تقديم:
تروم هذه الورقة إبراز بعض معالم التفكير الفينومينولوجي عند الفيلسوف والمفكر الفرنسي “موريس ميرلوبونتي” [1908 ـ 1961] (Merleau-Ponty)، من خلال قراءة في كتاب “نظرية المعرفة عند ميرلوبونتي” لصاحبه الكاتب والمفكر المغربي الدكتور “عبد الرحمان اليعقوبي”، أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي، الذي نذر حياته الفكرية خدمة للفلسفة والفكر من كتاباته: “الحداثة الفكرية في التأليف العربي المعاصر”، فضلا عن العديد من المقالات والدراسات.
يبدو من الصعوبة بما كان الإلمام بفكر “ميرلوبونتي” وتمفصلاته الإبستيمولوجية، والوقوف عند كل التفاصيل وإدراكها إدراكا تاما في لحظة قصيرة، لذلك ستقتصر هذه الورقة على العناصر الآتية:
1ـ معمار الكتاب موضوعا للمناقشة؛
2ـ قراءة في مضامين الكتاب؛
3ـ فينومينولوجيا موريس ميرلوبونتي؛
4ـ مساءلة نقدية: نحو حوار مفتوح مع الكاتب.
أولا. معمار الكتاب موضوعا للمناقشة:
يقع كتاب “نظرية المعرفة عند ميرلوبونتي” في 268 صفحة من الحجم المتوسط، قدمه صاحبه في ترابط منطقي لستة فصول كبرى عبارة عن بحث في الأسس الضرورية لقيام نظرية المعرفة، وهي كالآتي:
- الأساس الفينومينولوجي؛
- الأساس السيكولوجي؛
- الأساس الوجودي (الأنطولوجي)؛
- مفهوم الوعي؛
- مفهوم العالم؛
- وحدة الذات والموضوع.
يضم كل فصل ثلاثة محاور، وينقسم كل محور إلى ثلاثة أو أربعة عناصر في توازن وتكامل، تجمع بينها المفاهيم الجوهرية المؤسسة لفكر وفلسفة ميرلوبونتي.
كما أن بيبليوغرافيا الكتاب غنية وبادخة، زاوج فيها المؤلّف بين مؤلفات ميرلوبونتي: (Structure du comportement, Phénoménologie de la perception, Sens et non sens, La prose du monde, Eloge de la philosophie, Le visible et l’invisible, …(
وبين المؤلفات التي اعتمد عليها ميرلوبونتي: مثل مؤلفات “إدموند هوسرل” و “ج.ب. سارتر” وخاصة كتاب الوجود والعدم (Etre et néant). إضافة إلى مراجع باللغات الأجنبية ومراجع باللغة العربية.
ثانيا. فينومينولوجيا ميرلوبونتي:
يُعد موريس ميرلوبونتي من أبرز ممثلي الفينومينولوجيا في فرنسا، حيث قدم قراءة جديدة للفينومينولوجيا، فعلى الرغم من تأثره بوضوح بكل من “إدموند هوسرل” و “مارتن هايدغر”، إلا أنه لم يكن يفكر مثلهما وإنما معهما، فهما يمثلان طرحين مختلفين: أحدهما يجعل من الفينومينولوجيا بحثا في المعرفة وهو الذي يمثله هوسرل، وثانيهما يعتبرها مبحصا في الوجود وهو الذي يمثله هايدغر.
ارتبط تصور ميرلوبونتي إذن؛ بإثباته لدعواه القائلة بأن الفينومينولوجيا ليست صياغة جاهزة بل هي إمكانية مفتوحة، تسعى لإيجاد حل لمشكلة الوعي.
وإذا كان هوسرل ينظر إلى الوعي كنقطة انطلاق، وأن مقولة الأنا المتعالية أساسية كحقيقة نهائية نصل إليها بعد عمليات الرد الفينومينولوجي بدءً بوضع العالم بين قوسين، مرورا بالرد الماهوي، وصولا إلى الرد المتعالي. فإن ميرلوبونتي على النقيض من ذلك حدد مفهوما جديدا للوعي، رافضا بذلك التشويه الذي لحق مفهوم الذاتية نتيجة ربطها بالوعي وعزلها عن وجودها الحقيقي الكامن في العالم، وتحويلها للعالم إلى مجرد “نويما فقط”.
وبالتالي فبدل أن تكون الفينومينولوجيا دراسة لظواهر الماهيات في الوعي، يُقر ميرلوبونتي بأن التجربة الواقعية المعاشة بالعالم وبالآخرين هي أساس تفكيرنا ووعينا، وهذا ما أغفله هوسرل وكل فلسفات الوعي السابقة، مؤكدا أن الذاتية حضور مباشر في الوجود، واتصال بالعالم ومع العالم، كما أن كل وعي يولد في العالم، وكل إدراك هو ميلاد جديد للوعي. وهذا ما يوضحه ميرلوبونتي بقوله: “في صمت الوعي الحقيقي يمكن أن يظهر لنا ليس فقط ما تقوله الكلمات، وإنما أيضا ما تقوله الأشياء”.
ثالثا. قراءة في مضامين الكتاب:
يُعتبر الكتاب قراءة في فكر الآخر الغربي حول قضية المعرفة، التي تُبرز تلك العلاقة الجدلية بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، بين ذات تسعى لأن تعرف وبين موضوع قابل للمعرفة. في استحضار للسياقات الفكرية والتاريخية لفترة ما بين الحربين، ولمختلف السيرورات المؤسسة لهذه النظرة المعرفية.
إنها قراءة خاصة، قراءة “عربية” إزاء الغرب، تُبرز نظرة متبادلة بين “الهنا”و “الهناك”، مع عدم إمكانية الفصل بين السياقات الفكرية والمعرفية والاجتماعية والحضارية وبين التصور المعرفي للفيلسوف.
وهذا ما جعل الكاتب يستحضر سيرة الفينومينولوجي الفرنسي وعلاقاته الفكرية والاجتماعية، مشيرا، على سبيل المثال لا الحصر، إلى صداقة ميرلوبونتي مع الفيلسوف الوجودي “جون بول سارتر”، والتي سرعان ما تحولت إلى قطيعة وجفاء بينهما حول طبيعة الوجود في العالم، فسارتر يدافع عن فكرة العدم، بينما يرفض ميرلوبونتي هذه الفكرة إطلاقا.
تناول الكاتب المفاهيم الفلسفية المؤسسة لفينومينولوجيا ميرلوبونتي: الإدراك، البنية، الوجود، العالم، الرؤية، الوعي، المعرفة… من خلال عرض تبسيطي للعناصر المشكلة للأسس المعرفية لهذه النظرية. واعتمد المفكر في ذلك منهجا تاريخيا للربط بين الحقول المعرفية في إطار ما أسماه “إدغار موران” بتداخل التخصصات Interdisciplinarité) ).
مهد صاحب الكتاب لظهور الفينومينولوجيا كمشروع جديد لتجاوز الصراع الكلاسيكي القائم بين النزعتين التجريبية الواقعية والعقلانية المثالية، مشروع تجلى في الوجودية وفي الخطاب الوجودي، انطلاقا من القضايا الأساسية الآتية:
- وجود الإنسان سابق عن ماهيته، وهو الذي يحدد تفكيره ويؤسسه؛
- الوجود وجود في العالم (وجود فردي في علاقته بالعالم)؛
- ضرب النسقية في الفلسفة ورفض العقل أداةً لتفسير الوجود في العالم.
في ظل هذه الأسس النظرية نشأ الخطاب المعرفي لميرلوبونتي، وهذا ما أشار إليه في كتاباته الأولى حول بنية السلوك (Structure du comportement)، موضحا أن مشروعه يكمن في “معرفة علاقة الوعي بالطبيعة العضوية والسيكولوجية والاجتماعية أيضا”، باعتبار الطبيعة تمثل مجموع الحوادث الخارجية المتصلة والمرتبطة بعلاقات سببية أو علية.
تعتبر فلسفة ميرلوبونتي فلسفة غموض والتباس، فهو يحاول البحث عن بنية الإدراك والوحدة بين الذات والموضوع من جهة، وعن فكرة بناء المعنى في علاقة الذات بالموضوع من جهة ثانية.
وقد برر الكاتب عبد الرحمان اليعقوبي هذا الغموض بافتراض نوع من “الميل الصوفي” خلف المفاهيم والعبارات التي وظفها ميرلوبونتي ضمن مشروعه الفكري، في ما يُشبه مجازفة ومخاطرة فكرية، لكنه ميل طبيعي وليس ميلا صوفيا بالمعنى الديني، ميل إلى نوع من الاستكفاء الذاتي أمام إكراهات الواقع.
حدد الباحث غاية واضحة لمنتوجه الفكري متمثلا في معرفة الكيفية التي ربط بها ميرلوبونتي بين ما هو ذاتي و ما هو موضوعي، وفي إبراز كيفية بنائه لنظرية معرفية على أساس فينومينولوجي ـ سيكولوجي.
وهي الغاية التي قادته لطرح تساؤلات عميقة شكلت بنية موجّهة لمضامين وأفكار الكتاب: هل ثمة مشروعية للحديث عن نظرية للمعرفة لدى ميرلوبونتي؟ وكيف يمكن الحديث عن المعرفة مع أسبقية الوجود عليها؟ هل فكر ميرلوبونتي فعلا خارج الأسس التي بيّن رفضه لها؟ وكيف بنى تفكيره الفينومينولوجي انطلاقا من انشطار مفاهيم الله والإنسان وسائر الموجودات؟ وهل استطاع حقا تحقيق مشروعه الفلسفي بالجمع بين الوعي والطبيعة؟
تساؤلات وأخرى حاول الكتاب معالجتها وتقديم إجابة بشأنها، من خلال فصول الكتاب ومحاوره ومفاهيمه المعبرة عن الأسس النظرية لنظرية المعرفة.
يختم الكاتب أطروحته بالتأكيد على أهمية قراءة فكر الآخر مقتبسا آلية “علم الاستغراب” بتعبير “حسن حنفي”، على غرار “آلية الاستشراق” التي اعتمدها الغرب لقراءة الفكر العربي، مُعتبرا إنتاجه محاولة لفتح أف فكري قادر على حفز المساءلة والنقد، وإمكانية من بين إمكانيات عديدة، ما دامت كل الإمكانيات غير ممكنة في ذات الوقت بتعبير “ليبنتز”.
عبرَ ميرلوبونتي ومن خلاله استطاع الأستاذ عبد الرحمان اليعقوبي النبش في مختلف السيرورات والتيارات المؤثرة في الفكر الغربي المعاصر، باعتبارها قضايا تنتمي إلى المشترك الإنساني في تفاعل وتثاقف حضاري متبادل، رافضا القول بأسبقية فكر على آخر وأفضلية حضارة على حساب أخرى، بعيدا عن ثنائيات: الآخر/ النحن، التقدم/التأخر، البداية/النهاية، مركزية الأنا في مقابل “هامشية” الآخر… مُركزا على أهمية النهج الذي اتبعه ميرلوبونتي في مناقشة مختلف المدارس الفلسفية والسيكولوجية في إبداع منهجي وعبقرية “كوبرنيكية” ثورية دشنها بيكون وديكارت ولوك واسبينوزا وغيرهم…
إن تحليل ميرلوبونتي لنظرية المعرفة، حسب الكاتب، يُمكن أن يكون ذا قيمة مثلى في الفكر العربي لولا عائق غياب الإنتاج العلمي والتكنولوجي.
العمل ببساطة لحظة تأمل واعية ووقفة انعكاسية على الذات للتواصل مع الفكر الغربي وإثارة التفكير في قضايا جدلية تُمثل جوهر إشكالياتنا الفكرية بحثا عن خلاص مفكر فيه لتجاوز الأزمات والإخفاقات والنكسات…
رابعا. مساءلة نقدية ـ نحو حوار مفتوح مع الكاتب:
جعلتنا القراءة الأولى لمضامين الكتاب نعود إلى “ملخصات دروس كوليج دوفرانس” (1958)[1]، حيث اشتغل ميرلوبونتي على قضايا مرتبطة بوضعية الأنطولوجيا الجديدة التي لم تعد تُنصت فقط إلى داخل الفلسفة وليس لها صدى إلاخارج الفلسفة، لكونها غير قادرة على النظر إلى حالتها اللافلسفية، وتعيش أزمة شبيهة بأزمة العلوم الأوربية.[2]
قرر ميرلوبونتي العودة إلى عالم الحياة، إلى المعيش اليومي ومساءلته، مركزا على القضايا المهملة في الفلسفة كالجسد والإدراك واللغة وغيرها… مستعيدا عبارة “بليز باسكال” الشهيرة: “الفلسفة الحقيقية هي التي تتهكم على الفلسفة أي تكون خارج الفلسفة”.
وهنا يسجل إشارة حاسمة: “هناك شيء ما انتهى مع هيغل، بعد هيغل ثمة مران فلسفي، لكن لا يعني ذلك عدم وجود فلاسفة كبار وعباقرة أمثال: ماركس كيركجارد ونيتشه… لكنهم جميعا بدأوا بإنكار الفلسفة”. ويضيف ميرلوبونتي متسائلا: هل ينبغي القول مع هؤلاء إننا دخلنا عصرا لا فلسفيا أم أن الفلسفة كما يقول هوسرل “تولد مجددا من رماد”؟
بعد هذا الاستهلال لحوار مفترض ونقاش مفتوح مع الكاتب، يحق لنا أن نتساءل:
أمام تعدد وتنوع المراجع المعتمدة؛ بإمكان هوسرل أن يقول مثلا: أنا أعرف، ويستطيع فينومينولوجي آخر أن يقول أنا أعرف، ويستطيع كل مبتدئ في “الظاهراتية” أن يردد وراءهما أنا أعرف، لكن هل هناك معرفة مشتركة ومتفق عليها في الفينومينولوجيا؟
أليس تبريركم ـ الأستاذ عبد الرحمان اليعقوبي ـ لفلسفة الغموض بافتراض نوع من الميل الصوفي خلف تصور ميرلوبونتي تعبيرا عن ميل صوفي آخر يمتح من التراث الماضوي ومن مشروع نهضوي للأمة؟
هل استطاع الكاتب في طرحه التحرر من المعتقدات الجماعية وهل استطاع التفكير بحرية؟ وهنا يمكن الاستشهاد بعبارة (Montaigne): “الإنسان وحيد بلا عون خارجي، ولا سلاح له وهو يفكر بحرية غير أسئلته الخاصة”؟
هل كان لدى ميرلوبونتي ولدى الكاتب أيضا في مغامرته المعرفية كامل الشجاعة لتحمل العزلة الفكرية والأخلاقية كما الإغريق القدامى بتعبير هيغل: “لم يكن لديهم أي افتراض مسبق سوى السماء في الأعلى”؟
ارتباطا بالماهية في علاقتها بالوعي، وباعتبار الوعي ظاهرة وقائعية، هل بالإمكان اليوم تحويل الفينومينولوجيا وإنزالها من تعاليها و”ترنسندنتاليتها” ـ كما فعل ميرلوبونتي تماما ـ نحو الوجود الفعلي والواقعي في المجتمع الراهن، في ظل تعدد توصيفات الواقع/المجتمع: واقع مفرط في الحداثة، واقع شبكي، واقع مشتت، واقع منفلت، واقع سائل، واقع متعدد الروابط…؟
إلى أي حد يمكن اعتبار مقولات فينومينولوجيا ميرلوبونتي (الإدراك الحسي، الجسد الموضوعي، الجسد الخاص، الوجود في العالم، الوجود بالعالم…) امتدادا للمقولات الأرسطية والمقولات الكانطية؟ أم أنها على النقيض من ذلك تشكل قطيعة وانفصالا معها؟
لماذا وظف الكاتب مفهوم “الجسم” وليس “الجسد” كتفسير للوعي في نظرية المعرفة لدى موريس ميرلوبونتي؟
بالعودة إلى علاقة اللغة بالفكر أو الوعي: اللغة ليست علامة للفكر، كما هو الحال بالنسبة لظاهرة تحيل على أخرى كالدخان يحيل على النار مثلا، إذ لا يمكن للغة والفكر أن يمثلا هذه العلاقة الخارجية إلا إذا تم تقديمهما بشكل موضوعي في الواقع، حيث يتم تناول المعنى في اللغة واللغة في الوجود الخارجي للمعنى… فهل يعني ذلك أن الوجود كمسكن (Habitat) لا يمكن للغة الطبيعية التي تكتسب معنى واقعيا وموضوعيا من خلاله؛ أن تعبر عنه بعبارات فارغة من المعنى ـ بلغة “لدفيج فدجنشتاين”ـ تلك التي نوظفها ونتداولها في اليومي والمعيش المعتاد؟
أليست لغتنا/لساننا اليومي حاملا لوعي واقعي إمبريقي؟ أم أن وعينا الطبيعي هو الذي يصنع لغتنا اليومية ويشكلها قبل أن تتجلى وتنكشف واقعيا؟
ما موقع سؤال الحدث (Evénement) في فينومينولوجيا ميرلوبونتي؟ وكيف يتشكل الحدوث (Avènement) واقعيا في إطار وحدة الذات والموضوع؟ كيف يمكن للفينومينولوجي أن يصف الحدث لحظة بروزه؟ ألا يمكن القول إن مايقع وما يحدث يغيب ويختفي لحظة قيام الذات بتفكير انعكاسي على الحدث، تماما مثل قطعة موسيقية متصلة العناصر وممتدة في الزمن وتتصف بما أسماه “بيرغسون” بالديمومة ()؟
وأخيرا هل يتعلق الأمر في العلاقة الثلاثية بين (الله ـ الوجود ـ العالم) بزمن سرمدي مطلق أم بزمنيات متعالية عن الواقع ومفارقة له؟ كيف نبني وعينا بمفهوم الله مثلا، ووعينا بالوجود وبالعالم في زمن امبريقي واقعي أم في زمن مفارق لا يقبل القياس؟
[1]ـ موريس ميرلوبونتي: ملخصات دروس كوليج دوفرانس، 1958.
[2] ـ محاضرات الأستاذ مصطفى كاك، مركز تكوين مفتشي التعليم، مسلك تكوين مفتشي التعليم الثانوي، تخصص الفلسفة، الرباط، 2015 ـ 2017.