كثيرةٌ هي الكتب والمقَالات والمُحاضرات التي حاولت مقَاربة مفهوم الإصلاح، والوقوف على لفظة “الإصْلاح” وتناولها بالدراسة والتَّحليل تعريفا وتصنيفا، تدقيقا وتحقيقا، بحسب سياقاتها التاريخية ودلالاتها المرجعِية، من الوَضع إلى الاستعمال، باعتبارها مفهومًا من المفاهيم المركزية، والمصطلحَات المفتاحية في بنية المعرفة الإنسَانية عموما، والإسلامية خُصوصا.
ومن بين المحَاولات العِلمية الجَادة والرَّصينة والعميقة، نجد كتاب أستاذنا الدكتور إسمَاعيل الحسني الذّي أبدع وتميز في كتابه الموسوم ب: “مفهُوم الإصْلاح في القُرآن الكَريم، دراسةٌ في أسبَابه ومظاهِره” الصَّادر عن المعهد العَالمي للفِكر الإسْلامي في طبعته الأولى سنة 1438ه/2017م، مكتب الأردن-عمان، والذي يتكون من 167صفحة من الحجم المتوسط.
والكتابُ الذي بين أيدينا، والذّي سنقدم له قراءة وصفيةً تحليليةً، يتكون من مقدمة وأربعة فصول وخاتمة بالإضافة إلى لائحة المراجع وكشَّاف للأعلام والمصْطلحات،
- المقدمة: الأسئلة الناظمة للكتاب
في المقدمة أثار الأستاذ جملة من الإشكالات المرتبطة أساسا بأهمية مفهوم الإصلاح، من خلال الإحالة على جملة من المقولات الفكرية التي تصدها له بعض المفَكرين المعاصرين كالدكتور عبد الله العروي والدكتور محمد عابد الجابري والدكتور طه جابر العَلواني، ليخلص إلى نتيجة مفادها أن الخطاب الإصلاحي في حاجة إلى تطوير واستئناف، مع التنصيص على ضَرورة الانطلاق من المرجعية القرآنية في هذا التّطوير والتّجديد.
في السياق ذاته يؤكد المؤلف”أن التفكير في الإصْلاح الذي جاء به القرآن المجيد واكتنزته سوره وآياته، هو في العمق مقاربة مسْتأنفة لسؤالين مفصليين ومتلازمين، لا يغني الجواب عن أحدهُما دون الجواب عن الآخر[1]:
- كيْف يكون فهمنا للإصلاح في القرآن المجيد فهما منهجيًّا؟
- كيف نطبق الإصلاح الذي جاء به القرآن على الأمة في كل زمان وفي كل مكان وفي كل مجتمع من مجتمعات الأنام؟
- وهل يمكن الظفر أو الإمسَاك المنهجي بالإصلاح القرآني عن طَريق التحليل اللغوي؟
وعند اشتباكه المعرفي في تحديد المعنى اللغوي لمفهوم الإصلاح يؤكد الدكتور الحسني أن التحليل اللغوي مهم ونافع، ولكن لا يفضي إلى الإمساك المنهجي ببنية مظاهر الإصلاح في الخطاب القرآني، كما لا يساعد على الإحاطة بالأسباب التي تكونه وتفرزه، لأن التحليل اللغوي محدود ولا يسعف في إبراز شبكة العلاقات المرتبطة بالخطاب الإصلاحي.
ولذلك يقترح الاشتغال على الإصلاح القرآني، وقد أورد جملة من التعريفات لعلماء مبرزين قدامى ومعاصرين، كابن تيمة والألوسي وابن عاشور والطبري وأبي حيان التجاني حامد، وأحمد العبادي، والخلاصة التي خلص إليها بعد تحليل تعاريف وموارد الإصلاح، هي ضمور الوعي بأسباب تكُوُّن الإصلاح وببنية مظاهره، أو بعابرة أخرى أنها تعريفات يلامس كل واحد منها جانبا من الجوانب المفصلية الذي جاء بها القرآن المجيد.
والإصلاح في نظَر المؤلف قبل أن يكون مفهوما علميا، هو مفهوم قرآني سيق في مقامات مختلفة، ينطوي على كُنوز من المعاني التي لا يحيط بها إلا الله تعالى، وفق سياقين، الأول: ماله مظاهر يعرضها القرآن المجيد، والثاني: سياق ما له من مظاهر يعرضها القرآن من أسباب تكونه.
- الفصل الأول: في الأسباب المكونة للإصلاح
يؤكد المؤلف أنّه قَام باستقراء لكتاب الله عز وجل، فاستَنبط سببين رئيسيين تنتظمُ في خيوطهما أسباب الصلاح والفساد، وتجد الإشارة إلى أن الإصلاح بكل مشتقاته ورد في القرآن حوالي 180مرة، في حين أن الإفسَاد ومشتقاته ورد حوالي 50مرة.
أما السبب الأول: فيتمثل أساسا في التدافع في مقابل الجمود، والسبب الثاني: التوسط في مقابل التطرف،
والتدافع حسب د. إسماعيل الحسني من المنظور القرآني يُستعمل في ثلاث مقامات ،1-مقام ينتظر العصاة والكافرين،2- مقام المواجهة العسكرية، 3-مقام المنازلة السلمية، وهو بذلك أداة من أدوات التوازن في الوجود الدنيوي الإنساني. وبالتالي فالتدافع لا يعني دائما التصادم الذي يروم مصارعة المخالف وتخريب عمرانه واستئصاله من الوجود في الأرض، وإنما يعني أيضا التنافس الذي يهدف على التعايش الذي يروم صاحبه مساكنة المخالف ولوكان معاديا.
ومنه فالتدافع بهذا المعنى منسجم مع منظومة القيم القرآنية، وخاصة قيمتي التعارف والاختلاف بدليل قوله تعالى في الآية الجامعة من سورة الحجرات: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾الآية: 13، غير أن القيم التي تنسجم مع مبدأ التدافع القرآني وتجمع بين التعارف والاختلاف، هي قيمة الحوار وهي ثاوية في قوله تعالى: ﴿ لِتَعَارَفُوا﴾ لأن المدخل الأسلم لتدبير الاختلاف، وبالتالي الوصول إلى تعارف بمضمونه الإنساني لن يتأتى إلا من خلال آلية الحوار بضوابطها وشرائطها.
وينبه الأستاذ إسماعيل الحسني إلى أمر في غاية الأهمية هو أن هذه المعاني القرآنية لا يمكن أن تسود الحياة الاجتماعية إلا من خلال الأثر الإصلاحي الذي يسهم في تشكيل شخصية الإنسان الفرد وتكوين المجتمع والأمة، بمعنى أن الإنسان الذي ينشأ ويترعرع في بيئة اجتماعية تؤطرها قيم التوحيد والعمران والتزكية والعدل والفاعلية والرسالية والاستقامة، يكون أقرب إلى الالتزام بمضمون التدافع القرآني باعتباره سببا من أسباب الإصلاح. فالذي تشبَّع بهذه المعاني لا شك سيعيش حياته في تدافع مستمر مع قيم الغش والفساد والمكر والاستبداد. الأمر الذي يجعل التدافع من أهم السبل للحفاظ على مصالح الدين والنفس والمال والعرض، سواء كان تدافعا سلميا أم تدافعا عسكريا.
ولذلك وجب على المؤمن الحامل لهمِّ الإصلاح التمكن من أدوات التدافع، والمتمثلة أساسا في التحكم في أداة نقد الجمود، وأداة نقد التناقض، ذلك أن أكبر مظهر من مظاهر الجمود هو عدم القدرة على تحمل تبعات المساءلة والمحاسبة والمراجعة. لأن النقد يدل على الفكر المتفتح والمؤمن المصلح متفتح لأنه قادر على الاستماع والاتباع.
فالتدافع النقدي -في نظر المصنِّف- بما يعنيه من استنكار المنكر، ومساءلة ومحاسبة، ضروري لمواجهة أنواع وأشكال الفساد، لأن الله تعالى لا يأخذ أهل القرى بظلمهم وفسادهم إذا كان أهلها يتحملون مسؤولية مقاومة أهله وانتقاد القائمين عليه.
أما عن أداة نقد التناقض، فتفيد أن نجاعة الإصلاح ومشروعيته تستمد من شخصية المؤمن المصلح الذي يجمع بين قيم الإصلاح وسلوك المصلحين، يعني ضرورة الاتساق بين القول والفعل والعلم والعمل في شخصية ومشاريع المصلحين، بدليا أن الله تعالى جمع بين القول السديد والعمل الرشيد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ الأحزاب، الآيتان: 70 – 71.
هذا بالنسبة إلى السبب الأول، أما السبب الثاني والذي حدده المؤلف في “التوسط في مقابل التطرف”، فقد بين أن للتطرف تمظهرات كثيرة حسب سياقاتها، مثال ذلك: الإسراف سواء تعلق الأمر بالأموال أم بالطاقات/العلو المقترن بالطغيان والظلم/ انعدام التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع/المبالغة في العقاب….
وفي التفاتة لطيفة وذكية يؤكد أن من تمظهرات التطرف الاحتفاء بالبناء العمراني في مظاهره المادية المختلفة والغفلة عن البناء الروحي للإنسان وما يحمله عليه هذا البناء من تعارف بين البشر ومن تعاون بينهم على البر والتقوى، لأن “العمران البشري، ولوكان من قبيل بناء الأبراج العالية وصناعة الصواريخ العابرة والطائرات النفاثة وتصميم المدن الضخمة، عمران ناقص ومهدد بالاندثار إذا لم يكن مبنيا على الأمن الروحي والاجتماعي، ولهذا نفهم المغزى الإصلاحي من دعوة إبراهيم في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ سورة البقرة، الآية:126″[2].
والمدخل الأسلم لمعالجة هذه الآفات هي الالتزام بمبدأ التوسط الذي لا ميل فيه ولا معه لا إلى التشدد الذي لا يقدر عليه عامة الناس وسوادهم الأعظم، ولا ميل معه إلى الانحلال الذي يرفع عنهم سلطان المسؤولية، والمقصود من التوسط ليس الميزان الحسابي الحديدي، وإنما الميزان التقويمي الذي يراعي أحوال الناس وواقعهم وسياقات معاشهم، وبهذا يكون الوسط سببا ينتج الصلاح والإصلاح، وليس مجرد فضيلة أخلاقية، وإنما هو سمة حضارية تؤهل الأمة الإسلامية لتتبوأ منزلة الشهادة على الناس رحمة بهم وخدمة لهم.
- الفصل الثاني: مظهر إصلاح الاعتقاد
إصلاح الاعتقاد هو المرتكز الأول في أي إصلاح، ولذلك اهتم به القرآن الكريم اهتماما كبيرا، قبل إصلاح التفكير أو إصلاح العمل، لأن الثاني والثالث مؤسس على الأول، وفي هذا السياق يؤكد الدكتور إسماعيل أن سيادة الإيمان وهيمنة مقتضياته على الوجود الدنيوي يكون صلاح الإنسان، ويكون بالتالي صلاح المجتمع والأمة، وقد بين هذه الحقيقة من خلال ثلاثية تلازمية، وهي:
- مبدئية حقيقة الوحدانية وفساد السماوات والأرض
- أركان الإيمان ومصالحه
- التصور الاعتقادي
وحُمادى القول في هذا الفصل أن صلاح العقيدة مقدمة لصلاح الحال والمآل، لأنها ترسخ مصلحتين عظيمتين، الأولى: مصلحة عقلية: لأنها تعلم الإنسان كيف يفكر، وكيف يحاور وكيف يناظر وكيف يجتهد؟ وتمكنه من أدوات الاستدلال والبرهان. أما المصلحة الثانية فهي مصلحة تحررية، لأنها تحررالإنسان من عبودية غير الله تعالى.
والتربية على هذه المعاني يثمر إصلاحا للاعتقاد، لأنها تنزه العقل البشري عن مخامرة الأوهام ومعاقرة الضلالات، وتؤهل الإنسان لتحمل أمانة الاستخلاف في الأرض ومسؤولية إعمارها، بدليل قوله الله عز وجل: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ الأحزاب، الآية: 72 .
- الفصل الثالث: مظهر إصلاح التفكير
هذا الفصل رغم قلة كلماته، لكن كثافة مضامينه تجعل من الدعوة إلى مدارسته، مدارسة جماعية لمن أهم توصيات هذه القراءة المتواضعة، هذا التقريب الوصفي.
ففي النقطة الأولى بين المبادئ العقلية لصلاح التفكير، وهي: مبدأ النظر إلى الأنفس والآفاق قصد استخلاص السنن والقوانين/مبدأ المحاسبة الذاتية أو “النقد الذاتي”/ مبدأ التثبت والتبين/مبدأ الموضوعية/مبدأ الحجية.
هذه المبادئ العقلية الخمسة لها أثر قوي في إصلاح تفكير الإنسان، لأنها تجعل تفكير الفرد والمجتمع والأمة تفكيرا سليما قويما، ويخلص الأمة من آفات الفساد والجهل والتقليد والإمعية.
- الفصل الرابع: مظهر إصلاح العمل
بعد إصلاح الاعتقاد، وإصلاح التفكير، ينتقل المصنف إلى دائرة إصلاح العمل باعتباره التجلي المادي لصلاحهما، ويقترح في هذا الصدد ثلاثة أبعاد لإصلاح العمل، وهي:
العمل النَّفسَاني/ العمل البَدني/ العمل التدْبيري
بالنسبة للعمل النفساني وجب التمييز فيه بين مسلك التحلي ومسلك التخلي، بحيث وجب التحلي بقيم التواضع والحِلم والحب والود والقناعة والكرم والصدق والوفاء والعفو… في وجب الانتهاء عن الكبر والعُجب والغضب والغِل والحقد والحسد والشَّرَه والكذب… ذلك أن تتبع مادة صلح وفسد في القرآن الكريم تبين البعد النفساني لمفهوم الإصلاح.
والمنهج الأقوم للإصلاح النفساني من المنظور القرآني يتمثل في تزكية الإنسان باعتبارها مقصدا من مقاصد البعثة المحمدية، ﴿هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين﴾ (الجمعة: 2)، وقوله تعالى: ﴿ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم﴾ (البقرة:129).
وتزكية الإنسان هي تطهير إصلاحي للنفوس يزاوج بين التخلية والتحلية، وذلك من خلال الاستثمار الأمثل للعبادات الإسلامية، في تكامل مع الأدوار التقويمية للمحاسبة الذاتية، التي تجعل من العمل النفساني سلوكا تدافعيا بين التخلي والتحلي، التخلي عن أخلاق الجاهلية، والتحلي بالأخلاق الإسلامية، وسرُّ الإصلاحِ الإحياء: إحياء القلوب على حدّ تعبير العلامة فريد الأنصاري رحمه الله تعالى.
أما بالنسبة للعمل البدني، فهو مرتبط أساسا بأمانة الاستخلاف في الأرض، ذلك أن أداء التكاليف لا يكون ببنية بدنية فاسدة، وبالتالي فقد دعا القرآن الكريم إلى المحافظة على السلامة الجسدية، فروح الفكرة الإصلاحية وارد أولا وقبل كل شيء في المظهر البدني أو الجسمي للإنسان.
والجسم الإنساني ليقوم بأدواره ويضطلع بوظائفه في الحياة توحيدا واعمارا لا بد وأن يكون صالحا، وبالتالي لا بد أن يأخذ حظه من الأكل والشرب واللباس والدواء والرعاية والطيبات، ويبتعد عن الخبائث والمحرمات حفاظا على سلامة البدن وصلاحه، ولكن يستثنى من ذلك ما كان في حالات الضرورة ووضعيات الحرج.
فكانت سلامة البدن وعافيته من المقاصد الإصلاحية القرآنية، حيث سخر الله تعالى الكون وما فيه، من أجل التفاعل الإيجابي مع رسالات القرآن المجيد تلقيا وبلاغا، لأنه نوع من النهوض والمبادرة إلى العمل بما اكتنزه القرآن العظيم من أحكام وهدى ورحمة وتعاليم.
أما البعد الثالث المتعلق بالعمل التدبيري فقد ربطه بمسؤولية الاستخلاف وأمانة الخلافة، بما هي تدبيرٌ صالحٌ لشؤون الحياة وفق ما يقتضيه الفعل الإصلاحي من تدابير الإعمار والإنماء.
وفي مقابل العمل التدبيري الصالح نجد العمل التدبيري الفاسد، الذي يتخذ صورتين، الأولى عسكرية، قالت تعالى: ﴿قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون﴾ (النمل:34)، والثاني مجتمعية، ومن مظاهرها: الفساد البيئي/ فساد التناقض بين الشعارات المرفوعة والأعمال الممارسة/ فساد الانتماء/فساد الولاء/الغش/العلو/مفسدة التكبر والتجبر/ مفسدة التفريق إلى شيع/ مفسدة الاستضعاف.
والملاحظ أن مظاهر فساد التدبير في القرآن الحكيم كلها منتظمة في عنصر مشترك هو الفساد الأرضي، ولذلك كان النهي القرآني عن الفساد والإفساد في الأرض قال تعالى: ﴿ولا تعثوا في الأرض مفسدين﴾ (هود:85). وقوله تعالى: ﴿ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها﴾ (الأعراف:56).
إن الدعوة القرآنية إلى العمل التدبيري الصالح، تستند إلى مراعاة مصالح العباد في المعاش والمعاد، والتي تشمل المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية والإنسانية، لأن المصالح هي البوصلة أو الكعبة التي تحدد سير الفقيه أو المفكر في الإسلام، والتي تنتظم خيوطها في عنصر الإصلاح الأرضي، لأن المطلوب من الإنسان المستخلف هو إصلاح الأرض لا إفسادها، عبر وراثة الأرض قال تعالى: ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ (الأنبياء:105).
- خاتمة
من الخلاصات التي استقرت عليها مخرجات هذه الدراسة أن مفهوم الإصلاح في القرآن الكريم يحتاج إلى مزيد من البحث والتدبر من أجل تقديم تعريف يستحضر مستوى الأسباب المفضية للصلاح أو المؤدية للفساد، ومستوى المظاهر التي يتجسد فيها كل من الصلاح والفساد، علما بأن بنية الإصلاح بنية مركبة و متماسكة من الأسباب والمظاهر، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن فعل الإصلاح نتيجة يفضي إليها سلوك منهجي قوامه التدافع والتوسط في مقابل الجمود والتطرف.
بهذا الفهم المنهجي للإصلاح، يتَخَلَّص المؤمن المنخرط في مشروع الإصلاح، والحامل لِهَمِّ الإصلاح، من متاهات اليأس والقنوط، ويُخَلِّص خطابه الإصلاحي من التيئيس والتبخيس، ويفتح أمامه آفاق التفاؤل والأمل، والثقة والعمل، يقول تعالى: ﴿إن أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله﴾ سورة هود.
لكن يبقى السؤال الكبير، ماهو التعريف القرآني للإصلاح؟ وكيف نُفعِّل الإصلاح ونتحقق بالوراثة الحضارية للأمة التي بشر بها القرآن المجيد؟ وكيف نتلمس سبيل الخروج من الضعف والهوان؟ والانعتاق من الفساد والاستبداد؟
في خاتمَة هذا القراءة المتَواضعة أؤكد أن هذا التقريب لا يُغني عن قراءة هذا الكتاب القيِّم قراءةً عميقةً، ومدارستِه عبر زُمر الباحثين في فكر الإصلاح، وكذلك المنسلكين في فعل الإصلاح، بله المنظرين لأفق الإصلاح، من أجل الظفر بحقيقة المفهوم القرآني للإصلاح.
سحر 30جمادى الأولى1441ه/26يناير2020م
مكناسة الزيتون
عبد العزيز الإدريسي
والحمد لله رب العالمين
[1] -إسماعيل الحسني، مفهُوم الإصْلاح في القُرآن الكَريم، دراسةٌ في أسبَابه ومظاهِره، ص:18.
[2] -إسماعيل الحسني، مفهُوم الإصْلاح في القُرآن الكَريم، دراسةٌ في أسبَابه ومظاهِره، ص:58.