كانت بدايات التعرف على المفكر جاسم من خلال قراءة مقال تحت عنوان “البُعد العلمي لإشكالية التنمية”، تحدث فيها بأن جوهر نهضة الغرب لم تكن في الآلة، بل نهضة عبرت عنها ثورات للتجديد السياسي والديني والفلسفي والاقتصادي، قام بها العديد من العلماء والمُفكرين المهتمين بالعلوم الإنسانية، باعتبارها حامية الهوية، وعقل المجتمع وصوته، وبدون النجاح فيها فإن عملية التغيير تدور في فراغ مستمر.
ثم بدأت بعد ذلك في التعرف على مشروع النهضة الذي كرس حياته له عبر عدة مؤلفات ومنابر.
طرح جاسم سلطان المقاربات الفكرية والنهضوية، وإشكاليات التنمية. فعرّف بالعديد من مشاريع النهوض والمفكرين ورؤى الإصلاح والتجديد، وتشخيص الأمراض التي تصيب الفكرة الحضارية الدينية، والبحث من عن حقائق الإسلام، من أجل تقديمها كعناصر حية لبعث الأمة، والعمل على بعث الهمة وإثارة القلق السوي، كشرط محرض على مسؤولية الشهود الحضاري للأمة العربية والإسلامية.
إن المفكر جاسم سلطان أحد رواد الفكر النهضوي الحضاري داخل الوطن العربي والإسلامي، الذين بيضوا وجوه العديد من الصحائف والمراكز الفكرية، تأسيساً ونقداً ومراجعة، وتصحيحاً وتصويباً للمسار الاجتماعي، وكان له في حياته الفكرية العديد من المواقف، فقد عاش في عصر مضطرب السياسة.
في هذه المقالة سأتحدث عن الأفكار الرئيسية للمفكر جاسم سلطان وعن أهم الساحات التي أسهم فيها من خلال الاقتراب من مشروعه النهضوي.
يرتكز مشروعه النهضوي على بناء وتفعيل ” الكتلة الرسالية ” أو ” الكتلة الحرجة” كما يسميها، وهي الكتلة الموكل لها حمل المشاعل لإنارة الطريق للجموع والولوج لطريق المستقبل، فهي القادرة على تكوين حياة الشعوب ونهضتها، والانتقال بها من حالة اليقظة إلى حالة النهضة، بتشكيلها لتيار معرفي جارف يتسم بالتنوع والطلاقة والثراء المعرفي، والعمل في فضاء مفتوح. بحيث تستطيع هذه الكتلة أن تستوعب العقول الجديدة وتُفتح لها فضاءات التواصل والإنتاج المعرفي والدخول في دورة حضارية جديدة بنهجها الرباني.
يرى المفكر جاسم سلطان أنه بالرغم من مرور أكثر ما يزيد من قرن منذ بداية طرح فكرة النهضة، وتعدد أشكال الدول التي نشأت بعد الاستعمار ورحيله بشكل مُباشر من بلاد الوطن العربي والإسلامي، ورغم بروز الكثير من الشعارات والمقاربات المطروحة في الساحة العربية والإسلامية حول الحرية والتقدم والوحدة، إلا أنه لا شيء تولد عن هذا الحراك الذي استمر لفترات طويلة.
لهذا نجد المفكر جاسم سلطان ينطلق في بحثه هذا من التربية. فباعتبار ” البعد التربوي والعلمي يقع في قلب المعضلة” التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية. يحاول عن الإجابة عما إذا كان ضعف الجانب التربوي هو سبب تخلفنا عن ركب البشرية، أم أن تخلفنا وعدم اهتمامنا بالتربية هو سبب تخلفنا؟ فهو يعتقد بـأن هذا السؤال يحتاج إلى دراسة تاريخية للبحث عن جذور مشكلة التخلف في الوطن الإسلامي العربي.
يبدأ الدكتور جاسم سلطان عرض بحثه لأهم المقاربات والكتابات التي تناولت مسألة التربية والعلم والتنمية وعلاقتها بالنهضة، “من جدلية الكواكبي والأفغاني، اللذان يريان بأن الاستبداد هو أساس البلاء، وأن عدم استقلال وكفاءة النظام السياسي هو العائق الأساس في طريق التقدم والتنمية. ومحمد عبده الذي يرى بأن التربية هي المقدمة الرئيسية لبقية التحولات”، وتحليل أهم هذه المقاربات التي ترى بأن عنصر التربية هو نقطة البداية والانطلاق من أجل النهوض بالمجتمع العربي الإسلامي، وبين من يرى بأن الأولوية للإصلاح السياسي والإرادة العليا، والتي تتوسطهم بعد ذلك المقاربة التي تؤكد على أن شمولية التصور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي والإعلامي هما المدخل الرئيسي للإصلاح.
كما أنه يؤكد على أن منظومة التربية والتعليم تعمل في عدة سياقات مختلفة من أجل القيام بعملية التنمية وهذه السياقات، هي: ” السياق الحضاري الخاص بكل أمة، والسياق السياسي المحلي والسياق السياسي الدولي (المحيط الضاغط)”، وهذه السياقات هي الحاكمة لمنظومة التربية والتعليم، ” فعلى الأول تترتب طبيعة العلاقة بالعلم، وخاصة ما يخص التنمية بمعناها المادي، وعلى الثاني تقع قضية نقطة البدء واتخاذ القرار، وعلى الثالث تعتمد قابلية التمرير والضبط”[1]. من خلال بحثه حول إشكالية التعليم والنظم التعلمية والتربوية يؤكد بأنه ثمة ارتباك حاصل بين النظم التعليمية و”علاقتها بالعلم، خاصة العلوم النظرية المتعلقة بالدنيا، ساد خلال مرحلة التخلف، وماتزال قوته التأثيرية قائمة يلمسها كل مُحتك بالواقع الإسلامي وبالشاب المسلم اليوم، فليست المسألة فقط مسألة نظام تعليمي ضعيف، بكل ما يعنيه الضعف، ولكن جوهر العملية التعليمي مفقود وهو من أهم العلوم التي تحتاجها التنمية ونحتاجها لحماية الدين..”[2]. وتتأسس عملية الإصلاح التعليمي على المذهب الثقافي. بعبارة أخرى، تنطلق عملية الإصلاح من المجتمع ولخدمة المجتمع، فهمي تأخذ معناها من ثقافة المجتمع. لهذا يعتبر التعليم وعملية إصلاحه هو جزء رئيسي ومكمل لثقافة المجتمع، فالتربية عند الدكتور جاسم سلطان، هي ” الانتقال بالفرد من الواقع الذي هو عليه إلى المثل المنشود، بحسب كل مُجتمع” لتحقيق الدور الرسالي المنوط به، والقيام بالواجب تجاه المجتمع. ” فعملية التربية والتعليم والثقافة هي أداة من أدوات التنمية وليست مطلقة شرارتها؛ لأن إطلاق شرارتها هو رهن بالإرادة السياسية في الدولة المعاصرة؛ ونموذج محمد علي باشا – وهو الأمي غير المتعلم – خير شاهد على إمكانية انطلاق النهضة من نقطة تفتقد إلى التعليم، بمعناه النظامي، ولكن لديها الوعي بضرورة التنمية وبدرو التعليم فيها”. فالقرار والتمكين السياسي إلى جانب توافر نسبة من عديد العناصر الصالحة والقدرات الفاعلة هو وحده القادر على إطلاق عملية التنمية.
العبور إلى طريق النهضة والتنمية من زاوية التربية والثقافة، بتعبير الدكتور جاسم سلطان لن يكون عن طريق خلطة سحرية موجودة، بل هو مرهون ببناء ” العلاقة الصحيحة بالعلم، وهي منظومة تبدأ من تجانس الخطاب الموجه للنشء حول أهمية العلم وارتباط علم الكون بحماية الدين، وأهمية العمق العلمي ودوره في انتشال الأمة من محنتها”، حيث أنه ” كلما قل الخطاب التشكيكي في دور العلوم الكونية – باعتبار الخطاب التشكيكي يعد واحدًا من أهم معاول هدم مشروع التنمية والتقدم – كلما ازدادت فرص مشروع التربية والتعليم في بلوغ غاياته”[3]، وبناء المنظومة التربوية الفلسفية، وإعادة صياغة الأهداف الرئيسية للتعليم ومضامينه، والعمل على ربط العلم بالواقع، فالعلم مالم يرتبط بالواقع العلمي ويجيب عن تحدياته فلن ينتج لنا مانتمناه من نهضة علمية، ولن يتم ذلك ما لم يتم إصلاح فلسفة النظام التعليمي بالانتقال من الكم إلى الكيف[4].
يعرف الدكتور جاسم سلطان النهضة بأنها ” عنوان لأمنية راودت كل الأمم التي تعاني من التخلف ومعناها الرغبة في ميلاد جديد وموعد مع العمل والإنتاج والفاعلية بعد ركود”، وهي نتاج تفاعل أفكار حية مع الواقع. كما يرجع أسباب الركود والتخلف الذي أصيب بها العالم الإسلامي إلى عالم الأفكار، ومنظومته المفاهيمية، وانفصال الجهاز المعرفي عن الواقع، لهذ يرى بأنه “لا سبيل لعودته للفاعلية إلا بإصلاح جهازه المفاهيمي والمعرفي”، كما أن فقدان الفاعلية في العالم الإسلامي، ليس حدثاً عارضاً، بل هو نِتاج تراكم تصوّرات خاطئة ورؤية مشوهة للحياة مع غياب لجهاز النقد، لذلك يؤكد على ضرورة ممارسة النقد للوضع المعاصر والثقافة التي أفرزتها مجتمعات التخلف، فعمليات المراجعة والتقييم أمور مطلوبة ومُلحة من جميع شرائح المجتمع، ولا يحسبن أحد بأن هذه المراجعة والنقد وعمليات المحاسبة للذات تعني تدمير الذات، أو أنها تراجع، أو تنازل عن القيم والمبادئ، وإنماء هي مراجعات لا تأتي إلا من همّ وإرادةٍ، ناتج من مواقف قوة واقتدار وقلق سوي تجاه الأمة ومُستقبلها، لإزالة ما علق بالذات من شوائب وآثار من الغياب الحضاري. كما أن عمليات المراجعة والتقويم هي روح العملية الفكرية الحقيقة، بل هي غذاؤها. فالناقد والباحث والمفكر هم شُركاء في البناء الفكري والثقافي للأمة. وتحقيق النهضة والريادة الحضاريّة عند المفكر جاسم “لا يعدّ مطلباً إسلاميّاً فحسب، وإنّما يعدّ مطلباً إنسانيّاً، تسعى كلّ أمّة من الأمم على مدار الأزمان إلى تحقيقه باستجابات مختلفة، لتحدّيات التاريخ المختلفة، فينجح بعضها ويفشل بعضها الآخر”.
التغيير السياسي والاجتماعي والحضاري، الذي لا تحكمه ولا تقوده الفكرة، ولا تتحول فيه الفكرة إلى تربية روحية وسلوكية ومنهجية، ولا يتحول فيه ذلك كله إلى رسالة جماعية مشتركة، ينهض بها الجميع في المجتمع، عند المفكر جاسم سلطان هو تغيير سطحي آني لا أُفق له ولا فاعلية له في المجتمع. كما أنه يرى بأن عمق الأزمة التي تعاني منها الأمة العربية والإسلامية هي أزمة فكر منعكسة على الجانب الثقافي والتربوي والأخلاقي، قبل أن تكون أزمة سياسية أو اجتماعية اقتصادية، وهو ما يدعونا إلى ضرورة تجاوز أعراض الأزمة إلى عمقها الثقافي والفكري الأخلاقي المنهجي، إذا أريد لهذه الأزمة أن تُستأصَـل من جذورها فعلاً، وذلك دون شك أمر يتعلق بفعل فكري ثقافي أخلاقي متكامل، تقوم به “الكتلة الحرجة ” من أجل النهوض والتقدم بالمجتمعات، فإذا استقرأنا التاريخ؛ وجدنا أن هناك دائما كتلة تقوم بحمل لواء التغيير، وتبنى الأفكار وروى وأنماطاً جديدة للتفكير بالعالم المنشود والمشاريع النهضوية، ولنا في الأنبياء وتاريخ النبوات، وتاريخ الأفكار الكبرى، والأمم التي أخذت على عاتقها القيادة الريادة الحضارية في العالم أسوة حسنة. والخروج من الأزمة يحتاج تغييرا في العمق لا في السطح. لا تلوينا ممجوجا في الواجهات، وتبادلاً للأدوار على نفس الأرضية الفكرية والأخلاقية والتربوية والمنهجية المهترئة البئيسة التي تكرس التخلف.
كما أنه يرى بأن الأفكار التي نهضت بها البشرية هي نفسها التي جاء بها الإسلام، فهي قادرة على أن تنتشل أي أمة من التخلف، إذا فُهمت في سياق متكامل ومنتظم، فقيمة الإيمان وقيمة العمل الصالح، وقيمة القيام بالحق والواجب، وقيمة الوقت، وقيمة الصبر كلها هي الأسس التي تقام عليها الحضارات الكبرى، كما أنها أسس للإقلاع الحضاري، ولو أخذ بها أهل الإسلام أو أي أمة لكان حليفهم التقدم والنهوض. فخروج المجتمعات المسلمة اليوم من مأزقها التاريخيّ مرهون باستعادة فكرة العمل الصالح الذي أشار إليه القرآن وربطه بالإيمان في كلّ موضع”.
المتابع لمحاضرات الدكتور ومداخلاته يلاحظ الحضور المميز للتاريخ كأداة أساسية لفهم الحاضر، مستشهدا ومحللاً لمساراته ومستلهما منه العبرة، فهو مهموم بالبحث في حسن الأداء والفعالية لحركة النهضة واستئناف مسيرة التجديد الحضاري. ولذلك يعتبر اسما من الأسماء التي تضم الى قائمة رواد حركة الإحياء الإسلامي المعاصرة والمنظرين الذين جمعوا بين التعمق النظري والديناميكية الواقعية لحركة التغيير وقد كان من باكورة مؤلفاته “فلسفة التاريخ”، الذي ينم عن الانشغال المحموم بالمستقبل في دوائر الفكر والإستراتيجيات العالمية، حيث يمثل التاريخ بالنسبة إليه عنصر مهم وغني يُمكننا من خلاله استلهام أو استشراف المستقبل، لذلك يرى أنه وجب علينا نقله وتنقيحه مما قد شابه من مُحاولات للتحريف والتزوير، ثم بعد ذلك نَدرسه ونُدرّسه بيقينِ باعتباره شَرطٌ أساس للنهضة، كذلك ضرورة التنبيه إلى السنن التاريخية التي تعتبر دعماً للبشر، ومساعداً لهم في الابتعاد عن الوقوع والانزلاق في الخطأ مرة أخرى. فكل التجارب البشرية العريقة في القدم والموزعة على أقطار الأرض؛ هي تراث من العبر وسجل من الدروس لكل الناس إذا أرادوا أن ينظروا إليها ببصيرة واعتبار.
ومن الوعي بالتاريخ يدعو المفكر جاسم سلطان في كتابه “فلسفة التاريخ”، إلى ضرورة “بناء فلسفة للتاريخ قائمة على النظر إلى الوقائع التاريخية، والعمل على استنباط القوانين العامة الثابتة التي تتطور بموجبها الأمم والدول على مر القرون والأجيال”. فإذا كان الوعي بالتاريخ تتجاوز فائدته وثمراته حدود الاستفادة في حياتنا الحاضرة وبناء واقعنا المعيش، فإن فلسفة التاريخ ستمكننا من التأثير في المستقبل القريب. ومن خلال فلسفة التاريخ يمكننا اكتشاف” القوانين الموجّهة احركة المجتمعات والدول والنهضات، وأسباب صعودها وهبوطها”، فوظيفة فلسفة التاريخ قاصر “على توصيف هذه القوانين، ولكنّه ـ كأيّ علم آخرـ يسعى إلى اكتشاف القوانين من أجل استخدامها وتوظيفها لمعالجة الظواهر القائمة والمستقبليّة”.
يُعتبر التاريخ عند المفكر جاسم سلطان مصدرا مهما لنهوض أي أمة، تستثمره كعنصر فاعل للقيام الحضاري، إذا تم استخدامه بطريقة سليمه، لهذا نجده في كتابه “فلسفة التاريخ ” ينبه على جزئية مهمة، وهي كيفية استعمال التاريخ، والغاية منه، فكل مؤرخ أو باحث فيه أو مصور له، يريد أحد أمرين : إما رفع معنويات الأمة بما تحمله من ركائز بنت عليها ذلك للتاريخ وهذا ما يعرف “بالتاريخ الكبير “، أو تحطيم معنوياتها بمهاجمة تلك الركائز، انطلاقا من البحث في جزئية معينة في تاريخها تعمل على جعله مكروها لدى الأمم اللاحقة، وبالتالي نسف الركائز التي بني عليها ذلك التاريخ وهذا هو “التاريخ الصغير”. ولذلك نرى من يهتمون بتاريخهم من حيث رفع معنويات الأمة ذات التاريخ يركزون على إنتاج الأمة كاملة، لا مجرد مجون الطبقة الحاكمة بما في ذلك تعاطي الخمور والشغف بالنساء ونحوه من تناحر الأمراء، والتنقيب في التاريخ عن الروايات التي تصب في هذا المصب، من قبل البعض هو تكريس للتخلف وتشويه للذاكرة التاريخية للأمة، ولو كانت من أضعفها كما يسعى الكثير اليوم ممن يصورون التاريخ الإسلامي بهذا الشكل.
بِتعبير الدكتور أبو اليسر كهوس في كتابه “السنن الإلهية في السيرة النبوية”، يعد الدكتور جاسم من نخبة المفكرين المعاصرين في الآونة الأخيرة الذين بنوا صرح أطروحتهم المعرفية بتطوير آلية تحليل الأحداث بناء على فكرة “السنن”، أي القوانين التي وضعها الله لحكم جميع المخلوقات الجامد منها والمتحرك، والقوانين الناظمة لحركة المجتمعات، مصداقا لقوله تعالى (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا)، فالمطلع على المشروع الفكري للدكتور جاسم سلطان، يجده مهموم ثقافياً وفكرياً بدراسة النظم الاجتماعية لحركة التغيير الحضاري والسنن الحاكمة لعملية التغيير في الأنفس والآفاق على خطى المؤسسين ابن خلدون أولاً ومالك بن نبي لاحقاً، فهو يرى أن العقل المُسلم لم يتجاوز البحث في مجموعتين من مجموعات السنن وهما مجموعتي: سنن الآفاق وسنن الأنفس. فالسنن الإلهية هي الحاكمة على حركة التاريخ والعُمران الإنساني، مسالك مقننة لاسبيل للخروج عليها، أو معارضتها، فهي سنن تستمد حجيتها من دعوة القرآن الكريم إلى السير في الأرض، والنظر في تاريخ الأمم.
لهذا كان من واجب العقل المُسلم أن يفقه سنن الله فقهاً شاملاً واعياً. فالقرآن الكريم قد جاء مُبيناً للسنن المبثوثة في ثنايا تلك القصص الموجودة فيه، أو في خلقه ونواميسه المتحكمة في هذه الحياة، وذلك “لنتبين أسباب السقوط ودواعي النمو والإقلاع، فالقرآن الكريم يقدم معطياته التاريخية من أجل أن يحرك الإنسان صوب الأهداف التي رسمها الإسلام، ويبعده عن المزالق والمنعرجات التي أودت بمصائر عشرات بل مئات الأمم والجماعات والشعوب”. والأمر بالسير في الأرض ورد في القرآن الكريم مرات متعددة تزيد على أربع عشرة مرة، لدفع العقل المسلم إلى السير والنظر والتعقل، في السنن الحاكمة والناظمة للكون من أجل الانتفاع بها في الأوقات الحاضرة والقيام بِعمران الأرض بحياة الإنسان، وعمران حياة الإنسان بالخير والعمل الصالح، والارتقاء بالحياة ومقوماتها من خلال الإنجازات العمرانية المادية والمعنوية معاً.
يقول المُفكر مالك بن نبي بأن “ميزانية التاريخ ليست رصيدا من الكلام بل كتل من النشاط الإيجابي الملموس ومن الأفكار التي لها كثافة الواقع ووزنه”. وهذا ما نجده في مشروع النهضة الذي يقوم عليه الدكتور جاسم سلطان ويتفرّغ له من خلال إلقاء المحاضرات والكتابة فيه، فقد استطاع من خلال خطابه واختلاطه بالشباب والسماع إلى أفكارهم ومناقشتهم بعيدًا عن الأنفة التي قد تعتري بعض المفكرين من الحضور الكبير والتأثير في كثير من المهمومين بفكرة النهضة والتقدم الحضاري. المطلع على مشروعه يستطيع أن يلاحظ كيف ساهمت كتاباته وأفكاره ومحاضراته ونشاطاته الفكرية في تكوين وعي حضاري لدى نخبة مثقفة ولدى قطاع كبير من شباب الأمة العربية والإسلامية المهتمين بإثراء التجربة الحضارية الإسلامية بالوعي والأفكار الحضارية المتوازنة والمعتدلة.
يمكننا هنا في النهاية القول بأن المفكر جاسم سلطان، يسعى في مشروعه إلى بناء الإنسان، من أجل تحقيق النهضة الحضارية للأمة وإعادة بناء المنهجية الفكرية للعقل المسلم المعاصر، وإعادة الإعتبار للإنسان وكرامته، فانتهاك كرامة الإنسان هي سبب الكثير من الكوراث الثقافية والسياسية والاقتصادية والسياسية والتنموية التي تعاني منها الأمة والمجتعات الإسلامية، “فالنهضة هي جوهرها وعي الإنسان، وإطلاق ممكناته، وتحرير إرادته”. فإنشاء أمّة جديدة يحتاج إلى أمرين كبيرين، أوّلهما: إعداد الإنسان الذي يتمتّع بسلامة القلب ومزود بمنهج سليم. ثانيهما: تعريفه بخالقه، وفلسفة حياته، ومهمّته، ومصيره، ومسؤوليّته عن ذلك المصير”. وتقديمه للساحة الحضارية بمعايير سليمة تمكنه من التبادل المعرفي والتعارف والحوار الحضاري، وتحقيق التوازن المنهجي الذي ينقذه من حالتي الارتماء والانغلاق، لأن كلتا الحالتين – الانغلاق والارتماء- تشكل نوعا من الأمراض الثقافية البعيدة عن مصباح الوحي، وتشكيل وعيه. على أن فترات التألق والإنجاز الحضاري في التجربة التاريخية الإسلامية جاءت ثمرة لنظرة متكاملة متناسقه، وإنجازية في جميع جوانب الحياة دون تغليب جانب على جانب آخر، بعيدا عن الانشطار الثقافي أو الغياب عن الميدان وممارسة الحضارة والتغيير الاجتماعي.
[1] جاسم سلطان: البعد العلمي لإشكالية التنمية، منشور ضمن كتاب إشكالية التنمية ورسائل النهوض … رؤية في الإصلاح لنخبة من الباحثين، إعداد نخبة من الباحثين والكتاب في مركز البحوث والدراسات (وقفية علي بن عبدالله آل ثاني، رحمه الله) وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – دولة قطر، ص 131
[2] جاسم سلطان: البعد العلمي لإشكالية التنمية، منشور ضمن كتاب إشكالية التنمية ورسائل النهوض … رؤية في الإصلاح لنخبة من الباحثين، إعداد نخبة من الباحثين والكتاب في مركز البحوث والدراسات (وقفية علي بن عبدالله آل ثاني، رحمه الله) وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – دولة قطر ص151
[3] جاسم سلطان: البعد العلمي لإشكالية التنمية، منشور ضمن كتاب إشكالية التنمية ورسائل النهوض … رؤية في الإصلاح لنخبة من الباحثين، إعداد نخبة من الباحثين والكتاب في مركز البحوث والدراسات (وقفية علي بن عبدالله آل ثاني، رحمه الله) وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – دولة قطر ص159
[4] جاسم سلطان: البعد العلمي لإشكالية التنمية، منشور ضمن كتاب إشكالية التنمية ورسائل النهوض … رؤية في الإصلاح لنخبة من الباحثين، إعداد نخبة من الباحثين والكتاب في مركز البحوث والدراسات (وقفية علي بن عبدالله آل ثاني، رحمه الله) وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – دولة قطر ص161