أولا: تقديم
من الأمور الواضحات التي لا ينكرها إلا جاحد أو جاهل، أن الإنسان ـ مطلق الإنسان ـ ذو قيمة خاصة إذا ما قورن بغيره من المخلوقات، لذلك يستحق تخصيص الحديث عنه لإبراز هذه الخاصية وبسط معالمها.
والكتاب الذي بين أيدينا واحد من الكتابات التي عنيت بدراسة هذا الموضوع. فما الهدف من هذا الكتاب؟ وما المنهج الموظف فيه؟ وما أهم المحتويات التي شملها؟ وهل من مزايا اختص بها؟
ثانيا: حول الكتاب والكاتب
كتاب ” قيمة الإنسان” لمؤلفه الدكتور عبد المجيد النجار، في إطار سلسلة الإنسان في العقيدة الإسلامية، صدر عن دار الزيتونة للنشر، الرباط ـ المملكة المغربية، في طبعته الأولى 1417ه/ 1996م، يقع الكتاب في حوالي 104 صفحة، ما بين محتواه وثبت مصادره ومراجعه، وكذا فهرس الموضوعات.[1]
مؤلف الكتاب هو الدكتور عبد المجيد عمر النجار[2]:
ـ من مواليد تونس عام 1945م.
ـ حاصل على الدكتوراه في العقيدة والفلسفة من جامعة الأزهر سنة 1981م.
ـ عضو هيئة التدريس بالجامعة الزيتونية من سنة 1975م كما درّس في العديد من الجامعات العربية والإسلامية.
ـ مدير مركز البحوث بالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس.
ـ الأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.
ـ عضو مؤسس بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
ـ شارك في العديد من المؤتمرات العلمية العالمية.
ـ حاصل على جائزة مكتبة علي بن عبد الله آل ثاني الوقفية العالمية.
ـ نشر العديد من البحوث العلمية في مجلات محكمة.
أهم مؤلفاته
ـ “خلافة الإنسان بين الوحي والعقل” 2005.
ـ “خلافة الإنسان بين الوحي والعقل: بحث في جدلية النص والعقل والواقع” 2005.
ـ “البعد الحضاري لهجرة الكفاءات” 2002.
ـ “فقه التحضر الإسلامي” 1999.
ـ “عوامل الشهود الحضاري” 1999.
ـ “مشاريع الإشهاد الحضاري” 1999.
ـ “الشهود الحضاري للأمة الإسلامية” 1999.
ـ “الإيمان بالله وأثره في الحياة” 1997.
ـ “المستقبل الثقافي للغرب الإسلامي” 1997.
ـ “دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين” 1995.
ـ “تجربة الإصلاح في حركة المهدي بن تومرت: الحركة الموحدية بالمغرب أوائل القرن السادس الهجري” 1995.
ـ “في فقه التدين: فهما وتنزيلا” 1989.
ـ “تصنيف العلوم في الفكر الإسلامي بين التقليد والتأصيل” 1987.
ـ “المعتزلة بين الفكر والعمل” 1986.
ـ “المهدي بن تومرت: حياته وآراؤه وثورته الفكرية والاجتماعية وأثره بالمغرب” 1982.
ثالثا: هدف الكتاب
من خلال مطالعة وتتبع متن الكتاب يتبين أن المؤلف لم يحدد هدفه من كتابه بشكل صريح، ولكن عنوان الكتاب ومحتواه يفهم منه أن الكاتب يهدف إلى إبراز قيمة الإنسان ومكانته ضمن مكونات هذا العالم المخلوق من الله تعالى، من خلال البحث في القرآن الكريم أساسا.
رابعا: منهج الكتاب
المنهج التوثيقي[3]: يعد هذا المنهج من أهم مناهج البحث العلمي، وبالنظر إلى متن الكتاب يتضح حضوره في قضاياه، حيث يتبين جهد كبير من المؤلف في جمع مادته من خلال كتب التراث المختلفة[4]، والعمل على إعادة تركيبها تركيبا علميا، متناسقا بما يحقق الغاية منه. والشواهد على ذلك هي ما تضمنه من متون مستلة من كتب التراث.
إضافة إلى المنهج التوثيقي وظف المؤلف المنهج التحليلي[5] القائم على عناصر، منها: النقد، فيلاحظ البعد النقدي لدى الكاتب لمجموعة من القضايا المطروحة في الكتاب. ومن الأمثلة على ذلك ما تطرق إليه في سياق حديثه عن الأثر التربوي للإيمان بعقيدة منزلة الإنسان في الكون.[6]
إلى جانب ما سبق نجد المنهج الوصفي [7]، والمطلع على متن الكتاب يجد حضورا لمنهج الاستقراء أيضا، حيث عمل الكاتب على استقراء المادة العلمية التي تخدم موضوع الكتاب وعرضها عرضا مرتبا منهجيا.
خامسا: محتوى الكتاب
يتوزع الكتاب بين جملة من الفصول والمباحث، على الشكل التالي:
تمهيد:
وفيه إشارة إلى مسألة أساسية تمثل جوهر الكتاب وما يأتي من فصوله ومباحثه بعد، يتعلق الأمر بالتأكيد على قيمة الإنسان وتميزه عن باقي المخلوقات الأخرى مما خلق الله تعالى. وأن هذه القيمة التي يختص بها الإنسان لها ما يدل عليها ، من ذلك ما:” يؤكده القرآن الكريم فيما خُصّ به الإنسان من بيان لخلقه خلقاً ابتدائياً مستقلاً،…إذ يقول تعالى في أوّل ما نزل من القرآن الكريم: ﴿ اَ۪قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَ۬لذِے خَلَقَۖ (1) خَلَقَ اَ۬لِانسَٰنَ مِنْ عَلَقٍۖ(2) ﴾ ( العلق:1،2)“[8]، وأضاف المؤلف إضافات كلها تقرير للقيمة المذكورة قبل، ثم ختم الكلام في هذا التمهيد بالإشارة إلى أن التكريم الإلهي، وتسخير الكون للإنسان ” مظهران أساسيان من المظاهر التي تعلي من قيمة الإنسان في التصوّر الإسلامي”[9]، كما اعتبر هذين المظهرين من صميم العقيدة الإسلامية، وله أثر تربوي على النفس.
الفصل الأول: القيمة الذاتية للإنسان
وفيه تمهيد: ركز فيه المؤلف على بعض مظاهر التكريم الإلهي للإنسان، من ذلك ما اختصه الله به من التعبد لله تعالى[10].
وفيما يلي عرض لمظاهر هذا التكريم الإلهي:
1ـ شرفية الخلق:
وقد عبر المؤلف عن هذا المظهر، بنص أشار فيه إلى مظاهر تلك الشرفية، وذلك بقوله: ” إنّ المعاني الآنفة الذّكر تشترك كلّها في إثبات خصوصية حفّت بخلق الإنسان، وهي خصوصيةٌ متقومّةٌ بعناية إلهية تشعر بفيض من الإيثار والقربي اكتنفت المخلوق الجديد، ودل بالتالي على أنّ الإنسان قد اكتسب شرفاً رفيعاً بهذه الخصوصية في الخلق، إذ خَلَقَه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وجعله على صورته، وأعده ليكون خليفة له في الأرض” [11]
2ـ حسن التقويم:
جمع المؤلف في هذا العنصر جملة من مظاهر التكريم في تقويم الإنسان، وبين المقصود من حسن التقويم ، حيث يقول:” إنّ المقصود بالتقويم في بنية الإنسان هو التقويم الشّامل الذي يتناول كلاً من البنية المادية والبنية المعنوية، فكلاهما خلق على أحسن تقويم، سواء بالنّظر إليهما في ذاتهما، أو بالنظر إليهما في ترابطهما ووحدتهما في تكوين الإنسان.”[12]، ثم ذكر بعض مظاهر التقويم تلك ومنها قامة الإنسان وما خلقت عليه من هيئة رفيعة، بحيث يستطيع الإنسان الإحاطة بكل الكون من كل ناحية وجهة، وضمن هذا التقويم إبراز لوظيفة بعض مكوناته المادية الخارجية كالإبهام، كما يؤدي البناء الداخلي له وظائف معينة كذلك.
وضمن هذا الأمر أيضا تناول المؤلف البنية المعنوية للإنسان، وخص بالذكر فيها العقل وما يؤديه من أدوار ووظائف في تحقيق الغرض الاستخلافي الذي من أجله خلق، وبجانب العقل هناك” العواطف والغرائز ذات البعدي الفردي والاجتماعي من شأنها أن تحقّق للإنسان التواصل النّوعي والتواصل الاجتماعي، وتضمن التآزر بين الأفراد والتعاون في تأدية الأعمال…”[13]
3ـ رفعة التكليف:
من مظاهر التكريم الإلهي للإنسان، تكليفه بحمل الأمانة التي أبت مخلوقات أخرى حملها، وفي هذا يقول المؤلف: ” إنّ الإنسان هو الكائن الذي اختير لأن يكون مكلّفا، فقد انتخبه الله تعالى من بين الموجودات ليقوم بمهمة الاستخلاف وفق أوامر ينبغي أن يقوم بها، ونواه ينبغي أن ينتهي عنها، ومكّنه من إرادة حرّة يكون على أساسها المحاسبة على الإيفاء بما أمر به ونُهي عنه.”[14]
4ـ عزة التعبد:
يرى المؤلف أن العبادة مفهوم يتصف بالشمول ” فالله تعالى تعبد الإنسان في كلّ شؤونه كبيرها وصغيرها”[15]، وقد أشار كذلك إلى أن العبادة عزة ورفعة للإنسان وليس مذلة له، ثم عرض بعض مظاهر تلك العزة، وهي كالآتي:
أـ العزة في مطلق العبادة:
ومجمل هذا المبحث تأكيد على أن قوة المؤمن وثباته لا يكتسب إلا من طريق العبادة، أو قُل إنّ العبادة عزة وقوة الإنسان المؤمن.
ب ـ العزة بالتعبد في مباشرة الكون:
يقصد المؤلف من هذا المظهر أن يعمل الإنسان على استثمار الكون معرفيا وعمليا بشكل يجعل منه السيد والمسيطر عليه، بما يحقق الرقي نحو الله تعالى، وبالتالي تحقيق عزته.
جـ العزة بالتعبد في العلاقات الاجتماعية:
من مظاهر عزة التعبد التي ميزت الإنسان، العزة في العلاقات الاجتماعية، وقد عمل المؤلف على تقريب فهم هذا المظهر، إذ يقول: ” إن ما تعبّد به الله عباده من التشريعات الضابطة للتعامل الاجتماعي يحقّق كلّه كرامة الإنسان، ويؤدّي إلى عزّته واستعلائه”[16] وهو يقصد بتلك التشريعات ما يتعلق بالمجال الاجتماعي من عدالة ومساواة وتكافؤ الفرص، وأخرى بالمجال الاقتصادي من قبيل تحريم الربا، ثم ما له علاقة بالمجال السياسي مثل بناء الحكم على الشورى والبيعة. “وكل هذه التشريعات الاجتماعية أقيمت على ما يحقق كرامة الإنسان ورفعته، ويضمن تحرّره من القهر والاستبداد ليكون له من ذلك قوّة عند مباشرة دوره في إنجاز الخلافة ترقيا في الذات الفردية والاجتماعية.”[17]
دـ العزة في التعامل الذاتي للإنسان:
لبيان هذا المظهر، يرى المؤلف: ” أنه قد يسقط الإنسان الفرد في ممارسات ذاتية تخلّ بكرامة الذات الإنسانية، فجاء التشريع الإسلامي يفرض ضروبا من العبادة تحول دون هذه الممارسات وتحفظ العزة والتكريم.”[18]، ومن تلك الممارسات المخلة بالكرامة الحرص على الدنيا وجعلها هدفا في حد ذاتها.
ثم ذكر بعض التشريعات التي تحفظ كرامة الذات الإنسانية مثل الأمر بالنظافة وتحريم الخمر لما فيه من إتلاف العقل.
5ـ طمأنينة الخلود:
مختصر القول هنا أن مما يحقق للإنسان العزة والقوة ويدفعه إلى أداء وظيفة الاستخلاف في الأرض، هو ذلك الإيمان بوجود حياة أخروية خالدة، بعد هذه الحياة الفانية.
6ـ الأثر التربوي لعقيدة التكريم:
بعدما تطرق المؤلف لمختلف أوجه التكريم الإلهي للإنسان، ” سواء في خلقه الابتدائي المستقلّ محفوفا بالإجلال الإلهي، أو في كيانه المادي والمعنوي المستجمع لما تفرّق في الكائنات، أو في تحميله أمانة التكليف…”[19]، عمل على إبراز أهم الآثار التربوية لعقيدة التكريم، ومنها: إشاعة الطمأنينة والأمن، وتعمير الأرض.
الفصل الثاني: منزلة الإنسان في الكون
تمهيد:
من بين أهم ما ورد فيه الإشارة إلى أن ” الإنسان والكون كلاهما عنصرٌ من عناصر العالم، فهما متساويان في المخلوقية لله تعالى، محكومان بنفس القانون الإلهي في السيطرة والتّدبير وتحديد المصير﴿ إِنَّا كُلَّ شَےْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٖۖ (49) وَمَآ أَمْرُنَآ إِلَّا وَٰحِدَةٞ كَلَمْحِۢ بِالْبَصَرِۖ (50) ﴾ ( القمر:49،50))[20]
إضافة إلى المنطلق السابق هناك منطلق آخر وهو أن الانسان هو الكائن المخلوق المستخلف في هذا الكون.
وبناء على ما سبق تتحدد منزلة الإنسان من خلال ثلاثة محاور أساسية وهي وحدة الإنسان والكون، واستعلاء الإنسان على الكون، ثم تسخير الكون للإنسان. وفيما يلي تفصيل مختصر لتلك المحاور الثلاثة.
1ـ وحدة الإنسان والكون:
لهذه الوحدة مظاهر وهي وحدة الوجود، ووحدة التكوين، ووحدة النظام.
أـ وحدة الوجود:
بين المؤلف المقصود بهذه الوحدة، وحدة الوجود بقوله: ” نعني به التّرابط الوجودي المتين بين الإنسان والكون سواء على مستوى المأتى والمصير المشتركين، أو على مستوى الكينونة فيما بينهما.”[21]، فبخصوص الترابط على مستوى المأتى والمصير المشتركين يقرر المؤلف أن الإنسان والكون يجمعهما وحدة المصدر وهو الخلق الإلهي. ووحدة النهاية والمصير “حيث يكون الرجوع إلى الله بانتقاض عالم الشهادة، وتبدّد وجوده المعهود كما يصوّره قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ ( المائدة: 18)“[22]، ثم ميز بينهما في المصير المشترك، حيث إنه “مصير موحد في انتقاض الوجود المشاهد، أما فيما بعده، فيفترق المصير بينهما بين هلاك سائر العناصر الكونية، وبين حياة أخرى بالنّسبة للإنسان كما في قوله تعالى:﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾( القصص:88) .”[23]
أما على مستوى الترابط الوجودي بينهما يذكر المؤلف أن ” بين الإنسان والكون يبيّن القرآن الكريم أنّ كلّ ما في الكون بما في ذلك الإنسان خُلق على قدر معيّن، بحيث يكون متساوقاً مع سائر الموجودات الأخرى، فيسهم بذلك القدر في السيرة الوجودية للكون بأسره…”[24]
ب ـ وحدة التكوين:
لفهم ما يرتبط بهذه الوحدة، أشار المؤلف إلى ما بينه القرآن الكريم من أن الإنسان والكون بينهما وحدة تتمثل في عنصر الماء[25]، وعنصر الكيفية التركيبية “إذ ركّبت الموجودات كلّها بكيفية التّزاوج كما يثبته قوله تعالى﴿ وَمِن كُلِّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَيۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾(الذاريات:49)“[26].
ج ـ وحدة النظام:
يعرف صاحب الكتاب هذه الوحدة، حيث يقول: ” ونعني به ما ينتظم الإنسان والكون جميعاً من قانون موحّد تخضع له الموجودات في نشوئها أصلاً، وفي سيرورتها نحو مصيرها، بحيث لا يندّ شيء منها على ذلك القانون. ولهذا القانون الموحّد مظاهر كثيرة لعلّ من أهمّها وحدة السببية ووحدة الحركة.”[27]
ثم بين المقصود بوحدة السببية حيث يقول: ” فوحدة السببية تبدو في أن جميع الموجودات بما فيها الإنسان خاضعة في نشوئها واستحالتها لعلل وأسباب هي عوامل النشوء والاستحالة…”[28]، ويقصد بوحدة الحركة أنها: ” تبدو فيما عليه الكائنات كلّها من حركة وتغيّر مستمرّ بحيث لا يثبت منها شيء على حال واحدة…”[29]، وضمن تلك الكائنات الكون بنجومه وأقماره، والأرض في واقعها الخاص، والموجودات من نبات وحيوان وإنسان.
2ـ استعلاء الإنسان على الكون:
بين الكون والإنسان وحدة جامعة بمظاهر مختلفة كما مر بيانه سابقا، ويبقى هذا الإنسان مخصوصا بخاصية الاستعلاء القيمي على باقي المخلوقات الأخرى.
ولهذا الاستعلاء مظاهر، وهي كالآتي:
أـ الاستعلاء الوجودي:
صاغ المؤلف تعريفا خاصا بهذا التجلي من تجليات الاستلاء الإنساني، حيث يقول: ” ذلك الوضع المحوري الذي وهبه الله للإنسان في نسبته من سائر الموجودات الأخرى حتى لكأَنّ الإنسان منذ وجوده أصبح كقطب الرّحى في تراجع الموجودات إليه تراجع تقدير وخدمة.”[30]، لفهم هذا المعنى يشير المؤلف إلى خلق الإنسان من علق، وتمييزه وتخصيصه بعد ذكر خلق المخلوقات كلها[31]، كما أن هذا الاستعلاء الإنساني يفهم في سياق سجود الملائكة لآدم، فيما امتنع إبليس على ذلك مما يدل على حقيقة استعلاء الإنسان.
ب ـ الاستعلاء التكويني:
ويقصد المؤلف بهذا المظهر أيضا :” أن الإنسان في تكوينه استجمع من عناصر التكوين ما تفرّق في الكون منها، بحيث انفرد بهذا الاستجماع عن كلّ ما سواه من الموجودات، فالعناصر الموجودة في الكون ترجع إلى عنصرين أساسيين: روحي ومادي، والإنسان قد استقلّ بالجمع بينهما كما بيّنه قوله تعالى ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّے خَٰلِقُۢ بَشَراٗ مِّن صَلْصَٰلٖ مِّنْ حَمَإٖ مَّسْنُونٖ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُۥ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِے فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَۖ(29) ﴾ ( الحجر:28،29)“[32]، وهذا المعنى يؤكده المؤلف مرة أخرى، في سياق بيان رفعة الإنسان، حيث يقول:” إن استجماع الإنسان لعنصري المادّة والرّوح دون غيره من الموجودات هو الذي ارتقى به إلى مرتبة كيفية أصبح بها مؤهلاً للتّكليف وتحمّل الأمانة، وناهيك بذلك رفعة واستعلاء.”[33]
ج ـ استعلاء التمثل والاستيعاب:
عبر المؤلف عن مقصوده من هذا المظهر، فقال:” إن الإنسان قد خُصّ بقدرة معرفية تمكّنه من أن يستجمع صورة الكون في ذهنه تمثّلاً واستيعاباً”[34]، ومما يبين هذا المعنى ويوضحه قول المؤلف: ” فتعليم الأسماء كلّها إنما هو إشارة إلى قدرة الإنسان على تصوّر مسمّيات الأشياء وما تنبني عليه من قانون في تكوّنها وتصاريفها.”[35].
هذا المظهر من مظاهر الاستعلاء له أثره على الإنسان بحيث إن ” الإنسان لمّا يكون مستوعبا للكون في قوانين سكونه وحركته، فإنّه إنما يكون قيّما عليه معنوياً بما يُنتَزَع منه من خوف ورهبة إزاءه، وماديا بما يتيسّر له من سبل الاستثمار لِمرافق الكون بذلك العلم.”[36]
3ـ تسخير الكون للإنسان:
وخلاصة هذا المظهر أن الوحدة بين الإنسان والكون، وكذا استعلاء الأول على الآخر، كل ذلك نتج عنه تسخير هذا الكون للإنسان لينتفع به ويحسن استثماره في الخلافة عن الله في الأرض.
ومن مظاهر هذا التسخير ما يلي:
أـ التسخير لأجل الوجود:
والمقصود به: ” أنّ الكون بُني بالقدرة الإلهية على قوانين كمية وكيفية تناسب تماما الكيان الإنساني في وجوده ابتداء،… فتسخير الشّمس والقمر إشارة إلى إعداد الكون كمّياً ليناسب وجود الإنسان، وتسخير اللّيل والنّهار إشارة إلى إعداده كيفيا لذلك.”[37]، وبعبارة أخرى لقد خلق الله الكائنات وقدرها وسخرها لتناسب وجود الإنسان.
ب ـ التسخير لاستمرار الحياة:
يشرح المؤلف هذه الصورة من صور التسخير حيث يقول: ” فقد خلق الله الموجودات وصرّف شؤونها بحيث تستجيب لنزوعه إلى حفظ حياته، وإلى إنجاز خلافته على الأرض، وإلى قدرة التعامل العمراني مع الطبيعة تعاملاً إيجابياً فعّالاً،…”.”[38]
ثم عرض بعض مظاهر هذا التسخير ومن ذلك: ” تيسير أسباب الاستزراع في سبيل الحصول على الغذاء…” [39]، و” تيسير سبل التنقّل عبر المكان، والتمكين من وسائله، سواء في البرّ… أو البحر…”[40].
ج ـ التسخير للاستيعاب المعرفي:
يعبر المؤلف عن مقصوده بهذا التسخير حيث يقول” كما أنّ الكون مسخّر للإنسان تسخيراً مادياً لاستثماره، فإنّه مسخّر له على المستوى المعرفي لاستيعابه وتمثّله. ويظهر ذلك في انبناء الكون في مادّته وحركته على قوانين وضوابط ثابتة لا يداخلها الاضطراب والفوضى، وهو ما وصفه الله تعالى في قوله: ﴿ مَّا تَر۪يٰ فِے خَلْقِ اِ۬لرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖۖ ﴾ (الملك:3)“[41]
يشير صاحب الكتاب إلى أن ” القوانين الثابتة التي أُخضِعَ لها الكون هي أساس العلم به؛ إذ تتيح للعقل أن يرصد الظواهر الكونية ليتمكّن بالمقارنة من النفاذ إلى القوانين التي وراءها لاستيعابها وتمثّل دلالتها.”[42]
وحول الاستيعاب المعرفي هذا يقول المؤلف: ” لقد كان تسخير الكون للإنسان في مظاهره المختلفة مَلْحَظاً مهمّاً للمفكّرين الإسلاميين في العقيدة، إذا أبرزوا التّناسب المكين بين الكون في مرافقه وقوانينه، وبين الإنسان في بنيته وحاجاته، وبنوا على ذلك التّناسب جملة من المعاني العقدية…”[43] ثم قدم أمثلة على تلك المعاني العقدية التي استفادها هؤلاء المفكرون الإسلاميون في مجال العقيدة.
4ـ أثر الايمان بهذه العقيدة:
بعدما تناول المؤلف ما تناوله من حقائق ومعاني ترتبط بمنزلة الإنسان في الكون، من خلال مستويات متعددة ومتنوعة، خلص إلى جملة من الآثار التي تنتج عن الإيمان بتلك العقيدة، ومن ذلك ما يأتي:
ـ الشعور بالقرب من الكون. [44] فهو شعور إنساني نابع من عقيدة مكانة الإنسان في الكون.
ـ تقوية وشائج الألفة والمودة بين الإنسان وعناصر الطبيعة[45]، بحيث يصير الإنسان إلى الإحسان إلى تلك العناصر والتعامل الإيجابي معها.
ـ انتفاء مشاعر الخوف والعداء لعناصر الطبيعة.[46]
ـ الإقبال على الكون والانفتاح عليه والتعامل معه بتلقائية ويسر.[47]
ـ إحداث الفعالية والتأثير الإيجابي للإنسان في هذا الكون.[48]
إذا كانت تلك بعض الآثار الإيجابية للإيمان بتلك العقيدة، فإن عدم الإيمان بها والارتكاز إليها تنتج عن آثار سلبية يمكن فهمها من سياق بعض العبارات التي وردت في الكتاب، من قبيل قول المؤلف: ” والموضوع المرذول الثالث الذي يُجنّبه هذا التّصور العقدي الإسلامي هو استسهال البيئة الكونية، واعتبارها منكشفة الأسرار، مؤتية الأكل، فهو يؤدّي إلى السلبية المطلقة، والتكاسل عن السّعي، وينتهي إلى إلغاء مهمّة الإنسان على الأرض، وهو ما آل إليه أصحاب المذاهب المتواكلة من الصّوفية وأضرابهم.”[49]، ومنه فالسلبية المطلقة، والتكاسل عن السعي، الذي ينتهي إلى إلغاء مهمة الإنسان على الأرض، كل ذلك من الآثار السلبية لعدم الإيمان وحسن التعامل مع تلك العقيدة المذكورة عقيدة الإيمان بمنزلة الإنسان.
سادسا: مزايا الكتاب
للمفاهيم مكانة هامة في فقه المعرفة الإسلامية، ولقد بيان هذه المكانة باحثون ودارسون[50].
ومن أهم ما تميز به هذا الكتاب العمل على تقديم وصياغة مجموعة من المفاهيم والمصطلحات، من قبيل ” حسن التقويم” ، ” وحدة الوجود”، ” وحدة النظام” وغيرها من المفاهيم التي حفل بها الكتاب، حتى لكأنه ” كتاب مفاهيم”،و يمكن ضمه إلى ما أنتجه هؤلاء الباحثون.
لذا يمكن اعتبار الكتاب الذي بين أيدينا مرجعا أساسيا للباحثين والدارسين يعتمدونه في سياق بحوثهم، وبالتحديد تلك البحوث ذات الصلة بما سبق ذكره من المفاهيم
تختلف مرجعيات الباحثين والدارسين لموضوع الإنسان، بين مرجعيات تمتح من الوحي قرآنا وسنة، وبين مرجعيات أخرى وضعية تستقي معارفها حول الإنسان من خلال مرجعيات مخالفة تماما للوحي، ومنه فكتاب قيمة الإنسان، يتميز بشكل واضح لا يدع مجال للشك فيه، بأنه انبنى على معارف الوحي قرآنا وسنة، عبر منهجية اجتهادية في فهم ما تضمنه الوحي من حقائق ومعاني حول قيمة الإنسان. ولا أدل على ذلك ما ورد في الكتاب من نصوص قرآنية وحديثية، مع المجهود العقلي الهام من قبل المؤلف لبيان وتبين تلك الحقائق والمعاني.
سابعا: خاتمة
وختاما، فالكتاب ن الأعمال التي رامت تجلية النظر حول موضوع هام من المواضيع ذات الصلة بالإنسان، وقد اتضح هذا الأمر من خلال ثنايا صفحات الكتاب.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا المقال محاولة مختصرة لتجلية مكنونات الكتاب الذي بين أيدينا، ولا يدعي الإحاطة بتفاصيله الكاملة.
كما أنه قدم إشارات من بينها الحديث عن الأثر التربوي لكل من قيمة الإنسان الذاتية، ومنزلته في الكون، وذلك في شكل خلاصات يمكن القول عنها بأنها جاءت مختصرة لتفتح المجال أمام البحوث المهتمة قصد التوسيع والتطوير لتلك الآثار.
لائحة المصادر والمراجع:
1ـ قيمة الإنسان، الدكتور عبد المجيد النجار، سلسلة الإنسان في العقيدة الإسلامية، دار الزيتونة للنشر، الرباط ـ المملكة المغربية، الطبعة الأولى 1417ه/ 1996م
2ـ أبجديات البحث في العلوم الشرعية (محاولة في التأصيل المنهجي) ضوابط ـ مناهج ـ تقنيات ـ آفاق” ، الدكتور فريد الانصاري ،دار الكلمة للنشر والتوزيع ـ مصر ـ المنصورة، الطبعة الأولى 1423ه / 2002م.
3ـ الثقافة والعولمة وقضايا إصلاح الفكر والتجديد في العلوم الإسلامية، الدكتور سعيد شبار، دار الإنماء الثقافي ـ الرباط.
4ـ القرآن الكريم والدراسة المصطلحية، الدكتور الشاهد البوشيخي، سلسلة دراسات مصطلحية(4)، مطبعة انفوـ برانت، 12، القادسية، الليدو ـ فاس
الهوامش
[1] ـ الحديث هنا عن كتاب قيمة الإنسان، الدكتور عبد المجيد النجار، سلسلة الإنسان في العقيدة الإسلامية، دار الزيتونة للنشر، الرباط ـ المملكة المغربية، الطبعة الأولى 1417ه/ 1996م
[2] ـ https://www.arrabita.ma/blog/katib/%D8%AF-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AC%D8%A7%D8%B1/ تاريخ زيارة الموقع: 11/10/2024م
[3] ـ “جمع أطراف أو أجزاء جسم علمي ما، متناثرة في أحشاء التراث، وإعادة تركيبها، تركيبا علميا، متناسقا” ” أبجديات البحث في العلوم الشرعية (محاولة في التأصيل المنهجي) ضوابط ـ مناهج ـ تقنيات ـ آفاق” ، الدكتور فريد الانصاري ،دار الكلمة للنشر والتوزيع ـ مصر ـ المنصورة، الطبعة الأولى 1423ه / 2002م، ص 75
[4] ـ ينظر كتاب قيمة الإنسان، وخاصة ثبت المصادر والمراجع، ص 99 وما بعدها
[5] ـ نفسه، ص 95
[6] ـ قيمة الإنسان، ص 94 و96، ففي الصفحة 94 هناك عبارة دالة على النقد وهي :” ولعل تراجع الروح الدينية في العالم الغربي، والافتتان بالعلم في قدرته الكشفية والتكنولوجيا الهائلة هو السبب في إغراء الانسان بمصارعة الطبيعة بقصد اخضاعها لرغائبه المادية” وفي الصفحة 96، يقول المؤلف :” ومن تلك الأوضاع المرذولة أيضا استعظام المادة الكونية…”
[7] ـ من تعاريف المنهج الوصفي “يقوم على استقراء المواد العلمية، التي تخدم إشكالا ما، أو قضية ما، وعرضها عرضا مرتبا منهجيا،” نفسه، ص 66
[8] ـ قيمة الإنسان، ص5
[9] ـ نفسه، ص 8
[10]ـ نفسه، ص 12
[11] ـ قيمة الإنسان، ص 17ـ 18
[12] ـ نفسه، ص19
[13] ـ نفسه، ص23
[14] ـ قيمة الانسان، ص 25ـ26
[15] ـ نفسه، ص33
[16] ـ نفسه، ص42
[17] ـ نفسه، ص44
[18] ـ نفسه، ص44
[19] ـ نفسه، ص 55
[20] ـ قيمة الإنسان، ص 58
[21] ـ نفسه، ص 60
[22] ـ نفسه، ص 61
[23] ـ قيمة الإنسان، ص61
[24] ـ نفسه، ص 61
[25] ـ ينظر، قيمة الانسان، ص 63
[26] ـ نفسه، ص 64
[27] ـ نفسه، ص 65
[28] ـ نفسه، ص65
[29] ـ نفسه، ص 66
[30] ـ قيمة الإنسان، ص 69
[31] ـ ينظر، قيمة الإنسان، ص69
[32] ـ نفسه، ص71
[33] ـ نفسه، ص 73
[34] ـ قيمة الانسان، ص 73
[35] ـ نفسه، ص 74
[36] ـ نفسه، ص 74
[37] ـ نفسه، ص 75
[38] ـ قيمة الإنسان، ص76
[39] ـ نفسه، ص77
[40] ـ نفسه، ص77
[41] ـ نفسه، ص78
[42] ـ نفسه، ص78
[43] ـ نفسه، ص79
[44] ـ ينظر، قيمة الانسان، ص83
[45] ـ نفسه، ص83
[46] ـ نفسه، ص83
[47] ـ نفسه، ص84
[48] ـ نفسه، ص88
[49] ـ نفسه، ص97
[50] ـ من المهتمين بالمفاهيم في سياق بناء المعرفة الإسلامية ، الدكتور الشاهد البوشيخي، حيث نبه على أهمية المفاهيم في مشروعه العلمي الفريد، يقول البوشيخي:” لاجرم أن الوحي قرآنا وسنة مجموعة من المفاهيم؛ إذا حُصِّلَتْ حُصِّلَتْ كليات الدين، وإذا لم تفقه لم يفقه الدين.” الدكتور الشاهد البوشيخي، القرآن الكريم والدراسة المصطلحية، سلسلة دراسات مصطلحية(4)، مطبعة انفوـ برانت، 12، القادسية، الليدو ـ فاس. ص 6، فهذا نص إلى جانب نصوص أخرى من الكتاب نفسه، معبرة عن اهتمام صاحب الكتاب بدراسة المفاهيم.
من الباحثين الذين اهتموا بموضوع المفاهيم، الدكتور سعيد شبار، ولمزيد من التعرف على عنايته بهذه المسألة يرجع إلى كتابه، الثقافة والعولمة، حيث وقف الباحث عند مفهوم الإصلاح، لمعرفة الامر بشكل أكبر، يرجع إلى كتاب الثقافة والعولمة وقضايا إصلاح الفكر والتجديد في العلوم الإسلامية، الدكتور سعيد شبار، دار الإنماء الثقافي ـ الرباط، ص 60 ومابعدها.
تجدر الإشارة أن ما ورد حول اهتمام الباحثين المذكورين، في علاقته مع صاحب الكتاب المقصود منه إبراز مدى المشترك بينهم جميعا، فيما يتعلق بدراسة المفاهيم، على أنه لا وجود تقاطع تام بينهم حول كيفية دراسة المفاهيم.