[57].
“فكرة المواطنة في المجتمع الإسلامي”
يرى الكاتب أن موضوع المواطنة التبس في فكرنا بمشكلة الهوية منذ بدأ احتكاكنا بالغرب في القرن الماضي، ولذلك أصبحت” هذه القضية من أخطر أدوات الصراع السياسي في العالم الإسلامي الحديث”[58]. ومن أجل إزالة هذا الغبش ونزع فتيل الالتباس يقدم نقدا منهجيا لأصحاب المشروع السياسي الإسلامي الذين حاولوا احتواء الضجيج من حولهم، فجاءت مشاريعهم بتبني مفاهيم المواطنة والديمقراطية والمجتمع المدني والتعددية السياسية، كما هي عند العلمانيين الدنيويين[59]، وذلك بمراعاة الملاحظات التالية:
- التنبه إلى المنطق الإسلامي الفكري الذي يعتبر الدعامة الأساسية للمشروع الحضاري الإسلامي الذي يقوم على ثوابت الإسلام، لا على متغيراته”[60].
- التنبه إلى أن استعارة المفاهيم من نسق حضاري مختلف له جذوره وأصوله وقواعده المغايرة، قد يكون خطرا مؤديا إلى كثير من الآثار في مختلف جوانب الحياة، وهو ما حذر مالك بن نبي منه في إطار حديثه عن الاستعاضة عن مبدأ التكديس، بقانون البناء: “علينا أن ندرك أن تكديس منتجات الغرب لا تأتي بالحضارة، وطالما بقي المجتمع الإسلامي عاجزا عن إيجاد البدائل الفكرية والمنهجية، التي تنسجم مع عقيدته، فهذا يعني أن المجتمع يعاني من التبعية والتخلف”[61].وفي معرض تفسير عوامل الارتباك الداخلي التي تؤدي إليها استيراد المفاهيم يقول: “العالم الإسلامي اليوم خليط من بقايا موروثة ،وأجلاب ثقافية حديثة جاء بها تيار الإصلاح، والحركة الحديثة، وهو خليط لم يصدر عن توجيه واع، إنما هو مجموعة من رواسب قديمة لم تصف من طابع القدم، ومستحدثات لم تتم تنقيتها. هذا التلفيق أنتج عالما منطو على ألوان من التناقض والتنافر تجمعت وتراكمت في هيئة فوضى”[62].
من هنا يدعو العلواني إلى وضع ضوابط مناسبة ومعايير ضرورية لهذا النوع من الاستعارة، أي استعارة المفاهيم من نسق مغاير وهي كالآتي:
1 – إن كلمة مواطن تعبير لم يظهر إلا مع الثورة الفرنسية عام 1789م، وقبل ذلك كان الناس ملل وقبائل وشعوب لا يتبر التراب وسيلة للارتباط بينهم.
2 – إن العلمانية الدنيوية استهدفت كل ما من شأنه أن يعوق مسيرتها ويحد من فاعليتها فأذابت الخصوصيات وأقامت نظم شاملة على أساس المصلحة واللذة والمنفعة الدنيوية لا غير.
3 – أن النسق المعرفي الإسلامي كان حريصا سواء في نصوصه أو ممارساته على حماية الخصوصيات الدينية والفكرية والاجتماعية وغيرها للفئات التي لم تقتنع بالدخول فيه.
4 – على أهل الاجتهاد من علماء المسلمين ومفكريهم الاسهام في بناء المشروع الحضاري الإسلامي مع التفطن دائما إلى أن كل الاجتهادات البشرية المتوصل إليها لا تمثل حقيقة الإسلام وجوهره وإنما هي إمكانات وتكليف للنفس في حدود الأدوات والطاقات والمتاحات بالشكل الذي ينفي الإنكار في مسائل الاجتهاد، ويحقق الاستئناف والتجديد.
5 – ضرورة إعادة مراجعة وقراءة ما تم إما إساءة فهمه أو إقراره كمسلمات في تراث الأمة الفقهي وعلى رأسها ما يتعلق بأحكام أهل الذمة وتقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر.
6 – العمل على تجاوز فكر المقاربات (الذي كان سببا في تهيئة نفوس الملايين من أبناء الأمة حالة الاستلاب إلى الآخر)، وفكر المقارنات ( الذي ساعد على الاستلاب إلى الماضي وتحقيق ما يمكن تسميته بالتقدم إلى الوراء )، التركيز على الاجتهاد والإبداع في إطار المنهجية المعرفية القرآنية وأسلمة المعرفة[63].
” مشكلتان وقراءة فيهما”
بعد أن بين الكاتب ما درج عليه المعهد العالمي للفكر الإسلامي من محاولة مفكريه فك خيوط الأزمة الفكرية التي تعانيها الأمة في الاعتقاد والسلوك والنظم الحياتية السياسية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية.
أشاد بالمعالجة المتأنية الحكيمة التي عالج بها المستشار طارق البشري مشكلتين انعكست عليهما أزمة أمتنا الفكرية المعاصرة واللتين تمثلتا في “مشكلة نظام الحكم ومشكلة أو كارثة الخليج التي يبدو فيها بوضوح الارتباط بالجذور التاريخية لأزمتنا الفكرية “[64].
فبالنسبة للمشكلة المتعلقة “بنظام الحكم”، أو ما اصطلح على تسميته بالديمقراطية، يرى د طارق البشري أن هذا التنظيم يحتاج إلى بنية أساسية يقوم عليها، وهي “الجماعة السياسية”، وهو يحتاج إلى مادة خام يشكلها، ومادته هي الأهداف العليا التي تنشدها الجماعة في مرحلة معينة، وأن مستقبل أي نظام وإن كان لا يتوقف على مدى كفاءة الأجهزة التنظيمية بشكل أساسي في نجاحه وفشله، إلا أن هذه الكفاءة ذاتها مشروطة بوضع الجماعة السياسية وما تتمتع به من قوة وتماسك وترابط، وهي مشروطة أيضا بالأهداف المجمع عليها، وهي مشروطة ثالثا بمدى كفاءة الأجهزة المؤسسية المساعدة، سواء كانت وحدات محلية أو نقابية أو مهنية، وهي مشروطة أيضا بمدى الترابط بين أجهزة الدولة التنفيذية والقضائية والتشريعية “[65].
هذه الشروط بالنسبة د. البشري هي دعائم أساسية لقيام نظام حكم ناجح قوي وعادل وديمقراطي، لكن أول ما يلاحظه في هذا الشأن أن عناصر ظرف ( نظام الحكم ) التاريخي الحاضر “في وضع تابع للقوى الغربية المهيمنة، بدأت مع أوائل القرن التاسع عشر بشكل معارك عسكرية، أعقبت ذلك مرحلة الاحتلال، فلما ظهرت حركات التحرير استعيض عن السيطرة العسكرية بالهيمنة الاقتصادية والفكرية والثقافية”، وثاني ما يلاحظه أن الضمير “نحن” بكل ما يعنيه عربا أو مسلمين أو إفريقيين أو آسيويين في وضع تجزئة سياسية جرت على مدى القرنيين الأخريين يفسد أية محاولة لتحقيق نهوضها، أو للمحافظة على استقلالها، أو نقض رباط التبعية”[66].
إن “الفشل في تحقيق الوحدة والاختلاف حول المفاهيم والأولويات، وافتقاد مناخ الحوار، والانفصام الحاصل في الشرعية الحزبية”[67]، من أبرز سمات القصور التي يعاني منها نظام الحكم في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، وتبعا لذلك يستند البشري في إمكانية تجاوز هذه المعضلات إلى ضرورة إدراك مقومات التصحيح التالية:
أولا: أن تستقر لدينا أصول المسلمات المتعلقة بالهوية العقدية الثقافية وبالتكوين التاريخي من مقومات تكون الجماعة السياسية، وما يقوم به تماسكها.
ثانيا: تحديد الأهداف العليا التي يجتمع عليها المجتمع في هذه المرحلة من تاريخه، وتتعلق بالحفاظ على هويته وعقائده وثقافته وأرضه ومصالحه الاقتصادية وحريته في التعبير والنهوض.
ثالثا: الإفساح لكل التيارات، في الوجود والمشاركة في وضع الصياغات العامة للنهوض بالمجتمع والمحافظة على هويته ووحدته واستقلاله[68].
بعد ذلك يعرض د. البشري أهم ما يمكن استخلاصه من دروس المشكلة الثانية المتعلقة ب” كارثة الخليج” ومنها:
- أن اجتياح بلد صغير لا ينبغي أن يكون أساسا لحق يدعيه بلد غازي، وإلا فسنكون نحن دول آسيا وإفريقيا أول من يعاني من ذلك.
- أن استبعاد مبدأ الاستعمار والضم بالسلاح من الأسس النظرية للشرعية ومن ضمانات وجودنا المستقل.
- أن القيادة الفردية (الديكتاتورية) تدفع إلى مغامرات سياسية فيها ما لا يحصى من الخسائر المادية والنفسية والفرص الضائعة “[69].
ومن الملاحظات العامة التي سجلها د. البشري في إطار مشكلة الخليج:
أولا: السمة المميزة للدولة بالنسبة لإمارات الخليج: أنها لا تتأتى من صغر المساحة أو قلة عدد السكان، إنما تتأتى من أن عدد الأجانب يفوق عدد المواطنين وهو ما يرتبط بحجم إنتاج يتحدد لا وفقا للاحتياجات الذاتية للمجتمع ولكن وفقا للمتطلبات الدولية. وبالتالي فإن المجتمع برمته” يقوم على درجة عالية ومرهفة من التوازن الذي يكفل الأمن والاستقرار والأداء الوظيفي الفعال، هو توازن بين عناصر التكوين القبلي العشيري المكون للجماعة الوطنية، وتوازن بين جماعات الوافدين العاملين من العرب. وتوازن بين فئات العمالة الآسيوية”[70].
وثانيا: بالنسبة للأوضاع العربية، ثم بالنسبة للجيوش العربية، والقوى السياسية العربية، والوجود الأجنبي[71] فإن د. البشري يلاحظ أن هناك تجاذبات وخلافات إيديولوجية إقليمية حول القاعدة والمحور الذي ينبغي أن يقوم عليه النضال العربي، يتصل من الأربعينات إلى الخمسينات ( بين محور هلال الخصيب :العراق ومعه بلاد الشام. ومحور مصر وبلاد الشام في أحيان أخرى والجزيرة العربية حيث كانت معظم دول المغرب العربي تحت وطأة الاستعمار)، ويتصل من الستينيات إلى السبعينيات في أزمة الخليج. هذا الاختلاف كان له في اعتقاد د البشري انعكاسات على مستوى تحريك الجيوش في حل أزمة الخليج مما أثار التساؤل عن طريقة اتخاذ القرار لهذه الجيوش المشتركة وعن الحد الذي ستظل فيه القوة العسكرية في الميدان رهينة بالإرادة السياسية لدولتها، خاصة مع وجود جيش أجنبي تمثل في القوات الأمريكية. كما أن أزمة الخليج كشفت النقاب عن علاقات التحالف والتخاصم أو التقارب والتباعد القائمة على النفعية بين القوى السياسية العربية في التنظيمات الداخلية بين أولولية التخلص من الاحتلال والنهوض بالأوضاع الداخلية وبين من يقول إن مكافحة الاستبداد والفساد الداخلي أولى.
بعد هذا قام العلواني بقراءة معرفية للمشكلتين للفت الأنظار نحو انعكاسات الأزمة الفكرية في جوانبها المعاصرة على واقعنا المعاصر، فأكد أن العقيدة هي قاعدة الفكر المتينة في تصحيح أفعال المسلم وتصوراته وبتأثير من أركانها تكون علاقته بعالم الشهادة وفاعليته فيه، “كما أن تبيين قواعد العقائد الإسلامية في عصر الرسالة وفاعليتها يشكل حجر الزاوية في وضع الأمة على سبيل التقويم والإصلاح”[72].
أ – قبل كارثة الخليج الأولى (المقصود الحرب البعثية الإيرانية):
كانت تحديات الأزمة الفكرية تدور حول قضايا وأسئلة منها:
1 – الوحدة: هل تكون إسلامية الأساس أو قومية؟ أيبدأ بها متدرجة بتوحيد المشرق ثم المغرب؟ أم تكون شاملة؟ أيخاطب بها العرب أولا، أم المسلمون؟
2 – هل يتم تقديم العدالة الاجتماعية أو النظام الاقتصادي الإسلامي؟ أو الاشتراكية العربية، أو الاشتراكية الماركسية؟
3 – كما طرحت الإسلامية أو الأصالة أو التراث أو الحفاظ على الهوية في مواجهة الاستلاب والتحديث والتغريب والعلمنة العصرية والحزبية في إطار مفهوم السفينة المشار إليه في الحديث النبوي الشريف، أو تؤخذ الديمقراطية بتطبيق سوفيتي أو أوربي شرقي أو أوربي غربي أو مطورة عربيا أو إسلاميا أو شورى ملزمة أو معلمة في إطار حزب واحد أو تعددية أو شورية قبلية”[73].
هذه القضايا والتساؤلات طرحت في مواجهة قضايا الحكم الفردي والاستبداد والقمع السياسي وإيجاد حل ما لمشكلة الإنسان المزمنة – مشكلة الحكم -.
ب – بعد الحرب البعثية الإيرانية:
كانت تساؤلات وقضايا تحديات الأزمة الفكرية تتجلى في:
1 – الطائفية: ما حقيقتها؟ وما طرق معالجتها؟ وهل هي مرتبطة بهيمنة الدين؟ أو هي مضافة إلى الدين لمصادرة وإيقاف صحوته؟
2 – الشيعة والسنة، العرب والفرس، الشعوبية والعروبية، أهذه كلها أحزاب سياسية تاريخية بالمنطقة؟ أم هي جزء من فاتورة حساب قديم طويل احتفظت به ذاكرة المنطقة التاريخية؟
3 – كيف الخروج من المأزق، هل يكون بتسنين الشيعة أم بتشييع السنة؟ أم بالتقريب بينهما؟[74]
أما ملاحظات العلواني حول تحديات الأزمة الفكرية التي ارتبطت بكارثة الخليج الثانية فهي في نظره امتداد لما بدأت به الكارثة الأولى من أسئلة وقضايا فتراكمت أسئلة متولدة منها:
4 – التساؤل حول الصحوة وحقيقتها: هل هي حركة تاريخية تمثل إحدى دورات التاريخ وسيكون لها ما بعدها؟ أو هي مجرد موجة تدين ونوبة زهد لمواجهة الأخطار؟ وهل الصحوة توجه ماضوي سلبي يستلب الإنسان ويلقيه في ماض لا يستطيع العيش فيه؟ أم هو تجديد سلفي وبناء يمكن من إعادة النظر والتدبر في مصادر هدايتها، وقراءتها قراءة المستهدي العازم على توظيف الماضي في إصلاح الحاضر واستشراف المستقبل؟
5 – أن كارثة الخليج الثانية نبهت إلى عمق تأثر أمتنا بالغرب ومتانة النزعات القومية والإقليمية التي رسم حدودها ما عرف باتفاقية سايكس بيكو 1916م.
وإذا كان العلواني يرى أن الأزمة الخليجية الثانية عن ضعف وقصور برامجنا الثقافية وضعف شعوبنا وانهيار مفهوم الأمة ثم بروز الفئات العلمانية، فإنه يدعو إلى ضرورة المشروع الحضاري الواحد “حتى تنتقل الأمة من مرحلة الوعي الكاذب إلى مرحلة الوعي الصادق التي لن تتم إلا بتجاوز الأمة حالة التمزق في صفوفها”[75].
ولذلك يدعو التيار السياسي الإسلامي إلى “ردم الهوة وإغلاق الفجوة بأن يؤكدوا أنهم فئات إصلاحية سياسية تنتمي لمجموع الأمة، وأن الإسلام ليس حكرا ولا ملكا، وأن اختلافهم مع غيرهم من الفصائل لا يعني اختلاف مسلمين مع كفار وأن الإسلام حجة عليهم[76].
أمنية العلواني هذه فيما يتعلق بتيار الإسلام السياسي تتحطم أمام الواقع المعاصر لمشروع “الإسلام هو الحل”، ذلك أن تفكير ومعتقدات هذا التيار لا تزال بعيدة عن إدراك عالمية هذا الدين وما يترتب عليها من قدرة على استيعاب التعدد والتنوع بكل أشكاله، ولذلك ينبغي” أن يتقدموا نحو بناء قواعد التعامل مع كتاب الله، وقواعد التعامل مع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتعامل مع التراث الإسلامي ما الذي يؤخذ وما الذي يترك؟ وبناء المنهجية السليمة في قضايا التعامل مع الآخر والعمل على إعادة بناء شبكة المفاهيم الإسلامية الأساسية التي أصابها الكثير من التغيير والانحراف”[77]. هكذا فقط يتم وفقه تجاوز ومعالجة الأزمة الفكرية.
احتفى العلواني بمفهوم “الأمة” فحاول إعادة بنائه من داخل النسق المعرفي القرآني فبين خصائصه بقوله: “فوحدة الأمة واستقلالها، ونهضتها، وعمرانها وشهودها الحضاري، وقوتها، وولاؤها للإيمان وأهله، وبراؤها من الكفر وأهله، كل تلك الأمور تعتبر مضمنة في مفهوم “الأمة” بمعناه الاصطلاحي، الذي استعمله فيه الشارع الحكيم، وربطه مفاهيم ذات بعد الإسلامي عميق كالأمانة، والاستخلاف، والخيرية والوسطية، والابتلاء والإعمار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير والإيمان بالله أولا وأخيرا، ويوم تفقد الجماعة عنصرا من هذه العناصر تفقد كونها” أمة” بالمفهوم الشرعي”[78].
ولذلك فإن زيادة بشرية عرقية أو إقليمية، تؤدي إلى أن “تطغى على أو تختزل خصائص العالمية والشمول فيها فيحدث تغيير في المفهوم الشامل، يشكل إعراضا لا تقبله طبيعة هذه الأمة، التي لا تقبل الفرقة وضعف الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، كما تأبى كذلك الذلة والجهل والظلم والطغيان”[79].
إن واقع الممارسة التاريخية المؤسف قد طغى بحمولاته على هذا المفهوم فكان فشل جل مشاريع الإصلاح حين “انفصل السلطان عن القرآن، وتفرقت الأمة، وتأصل فيها الانحراف السياسي بعيدا عن المنظومة الفكرية، فأخضع الناس للجبابرة باسم الاحتياط وسد الذرائع، وباسم الإجماع السكوتي ..والخوف من أخطاء الاجتهاد رسخ التقليد، وباسم الخوف على وحدة الأمة طولب بقبول إمامة الجور والجبر، وضمر الفقه الفكري والفقه السياسي والفقه الأصولي والمنهجي، لحساب النمو السرطاني للجدل الكلامي، والفقه الفروعي “[80].
هذه المآسي يرى العلواني أنها هي نفسها في مقالة “الشرق والشرقيون” للأفغاني، فــــ”حينما نقرأ كلمات السيد الأفغاني بكل ما فيها من مرارة فكأنما نقرأ حال الأمة في أيامنا هذه من حيث الخلق والسلوك والعلاقات بين الحكام والمحكومين، والأحزاب والجماعات وكذلك الأفراد، مائة وثلاث عشرة سنة مضت وحال الأمة كما هي لا يبدو أنها تغيرت، اللهم إلا إلى الأسوأ، والأزمة الفكرية لا تزال تحتل عقول وأذهان أبناء هذه الأمة وتقود خطاهم”[81].
وفي الختام يهمس العلواني “همسة أخيرة في آذان بعض أجهزة ورموز الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي، بأنه آن الأوان لأن يدرك الجميع بأن أفضل الضمانات وأقواها لأي نظام تلاحمه مع الأمة، وتوحيدها وكسب ثقتها، على دعائم الشرعية الحقيقية النابعة من إيمان الأمة وضميرها”[82].
“حاكمية الكتاب”
قبل أن يعقد الكاتب مقارنة بين الحاكمية في الديانات الإبراهيمية الثلاث فرق بين دراسة المفهوم ودراسة المصطلح معتبرا أن الأول (المفهوم) أعمق وأخطر من الثاني (المصطلح)، كما هو الحال في مفهوم الحاكمية الإلهية حيث ” يمثل جذرا فلسفيا وفكريا وثقافيا متشعب الفروع، ومتعدد الاتجاهات، يتصل بمصادر معرفة النسق الذي ينتمي المفهوم إليه. أما في حالة دراسة المصطلح فقد” يكفي الباحث أن يقوم بتحديد جذر المصطلح اللغوي والإلمام بمعانيه اللغوية ثم الانطلاق نحو استخدامات أهل الاصطلاح له في جوانبه المختلفة لبيانها والخروج بتصور للمصطلح وما يعنيه وما يدل عليه. قد ينتهي بعد ذلك بوضع حد جامع مانع له”[83].
لابد في دراسة مفهوم الحاكمية الإلهية من الإشارة إلى الشبكة التي يسدعيها إذ إنه” من الصعب إن لم يكن متعذرا أن يلم بمفهوم الحاكمية الإلهية دون فهم تلك الشبكة والإلمام بها، ومن هذه المفاهيم: مفهوم الدين ومفهوم العبادة، ومفهوم الحكم سواء أكان شرعيا أم تشريعيا، ومفهوم الألوهية والخلق، والخطاب والحلال والحرام، والمطلق والنسبي، والعام والخاص، والشرائع، ووحدة الدين، والأرض”[84]. كما لا بد من التنبيه إلى بعض المعالم الضرورية لفهم المفهوم منها:
أ – أن هناك إمامة بجعل جاعل هو الله سبحانه وتعالى، وهناك ظلم وعدل، كقيم لابد أن تعرف وهي دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال تعالى:” إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين”[85].
ب – أن فكرة الاصطفاء الإلهي لأداء مهام استخلافية محددة مرتبطة بالجعل الإلهي سواء اصطفاؤه تعالى للأفراد أو الأمم والشعوب يقول تعالى:” الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس”[86] وقوله تعالى:” إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين”[87].
ج – أنه لابد من النظر والوعي التاريخي في النظم القانونية والتشريعية والاجتماعية التي قامت على أساس حاكمية إلهية لأن ذلك يساعد على فهم طبيعة فكرة الحاكمية بإطلاق[88].
يناقش العلواني طبيعة التصور الإسرائيلي للحاكمية الإلهية باعتباره يصدر عن مبادئ أساسية يمكن أن نجملها كما يلي:
المبدأ الأول: أن الله قد اختار شعبه من بني إسرائيل، واختار جل شأنه أن يكون الحاكم المباشر لهذا الشعب، وأن يكون من هذا الشعب أنبياء ورسل بلغوا كلام الله المباشر والوصايا والتعاليم التي كتبها بنفسه وخطها بأصبعه التي اشتملت عليها الأسفار الأولى من العهد القديم (الخروج والتثنية).
المبدأ الآخر: أن هذه الحاكمية أو هذا الاختيار يجعل منهم شعب الله الأقرب وأبناء الله وأحباءه، ويعطي أرضهم مكانة القداسة بحكم تقديس الله لهم[89].
هكذا كانت الحاكمية مفهومة في النظام الديني اليهودي “القائم على تعامل إلهي مباشر أعطاهم كل ما يريدون، وفي الوقت نفسه قابل هذا العطاء الخارق بعقاب خارق عند الانحراف والمعصية”[90].
بعد تدرج اليهود من الحاكمية الإلهية المباشرة إلى حاكمية الاستخلاف النبوي، ثم إلى حاكمية الملوك الأنبياء ثم الملوك العاديين بدأوا يتطلعون أمام انحرافاتهم الكثيرة إلى تخفيف الإصر والأغلال والتكاليف عليهم”[91].
وبعد أن بين العلواني اضطراب مفهوم الحاكمية الإلهية في الفكر اليهودي انتقل إلى بيان المبادئ الأساسية التي يقوم عليها مفهوم الحاكمية في سياق النصرانية، حيث يرى أن عيسى ابن مريم عليه السلام كان يحاول وقد أرسل لبني إسرائيل مصدقا لما بين يديه من التوراة وليحل لهم بعض الذي حرم عليهم، أن يقدم رؤية في عملية تطبيق التوراة ويغلق الطريق أمام الأحبار والرهبان الذين بدأوا في تطويع الشريعة خدمة للحاكم وإن كان الفكر النصراني لم يشتمل على مثل ما اشتمل عليه الفكر اليهودي فيما يتعلق بمفهوم الحاكمية فهو يحاول فيما جاء به أن يعيد إلى عقولهم وقلوبهم فهم التوراة روحا ونصا وليس نصا فحسب..وكأنه يقول لهم: لا تتشبثوا بحرفية الشريعة، بل حاولوا أن تفهموا روحها، وحاولوا أن تفهموها بشكلها الكامل أو الكلي مع ملاحظة أهدافها”[92].
خلص العلواني من سياقات الآيات الكريمات[93] فيما يتعلق بالحاكمية الإلهية والرسالة الخاتمة، إلى أنها “بيان للمهام الأساسية (النبوة المعلمة، النبوة المربية، النبوة المزكية) التي كلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فقد مارس قيادة وحكما وقضاء وفتوى وتعليما، لكن ذلك كله كان من منطلق النبوة وليس من منطلق السلطة والسلطان”[94].
ولمزيد وعي بالمفهوم يفرق بين الحاكمية الإلهية وحاكمية الكتاب، فحاكمية الكتاب تجعل” الإنسان مسؤولا عن متطلبات ومستلزمات توفير سائر الضمانات التي تقتضيها القيم العامة المشتركة بين البشر، قيم العدل والأمانة والهدى، فهو مطالب بقراءة منهجية تقوم على قراءته وقراءة الكون معه..يدمج بينهما ويستخلص القواعد المنهجية التي يمكن للإنسان أن يهتدي بها ويخرج من دئرة التناقض والثنائيات المنفردة المبتسرة”[95].
إن ما يعزز ويقوي حاكمية الكتاب هذه ارتباطها الوثيق بأبعاد كثيرة يرى العلواني “أنها أبعاد عموم الشريعة وشمولها وانطلاقها من النص القرآني المحفوظ المفتوح، ومن تلك القيم القرآنية المطلقة القادرة على استيعاب أي واقع إنساني مهما كان، ومن منهجية رسول الله عليه الصلاة والسلام في فهم القرآن والربط بين قيمه وبين الواقع”[96].
وإذا كان هذا هو التصور الواضح والخصائص المنهجية التي تؤطر مفهوم الحاكمية في الرؤية المعرفية القرآنية، فكيف برزت وتطورت الحاكمية كمفهوم تحريضي عند فصائل العمل الإسلامي في كثير من أنحاء العالم؟
وللإجابة عن هذا التساؤل، يؤكد العلواني أن” فصائل العمل الإسلامي التي تعتبر امتدادا لتلك الحركات التي قدمت جهودا وتضحيات كبيرة في سبيل الوصول إلى حالة التحرر، فوجئت بأن سائر الأهداف والشعارات التي استعملت في عملية تحريض الأمة وإعادة الفاعلية لها وتعبئتها وحشد طاقاتها من أجل التحرير، قد أحبطت (من أبناء البلاد) أو لم تتحقق بالشكل الذي كانت تأمل، فأصيبت بخيبة أمل أدت بها إلى أن تستأنف جهادها وكفاحها..هذه المرة في إطار الداخل، فلجأت إلى الرصد الفكري والثقافي لحركات الإسلام التي سبقتها لكي توظف ذلك الرصيد كله في عمليات مختلفة، منها عمليات تستهدف التحريض وإعادة الفاعلية، وأخرى تستهدف الدفاع لإعادة التحرك، وثالثة تستهدف القوى الفاعلة القادرة على إحداث التغيير باتجاه تلك الأهداف الكبرى”[97] .
هكذا ساد نوع من سوء الفهم فتحول مفهوم “الحاكمية الإلهية” إلى قرين للتوحيد حيث “جعلت الدعاة (وبخاصة أبا الأعلى المودودي في باكستان، وعبد القادر عودة وسيد قطب في مصر) يطرحون أفكار الجاهلية والحاكمية في ظل تلك الأوضاع ويحاولون أن يستخدموا كل أسلحتهم التحريضية والبنائية منها، لأن الأنظمة جاهلية مغتصبة لسلطة لا تستحقها، فتلك السلطة هي سلطة إلهية”[98].
ومن أجل التصحيح وإعادة المفهوم إلى نصابه، دعا العلواني في خلاصاته إلى إعادة النظر “من بدايات تقسيم الشافعي العالم إلى دارين: أهل كتاب بدلوا الأحكام، وصنف كفروا بالله، وصولا إلى مفهوم حاكمية الكتاب”[99].
خاتمة:
لا شك في أن هذا المؤلف يفتح مجالات محفزة أمام الباحثين من أجل التطوير والاستئناف لتجاوز حالة الركود التي هيمنت على مجالاتنا الثقافية، وبذلك نصل إلى:
- محاولة التقويم المنهجي للكتاب:
- احتوى الكتاب على قدر غير يسير من المفاهيم والخصائص المكثفة حينا والمفصلة حينا آخر، حيث نجد العلواني رحمه الله تناول في كتابه كل ذلك بلغة سلسة بعيدة عن التمحل والتقعر والتجريح، فكان تعبيره عن المادة العلمية والمنهجية التي قدمها بغزارة في أبهى وأرق أسلوب إنساني.
- اتسم المؤلف في جميع فصوله بنفس استشكالي واضح، وبراعة في توظيف الأدلة والاستشهادات الشرعية والفكرية، فقد قاده تحليله ومناقشته للقضايا والأفكار إلى اعتماد أسلوب بيداغوجي في تناول المفاهيم، حيث نؤكد أنه استصحب مفهوم التعددية والتنوعية معه في كثير من الخلاصات والاستنتاجات التي توصل إليها.
- وعلى الرغم من خلو الكتاب في آخره من لائحة المصادر والمراجع، إلا أن ثنايا الكتاب تؤكد أن الكاتب رحمه الله اعتمد قائمة كبيرة ومهمة من المصادر والمراجع، أقل ما يمكن أن نقوله أنها محفزة على الاطلاع والقراءة.
- يبقى الكتاب على إيجابياته الكثيرة وتمكن صاحبه رحمه الله من إدارة فصوله ومحاوره باقتدار كبير ومنهجية عالية، يكتنفه بعض الغموض والقصور، منها عدم الالتزام بالدقة الصارمة الأكاديمية في التوثيق، ومنها ما وقع فيه من التكرار فيما يكون فصل فيه القول في فصول سابقة.
- يفترض الكاتب مفهوما للعالمية والتعددية والمواطنة والحاكمية وغيرها يكون فيه أقرب إلى الخيال والمثالية منه إلى الواقع، وهو أمر غير مسلم به حتى في النماذج المرجعية المؤطرة التي كانت الكتب السماوية تصحح ما قد تقع فيه؛ ذلك لأنها تمثل قمة الكمال، أما وأن حركية الإنسان ضمن حدود نسبيته فإنه من المستبعد أن يصل إلى درجة الكمال، وإلا فما فائدة السعي والتكليف والكسب والكدح والمكابدة..
- كانت غالب مقارنات العلواني رحمه الله خاصة بين الحضارات السابقة والحاضرة الإسلامية مقارنات تركز على سلبيات تلك الحضارات، في مقابل نقاء وصفاء التجربة الإسلامية التي هي بالفعل كذلك، ولكن هل فعلا لا توجد في هذه الحضارات نماذج إيجابية يمكن من خلالها تفعيل مفاهيم التعددية والعالمية بأن تكتشف أبعاد أخرى من خلالها؟
والحمد لله رب العالمين
لائحة المصادر والمراجع
القرآن الكريم
- الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر، طه جابر العلواني، مركز دراسات فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1 / 1424ه – 2003 م
- طه جابر العلواني، لسان القرآن ومستقبل الأمة القطب، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 2006م
- مالك بن نبي ، في مهب المعركة ، إرهاصات الثورة ، دار الفكر دمشق سورية ، د ط السنة 1981 م
- مالك بن نبي وجهة العالم الإسلامي دار الفكر العربي المعاصر الطبعة الأولى 1423ه / 2002م .
- محمد أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية ، بيروت ط1
- محمد عابد الجابري، اشكاليات الفكر العربي المعالصر، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2 / 1990م
- محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر العولمة – صراع الحضارات – العودة إلى الأخلاق – التسامح – الديمقراطية ونظام القيم – الفلسفة والمدينة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، حزيران / يونيو 1997م.
الفهارس
[1] مقدمة المحرر عبد الجبار الرفاعي، الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر، طه جابر العلواني، مركز دراسات فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1 / 1424ه – 2003 م.ص 6
[2] محمد عابد الجابري، اشكاليات الفكر العربي المعالصر، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2 / 1990 م ، ص 9
[3] قدم طه جابر العلواني هذا البحث في ندوة التعددية الحزبية والطائفية والعرقية في العالم العربي، التي كانت في واشنطن الأمريكية أيام 26 – 30 نوفمبر 1993م.
[4] محمد أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية ، بيروت ط1، ص 193، نقلا عن الخصوصية والعالمية ص 9
[5] طه جابر العلواني الخصوصية والعالمية ص 10
[6] نفسه 13
[7] نجد هذه القضية في كتاب “لسان القرآن ومستقبل الأمة القطب”، حيث الحديث عن الفرق بين اللغة العربية باعتبارها لسانا وبين لسان القرآن الكريم باعتباره محددا منهجيا “لسان القرآن متميز عن اللغة العربية، حيث استوعب فنونها وآدابها وبلاغتها وسائر مزاياها بمراحل، ولذلك تحدى أهلها كافة أن يأتوا بمثله أو ليبلغوا مستوى نظمه أو أسلوبه أو بلاغته، وثبت عجزهم، وثبت بذلك تجاوز القرآن لهم في ذلك كله. “﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾. الإسراء الآية 88. وبالتالي فلسان القرآن يخرج اللفظ عن كونه مجرد لفظ، لأنه يحمل اللفظ طاقات دلالية لم يعهدها أحد في تلك الألفاظ قبل أن نطق القرآن بها، فهو يفرغها ويملؤها ويمنحها معاني ودلالات جديدة تماما (ص 17). ومن هنا فإن القرآن لا يفسر إلا لسان القرآن ذاته، فلسان القرآن وإن كان عربيا مبينا، إلا أنه قد حول تلك المعاني البسيطة الساذجة المعبرة عن مستوى فكر العربي في المرحلة، إلى معان لم تكن معهودة من قبل: فكل الكلمات الشرعية مثل “الإيمان والصلاة والزكاة والصيام والحج والكفر والشرك والنفاق. وما إليها” كانت معانيها بسيطة في الاستعمال العربي الجاهلي، فقام القرآن بتنقيتها وشحنها بالمعاني التي أراد لها أن تحمل وتشتمل عليها. فلسان القرآن: لسان عربي مبين، وعروبة القرآن إحدى أهم أوصافه ولكن يجب أن ننتبه إلى أن الانتساب للعرب هو أحد معانيه لا معانيه كلها، فهذه اللغة أخرجت بعد نزول القرآن بها من المحيط الواقعي الذي تكونت وتشكلت فيه، ومن إطارها القومي لتصبح لغة: أمة قطب بين الأمم، شاهدة عليهم، وليصبح ذلك اللسان لسانا ثقافيا يبني ويؤسس لثقافة عالمية كونية مشتركة ويعبر عنها، فالقرآن المجيد قد استوعب محاسن اللسان العربي وتجاوزه. (ص29-43)، طه جابر العلواني، لسان القرآن ومستقبل الأمة القطب، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 2006م ص 17 – 29 – 43.
[8] نفسه ص 15.
[9] نفسه ص 15.
[10] نفسه 20.
[11] “ظهرت كلمة تسامح Tolérance أول ما ظهرت في كتابات الفلاسفة وعلى حواشي الفلسفة في القرن السابع عشر الميلادي في زمن الصراع بين البروتستانت والكنيسة الكاثوليكية، حينما نادى أولئك بحرية الاعتقاد وطالبوا الكنيسة البابوية بالتوقف عن التدخل في العلاقة بين الله والإنسان، ومعلوم ان الكنيسة الكاثوليكية هي التي تحدد ” قانون الإيمان ” وتمنح صكوك الغفران وتحتكر السلطة الروحية، وكانت فضلا عن ذلك تنازع الدولة سلطتها الزمنية وتريد جعلها تابعة لها… وكرد فعل على ” الإجماع ” الذي أرادت الكنيسة الكاثوليكية تكريسه حولها ( وكلمة كوتوليكوس في معناه اللغوي اليوناني تعني: الشمول والكلية والعالمية ) دينيا وسياسيا، بالوعد والوعيد حينا وبالقوة والعنف حينا آخر، قام المذهب البروتستانتي ضد الكثلكة. وسعيها نحو الهيمنة الدينية والسياسية وأخذ يطالب بحق الاجتهاد، وبضرورة اتخاذ العقل ميزانا وحكما… وأيضا بضرورة التسامح مع المخالفين الشيء الذي يعني السماح لهم بحق الوجود وحق التعبير عن مذهبهم، والقيام بالشعائر الدينية على الطريقة التي يعتقدون أنها الأصلح… وذلك هو نفس المبدأ الذي تمسك به فلاسفة التنوير في أوروبا بمختلف ميولهم الدينية والفلسفية، وأعطوه طابع الشمول، حتى نادى بعضهم بحق الحق، أي بضرورة ” السماح للخطأ بالوجود من غير أن يتعرض لهجوم سوى الهجوم الذي يشنه عليه العقل. بعد هذا السياق التاريخي الذي ساقه الجابري يؤكد أن التسامح في التصور الغربي” ولد في حظيرة الإيديولوجيا والسياسة ليوظف توظيفا سياسيا إيديولوجيا ضد الدولة أو معها” وقدم الجابري نماذج لهذا التوظيف وهذه الإيديولوجيا عندما قال عن جون لوك وفولتير وهما من رواد فلسفة التسامح:” يخرج لوك أتباع المذهب الكاثوليكي في بلده من عداد من يجب التسامح معهم. ذلك لأنهم لما كانوا يطيعون أميرا أجنبيا هو البابا فهم خطيرون سياسيا.. ومع أن فولتير أشهر فلاسفة الانوار كان ضد اضطهاد الأفكار والمعتقدات فإنه جعل حدودا للتسامح لا يتعداها عندما يتعلق الأمر بشؤون الدولة والسياسة” نقلا عن محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر العولمة – صراع الحضارات – العودة إلى الأخلاق – التسامح – الديمقراطية ونظام القيم – الفلسفة والمدينة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، حزيران / يونيو 1997م ص 20 -27
[12] العلواني الخصوصية والعالمية م س 21 – 22
[13] نفسه ص 27، يستدل العلواني على فكرة التنوعية بجملة من الآيات القرآنية كقوله تعالى:” ومن آياته خلق السموات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين” الروم 32. وقوله تعالى أيضا:” إن في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون”، فهي تدل على مستويات التنوع باعتباره نظاما كونيا وسنة إلهية في الخلق والأمر.( الآية 164:سورة البقرة).
[14] العلواني الخصوصية والعالمية ص 28 – 29.
[15] سورة الحجرات 13.
[16] العلواني الخصوصية والعالمية ص 30 – 32.
[17] نفسه ص 33 – 34.
[18] العلواني الخصوصية والعالمية ص 35 – 37. عبر المقري أبو زيد الإدريسي في أحدى محاضراته على مواقع التواصل الاجتماعي بأن الغرب يتعامل معنا من خلال مراحل أو دوائر ثلاث: مرحلة أو دائرة الضبط ثم مرحلة ـأو دائرة التحكم، وأخيرا مرحلة أو دائرة التدمير.
[19] نفسه ص 38.
[20] نفسه ص 39.
[21] نفسه ص 40.
[22] نفسه ص 43 – 44.
[23] نفسه ص 45.
[24] نفسه ص 46 – 47.
[25] نفسه ص 48 – 50.
[26] نفسه ص 51 – 54.
[27] نفسه ص 55 – 59.
[28] العلواني الخصوصية والعالمية ص 60 – 62.
[29] نفسه ص 63.
[30] مالك بن نبي وجهة العالم الإسلامي دار الفكر العربي المعاصر الطبعة الأولى 1423ه / 2002م ص 108 – 109.
[31] العلواني الخصوصية والعالمية ص 64.
[32] هناك ثلاث آيات ورد فيها الوعد الإلهي بظهور الهدى ودين الحق في سورة التوبة الآية 33 وهي قوله تعالى:” هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون”. وقوله تعالى في سورة الصف الآية 9 ” هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون” وقوله تعالى في سورة الفتح الآية 28 ” هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا”. وهذه الآيات تذكر بأهم الخصائص المساعدة على تحقق العالمية وقيام علاقات دولية طبيعية وهي تحري الهدى والحق، وأداء الشهادة.
[33] العلواني الخصوصية والعالمية ص 65.
[34] نفسه ص 67.
[35] نفسه ص 69 – 72.
[36] نفسه ص 93 – 94.
[37] نفسه ص 98.
[38] نفسه ص 99.
[39] نفسه ص 100 – 102.
[40] نفسه ص 103 – 106.
[41] نفسه ص 107 – 108.
[42] نفسه ص 109.
[43] نفسه ص 110.
[44] نفسه ص 113 – 116
[45] محمد علي ضناوي، مقدمات في فهم الحضارة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، دار الإيمان، الطبعة الأولى 1400ه – 1980 م ص 17 نقلا عن العلواني الخصوصية والعالمية مرجع س، ص، 117.
[46] نفسه ص 118 – 120.
[47] نفسه ص 121.
[48] نفسه ص 122 – 125.
[49] نفسه ص 125.
[50] اصطلاح استعمله الشهيد اسماعيل الفاروقي في محاضرته نحن والغرب الخصوصية والعالمية ص 149.
[51] نفسه ص 126.
[52] نفسه ص 128.
[53] نفسه ص 129.
[54] نفسه ص 130 -131.
[55] نفسه ص 132 -134.
[56] نفسه ص 135.
[57] العلواني الخصوصية والعالمية ص 136 – 138 بتصرف.
[58] نفسه ص 141.
[59] ” والمواطنة انتماء إلى تراب تحده حدود جغرافية، فكل من ينتمون إلى ذلك التراب مواطنون يستحقون ما يترتب على هذه المواطنة من الحقوق والواجبات التي تنظم بينهم بمقتضى هذه النسبة (أي نسبة الأقليات غير المسلمة)، لا بشيء آخر سائر العلاقات. فالرابطة بينهم وبين حكوماتهم علمانية دنيوية تخضع لمقاييس النفع والضرر، نفع الوطن والمواطن، ولا بد من انصهار المواطنيين جميعا بكل أديانهم ومذاهبهم ومللهم وتنازلهم عن أية خصوصيات تتعارض مع هذا الإطار” نفسه ص 142.
[60] يميز العلواني رحمه الله بين ” المشروع الحضاري الإسلامي” الذي يقوم على ثوابت الإسلام وقواعده الأساسية ويسعى إلى تحقيق العالمية، وبين ” المشاريع السياسية الإسلامية” التي يسعى أصحابها إلى تقديم معالجات أو مشاريع سياسية في أطر إقليمية أو قومية محددة تنطلق من المتغيرات. نقلا عن العلواني الخصوصية والعالمية ص 144
[61] مالك بن نبي ، في مهب المعركة ، إرهاصات الثورة ، دار الفكر دمشق سورية ، د ط السنة 1981 م ص117
[62] مالك بن نبي ، وجهة العالم الإسلامي م س ص 77
[63] العلواني الخصوصية والعالمية ص 145 – 158.
[64] نفسه 161 – 164.
[65] نفسه ص 167 – 168.
[66] العلواني الخصوصية والعالمية ص 169.
[67] نفسه ص 170 – 174.
[68] نفسه ص 180 – 181.
[69] نفسه ص 182.
[70] نفسه ص 183 – 184.
[71] نفسه ص 185 – 189.
[72] نفسه ص 193 – 194.
[73] العلواني الخصوصية والعالمية ص 195.
[74] نفسه ص 196 – 198.
[75] العلواني الخصوصية والعالمية ص 215.
[76] نفسه ص 216 – 222.
[77] نفسه ص 226.
[78] العلواني الخصوصية والعالمية ص 228.
[79] نفسه ص 230.
[80] نفسه ص 231 – 135.
[81] نفسه ص 236 – 138.
[82] نفسه ص 239 – 240.
[83] نفسه ص 243.
[84] نفسه ص 244.
[85] سورة البقرة 124.
[86] سورة الحج 75.
[87] سورة آل عمران 33.
[88] العلواني الخصوصية والعالمية ص 245 – 247.
[89] نفسه ص 254.
[90] نفسه ص 255.
[91] هذا التطلع من بيني إسرائيل إلى التخفيف تسجله سورة الأعراف في القرآن الكريم بعد عملية الردة الجماعية التي عرفوها وهي قوله تعالى:” واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين. واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون” الآية 155 – 157.
[92] نفسه ص 257-261.
[93] وأرقام هذه الآيات هي: البقرة الآية 129، آل عمران الآية 164، الأنعام الآية 5، المائدة 44 – 47 – 48، النساء 56، الشورى 10، النمل 91 – 92.
[94] العلواني الخصوصية والعالمية ص 262 – 265.
[95] نفسه ص 266 – 267.
[96] نفسه ص 268.
[97] نفسه ص 269.
[98] نفسه ص 270 – 275
[99] نفسه ص 276 – 284