مقدمة:
شكلت الثورات العربية لحظة فارقة في سياق الفكر السياسي العربي المعاصر، مبنية على خصوصيتها الفريدة، بتجاوزها لكل الأنماط التقليدية في دراسة فلسفة الثورات، و ذلك ما وضحه كتاب “فلسفة الثورات العربية: مقاربة تفسيرية لنموذج انتفاضي جديد، لمؤلفه الدكتور سلمان بونعمان، المنشغل بقضايا المنطقة العربية من خلال أعماله الفكرية و مشاركاته النظرية في تشخيص مكامن الخلل في البنية السياسية العربية لدولة ما بعد الاستعمار، معتمدا في مسلكه الفكري المؤطر لهذا العمل على ما جادت به المدارس الفكرية المختلفة.
إن عمل الأستاذ بونعمان هذا يعد بناء علميا تأسيسيا، لرؤية جديدة تحاكي التحولات المجتمعية العربية لحظة انفجارها، وهو بهذا الأساس يرصد الاجتهادات التي قدمتها مختلف المرجعيات الفكرية التي تناولت مفهوم “الثورة” مبينةً مكامن النكوص في النموذج المعرفي داخل العلوم الاجتماعية دفعا باتجاه تقديم نموذج بديل لدراسة الظاهرة الثورية العربية.
يعد مؤلَّف الكاتب “سلمان بونعمان” (فلسفة الثورات العربية)، محاولة جادة لسبر أغوار الظاهرة الثورية في منطقة جغرافية محمَّلة بعقود من التسلط و الشمولية، وذلك بالاعتماد على عمل منهجي محكم مخالف لما درجت عليه المنهجيات التقليدية في فهم ظواهر تتحول باستمرار.
الناظم المعتمد في بنية الكتاب :
ينصرف عمل المؤلف لدراسة فلسفة الثورات العربية، من خلال جعل هذه الجدلية معلما علميا في مجال الظاهرة الثورية و العلوم الاجتماعية، قصد إبراز نموذج تفسيري جديد لدراسة الثورات العربية، إذ نستشعر أنها تصبو لتكون دليلا بحثيا ينطلق منه المهتمون لفهم أبعاد الثورات العربية بناء على خصوصيتها الحضارية و القيمية المتفردة.
إن تفرد الحالة الثورية العربية الراهنة يقتضي دراسة الأطر النظرية والتفسيرية التي عالجت الظاهرة الثورية في كليتها، ومن زوايا نظر متعددة و مختلفة، كما أن فهم هذه النماذج التحليلية و الأطر النظرية رهين في معانيه و دلالاته بالنسق المعرفي الذي نشأت فيه و تطورت في سياقه، و بطبيعة مفهوم العلم السائد في هذا النسق و ما عرفه من تحول. (ص ١٦).
في ضوء ما سبق يرصد المؤلف الإشكالية التي لحقت تعريف الثورة و ماهيتها، بدءا بمعناها السياسي في أواخر القرون الوسطى، وصولا إلى معناها في العصر الحديث والمعاصر، ومرد ذلك حسب المؤلف إلى تنوع مقاربات المفكرين كل حسب تخصصه وإديولوجيته، لكن هناك نقاط رئيسية يلتقون عندها في تعريفهم للثورة.
و الواقع أن هذه النماذج رغم أهميتها العلمية في تفسير ظاهرة الثورة، إلا أنها لم تنج من وهن العلوم الاجتماعية، وبهذا ظلت طموحات مؤسسي النظريات الاجتماعية، تصبو إلى إخضاع العلوم الاجتماعية الوليدة إلى معايير العلوم الطبيعية، و هو أمر مستحيل بالنظر إلى خصوصية هذه العلوم التي تؤمن بالنسبية لا بالحتمية.
وهنا يستند المؤلف سلمان بونعمان على قول علي فياض : ” إن العلوم الاجتماعية كلما أوغلت في نضجها و تنامى مسارها ، كلما اقتربت من مفهوم” الاحتمالية” عوض مفهوم” الحتمية”، و قد كان لدخول العلوم الإحصائية دورا جوهريا في تعزيز النزعة الاحتمالية بديلا عن النزعة الحتمية؛ أي أن المزاوجة مع العلوم المحضة دفع بعلم الاجتماع إلى مزيد من التواضع بدل الإطلاقات المنهجية التي وافقت بداياته”. (ص ٦٥).
لقد استحالت مع هذه الجدلية في العلوم الاجتماعية، فهم الظاهرة الثورية العربية، الأمر الذي أبان عن عجز النماذج التفسيرية للظاهرة الثورية في تفسير هذا النمط الثوري الذي انفجر فجأة داخل المنطقة العربية.
و بالنظر إلى واقع النماذج التاريخية الضيقة في فهم و تفسير الظاهرة الثورية القديمة، فإن الحالة العربية تستدعي منهج تفكير جديد و أدوات معرفية مجددة في البحث عن الإطار الكلي في فهم أبعادها وامتدادها بحسب المؤلف.
إن الوضع قد تغير كثيرا بين الماضي والحاضر فيما يخص النماذج التفسيرية، التي وجب إسقاطها على الظواهر الثورية، بالنظر إلى الاختلاف في البنيات الفكرية والحضارية المؤطرة لكل تحول على حدة، فالثورات العربية لا يمكن أن تقرأ داخل النسق الفلسفي والسياسي الغربي، بحكم تجاوزها لشرط التنظيم الطليعي السري، والقيادة الواحدة الكاريزمية، مما يستدعي الحاجة الملحة إلى مراجعة أدبيات العلوم الاجتماعية الغربية أساسا كونها غير مسلمة.
إن الثورات العربية التي جاءت مطلع سنة 2011، فرضت نسقا إدراكيا جديدا لابد أن يتوقف معه الباحث المختص في الشأن الثوري، لأنها حقيقة تجاوزت الفكر السياسي التقليدي والمنظورات الكلاسيكية لقيام الثورات.
فالتحولات الجارية في الوطن العربي لابد أن توضع ضمن إطار حضاري إسلامي عربي، من خلال اقتراح نموذج تفسيري مركب أولي، بهدف فهم الظواهر الثورية المتعددة في إطار سياقها السياسي والثقافي والاجتماعي، وهذا ما حاول تركيبه المؤلف في نموذج نمط تفسيري جديد أسماه ” التغيير الثوري الانتفاضي المقاوم”، وهو مجهود تركيبي كبير جدا؛ نموذج مقاوم للقهر، ممانع للاستبداد، ومنحاز لمنظومة أخلاقية بأبعاد اجتماعية وسياسية.
تشريح فصول الكتاب:
يشرع المؤلف في الفصل الأول، في الحديث عن الظاهرة الثورية والعلوم الاجتماعية، إذ يقوم بتفكيك تركيبته من خلال تضمين الفصل مجموعة من النقاط الأساسية، شغلت أولها البحث في إشكالية تعريف الثورة؛ بحيث اتخذ المؤلف من التعريفات الواردة في مختلف المدارس الفكرية منطلقا نظريا لتحديد مفهوم كل مدرسة للثورة بدءا بموسوعة علم الاجتماع، مرورا بكتابات متخصصة في دراسة موضوع الثورة، وصولا إلى ما خلفه التراث الإسلامي السياسي في ذلك، لينتهي المؤلف بما قدمته المدرسة العربية، مستحضرا كتابات المفكر العربي عزمي بشارة، الذي واكب عملية التحول الثوري في الوطن العربي من خلال فضاءات الإعلام وغيرها ….
يصعب ضبط مفهوم الثورة، بسبب تنوع الفهم للمصطلح وتنوع مقاربات المفكرين منه، كل حسب أيديولوجيته وتخصصه، ولكن هناك نقاط رئيسة يلتقون عندها، يمكن أن تشكل إجماعا على تعريف الثورة، كونها تغييرا مفاجئا سريعا بعيد الأثر في الكيان الاجتماعي، ذلك التغيير الذي من شأنه أن يحطم استمرارية الأحوال الراهنة في المجتمع، فالثورة حدث مركب تسبقه تراكمات ويتولد عن حدث قادح. (ص21).
تناول المؤلف في النقطة الثانية من الفصل نماذج دراسة الثورات في العلوم الاجتماعية، بحيث يعرض المؤلف في هذا الباب التراكمات المعرفية التي شهدتها نهاية ق 19 وبداية القرن القرن 20، ذاهبا باتجاه تشريح النماذج والمقاربات المعرفية التي تناولت الظاهرة الثورية. منها، النموذج الوصفي والسببي ونموذج الفاعل، بالإضافة إلى نموذج الحركات الاجتماعية، ونموذج الأثر الدولي، وأخيرا نموذج التركيب المتعدد الأبعاد.
بيد أن المفكرين الغربيين أدركوا نهاية القرن 20 بعد انحسار وهم الثورات الاشتراكية، أن البراديغم السياسي للحداثة دخل مرحلة تأزم حاد طال مقولاته المحورية الأساسية، كالشعب والمواطنة والسيادة…(ص61).
يختم المؤلف هذا الفصل بالنقطة الأخيرة التي يرصد فيها أزمة النموذج المعرفي في العلوم الاجتماعية موضحا الأسس النظرية التي صاغها أصحاب النظريات الاجتماعية الأوائل، والقائلين بإخضاع العلوم الاجتماعية لمناهج العلوم الحقة، وهو الأمر الذي دفع بها من خلال هذه الصياغة، إلى الارتكاز على مسلمات وبديهيات (والرستاين) ليست متطورة، وغير مناسبة لتطور الواقع الاجتماعي دائما، ويتم استخدامها كأنها مقدمات شبه مطلقة لا تقبل المناقشة أو الجدل، في حين أن ثقافة علم الاجتماع لا تخلو من الهشاشة .(ص64).
إن اللحظة الثورية العربية، جاءت فجائية لحاضرة المعرفة الغربية أساسا والعربية كذلك، حيث توضح قصور استشراف هذه اللحظة التاريخية الفريدة، الأمر الذي يعكس عدم قدرة النماذج المعرفية في استباق مرحلة فارقة، كانت تنضج على نار هادئة .
بالمحصلة، إن العجز الذي كشفت عنه الحالة العربية الثورية في النماذج المعرفية الغربية والعربية على السواء، كان مهولا في مسار زوايا النظر المعرفية التي تدرس قضايا المجتمع العربي، الأمر الذي يحيلنا على طرح السؤال حول نماذج بديلة قادرة على الإحاطة العلمية بخصوصيات المجتمعات.
في الفصل الثاني، يبدأ المؤلف بالحديث عن تجاوز الحالة العربية الثورية للأنماط النظرية التي دأب عليها مفكروا الغرب، أمثال (ميشال فوكو)، وكذا المفكرين الذين طرحوا ضرورة وجود شرط التنظيم الطليعي السري، التعبير السياسي لطموحات فئة معينة، مما يطرح معه ضرورة المراجعة في الفكر الغربي الكلاسيكي ويسقط عنه التحكم في قوانين النظر في تشريح تحولات كل المجتمعات.
في هذا الإطار يوضح المؤلف الأسباب الكامنة وراء هذا الاستعصاء الذي شكلته الحالة العربية على النماذج المعرفية الغربية، بالنظر إلى المنظومة القيمية و المرجعية التي تؤطر شعوب المنطقة العربية، وهو مناقض تماما للمرجعيات الغربية، بما هي مرجعيات تستند على البعد المادي أساسا.
ويستمر الحديث في الفصل الثاني، من خلال نقطته الثانية، عن أبرز سمات النموذج البديل، وهو نموذج ” التغيير الثوري الانتفاضي المقاوم”؛ النموذج الذي كسر المؤلف في نحثه النماذج الكلاسيكية الجامدة التي تتعاطى مع الثورات الشعبية عبر الاجتماعات السرية والقيادات الكاريزمية التي يسهل اغتيالها، أو تتحول لشخوص شمولية تغتال الجماهير باسم الجماهير، وهو ما دفع بالمؤلف إلى التأكيد على أن الثورات مجهود جماعي ليس من اليسير كشفه أو معرفة طبيعة آليات اشتغاله.
وهذا ما ميز الثورات العربية وخصها بخصائص جعلتها تختلف عن كل الثورات السابقة عليها، والتي وصفها المقرئ أبو زيد الإدريسي، إذ هي ثورات فريدة وجديدة وشبابية، ومتجدرة ويقظة وسننية، كما أنها ثورات مباركة ومجددة ومبدعة، ومختلفة. (ص120).
يبرز المؤلف في النقطة الأخيرة من هذا الفصل، انتصار الإنسان بوصفه كائنا ثوريا، ومن أجل إيضاح هذا الأمر، اعتمد المؤلف الرؤية (المسيرية) المتسمة بإعادة النظر في طرق التفكير السائدة، ومن أجل تطوير النظريات التفسيرية للواقع الذي نحياه لنفهمه بكل أبعاده دون اختزال. وقد شكلت هذه النظرة العلمية مدخلا هاما في فهم كينونة الإنسان وتركيبته لإقامة فهم عام حوله، من دون تغييب أي بعد من أبعاده.
لقد أعطت نظرة المسيري الضوء الأخضر لإعادة النظر في بنية الإنسان من جهة، كما فتحت باب الاجتهاد على مصراعيه في انتصار تام لرحابة المعرفة في مقابل الضيق والجمود. من هنا يمكن تفسير الأهمية التي أعطاها المؤلف لمنهج المسيري في تشريح كينونة الإنسان، ومن تم فنموذج الإنسان/ السر أو الإنسان الرباني، مقابل الإنسان الطبيعي/ المادي هو التعبير الذي أفرز فرادة نموذج المسيري في تشريح الإنسان بين المادي والروحي.
انطلاقا من ذلك، يرى المسيري أن الإنسان يتصارعه اتجاهان، الاتجاه المادي/ الطبيعي والاتجاه الرباني/ الإنساني؛ وهو النموذج الذي اعتمده المؤلف في فهم الجانب الجواني للإنسان العربي تحديدا، بعد الموجة العربية الثورية، التي أثبتت في لحظتها الرومانسية أن الإنسان لا يمكن أن يحدد سلوكاته الجانب المادي فقط، ولا يمكن أن يهيمن عليه بعده الطبيعي، بل الإنسان أبعد من أن نفهمه بهذه الصياغة المادية، فهو مركب طبيعي وروحي في آن، وبالتالي فالوجهة المعرفية الجديدة والتي عبرت عنها أصوات وشعارات الثورة العربية المستمرة، يجب أن تحل محل الفهوم التقليدية لإقامة اعتبار يسمى بالإنسان لمكانته الحقيقية في التاريخ.
على سبيل الختم:
في ضوء ما سبق، يتضح ان انتقال المجتمعات العربية، ليس ترفا مجتمعيا، بل هو ضرورة حياتية لنهضة هاته المجتمعات من أزمتها الحضارية، فمن الباب الذي فتحته الثورة العربية وجب التأكيد ” أن حاجة الأمة اليوم أكثر من أي وقت مضى….إلى ثورة ثقافية فكرية ذات عمق حضاري كفاحي تكون رافعة لتنزيل مشاريع نهوض حضاري جديدة متطورة وملائمة للعصر، تجعلها مركبا للسيادة واستعادة المبادرة. (ص145 ).