- المقدمة
لماذا كارل بوبر؟
قال الله تعالى : ﴿سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡـَٔافَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ﴾ [فصلت ٥٣].
إن الآية تنبئ أن الحقائق التي ستصل إليها العلوم الطبيعية (آيات الآفاق)، والعلوم الإنسانية أو الاجتماعية(آيات الأنفس)، هي الرهان الإلهي على حق هذا القرآن(الهاء في الآية تعود إلى تعود إلى القرآن الكريم)[1]، وإن البشرية في صيرورة علمية مستمرة تصحح نفسها بنفسها، فتزيد من رصيدها من عالم الغيب لصالح عالم الشهادة.
إذن فما أحرانا بالإحتفاء بكل إنسان أو منهج أو سبيل يظهر العلم الحق ويحكم منهجه ليصل إلى الحقائق؟
وكارل بوبر هو فيلسوف العلم الفذ في القرن العشرين الذي قدم للبشرية إسهامات كثيرة، سنامها الأول في منهج تمحيص العلوم وكيفية تقدم المعرفة كما سنرى في منطق الكشف العلمي، وثانيها في فلسفته السياسية والاجتماعية المعادية للشمولية، المناصرة للحرية، كما سنرى في كتابه المجتمع المفتوح وأعداؤه، فقدم نظرية في المنهج تميز بين العلم واللاعلم، ونظرية لصون الأنفس من الطغيان لتكون حرة تستطيع أن تبدع وتكتشف. فهو من أهم فلاسفة العلم في القرن العشرين إن لم يكن أهمهم على الإطلاق، وواحد من أهم فلاسفة السياسة والاجتماع، ونصير للديمقراطية وخصم للشمولية بكل صورها[2].
فمن هو كارل بوبر؟ وما هي التحديات التي كانت أمامه؟ وماهي إسهاماته الجليلة التي دفعت البشرية خطى إلى الأمام؟
- سيرته وتحديات عصره وإشكالاته
كارل بوبر (28 تموز1902 في فينا – 17 أيلول 1994 في لندن) فيلسوف نمساوي إنجليزي، من أصل يهودي، تحولت أسرته إلى المسيحية. درس الرياضيات، التاريخ، علم النفس، الفيزياء، الموسيقى، الفلسفة وعلوم التربية، وحصل على درجة الدكتوراة في مجال مناهج علم النفس الإدراكي.
نشأ كارل في مناخ أسري ثقافي ثري جدا، فقد كان أبوه مثقفا رصينا يعمل محاميا وأستاذا للقانون في جامعة فينا، حريصا على تنشئة ابنه؛ إذ كان يحثه على قراءة الكتب الفلسفية ويناقشه في أعقد المسائل.
أما أمه فتنحدر من عائلة موسيقية، نقلت شغفها إلى كارل وأثرت الموسيقى في بعض توجهاته الفكرية كما يقول، وقد اتقن العزف على البيانو.
وفي بدايته المبكرة انخرط في النشاط السياسي اليساري وأصبح ماركسيا لفترة ثم تركها إلى غير رجعة، كما تعرف بوبر على نظريات التحليل النفسي لكل من فرويد وآدلر عندما انخرط تحت إشرافه للعمل من أجل الأيتام والمحرومين. كما عاصر آينشتاين واستمع إلى محاضرة له عن النظرية النسبية.
ولعل من الأحداث المهمة أيضا، التي أثرت في بوبر وحفزته على الكتابة في الفلسفة الاجتماعية والسياسية هي ظروف الحرب العالمية الثانية وصعود النازية التي اجتاحت النمسا، فاضطر بوبر كيهودي إلى الهجرة إلى نيوزيلندا ثم انتقل إلى أنجلترا عام 1946 كلاجئ سياسي وعمل بعدها في معهد لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.[3]
نشأ بوبر في مناخ علمي في فينا، سادت فيه مدرسة فلسفية اسمها حلقة فينا أو المدرسة الوضعية المنطقية (Logical Positivism)، التي تميزت بالاهتمام بالمنهج كمدخل أساسي، وأردات أن تؤسس لفلسفة علمية تجريبية، وأن توحد العلوم جميعا، وكان أهم ما تبنته لتمييز المعرفة العلمية من اللاعلمية هو مبدأ قابلية التحقيق أو التأييد(Verification)، أي لا يوجد معنى لأي عبارة إلا إذا تمكن الإنسان أن يتحقق منها من خلال التجربة أو يؤيدها بشهادة الخبرة أو التجربة الاستقرائية خاصة.[4]
يقول كارل بوبر في كتابه الحدوس والتفنيدات كما يترجم عنه الدكتور عادل مصطفى:[كان الجو [في النمسا] يصخب بشعارات وأفكار ثورية، وبنظريات جديدة وجريئة، من بين هذه النظريات كانت النظرية النسبية لأينشتين بلا شك هي الأكثر استحواذا علي دون منازع، وثلاث أخريات أثرن اهتمامي أيضا: نظرية ماركس في التاريخ، ونظرية فرويد في التحليل النفسي، ونظرية ألفرد أدلر المسماة (علم النفس الفردي)][5].
ويقول أيضا: [بدا عملي في فلسفة العلم منذ خريف 1919، حينما كان أول صراع لي مع المشكلة: متى تصنف النظرية على أنها علمية أو هل هناك معيار يحدد الطبيعة أو المنزلة العلمية لنظرية ما؟. لم تكن المسألة التي أقلقتني، متى تكون النظرية صادقة، ولا متى تكون النظرية مقبولة، كانت مشكلتي شيئا مخالفا، إذ أردت أن أميز بين العلم والعلم الزائف، وأنا على تمام الإدراك بأن العلم يخطئ كثيرا وأن العلم الزائف قد يحدث أن تزل قدمه فوق الحقيقية][6].
- إنجازاته
ترك بوبر تراثا فلسفيا نوعيا ضخما، يمثل أجوبته على التساؤلات والإشكالات التي كان يصطخب بها عصره، سواء أكانت فلسفية أو علمية أو اجتماعية وسياسية، ونذكر هنا طائفة من مؤلفاته: منطق البحث العلمي، المجمتع المفتوح وأعداؤه، عقم المذهب التاريخي، الحدوسات والتفنيديات (مجموعة مقالات)، المعرفة الموضوعية، النفس ودماغها[7]… إلخ.
سنناقش أهم الإنجازات البارزة التي وسمت به ولا تزال وهي منطق الكشف العلمي ومبدأ القابلية للتكذيب الذي يمثل عماد فلسفته في العلم، وأهم أفكاره السياسية والاجتماعية التي بسطها في كتابه المجتمع المفتوح وأعداؤه ثم ألحقه بكتابه عقم المذهب التاريخي.
- مركز الفلسفة البوبرية في العلم
يقول بوبر: ما زلت أعتبر معيار القابلية للتكذيب مركز فلسفتي.[8] لقد لاحظ بوبر فرقا بين نظرية آينشتاين وبين نظرية فرويد مثلا، وضرب مثلا على تنبؤ آينشاين، أن الضوء القادم من نجم بعيد سوف ينحرف إذا مر بشمسنا بسبب إنجذابه إليها كما تنجذب الأجسام المادية، أي إن آينشاين سمح لنا بأن نختبر كذب قوله هذا من صدقه، وهذا غير متوفر عند فرويد مثلا أو آدلر أو ماركس، فأقوالهم تنطبق على كل شيء في المجال المعين الذي عملوا فيه!، ولذا فلا يمكن دحض أقوالهم.
وهذا الذي أتخذه بوبر معيارا لعلمية النظرية مميزا إياه عن العلم الزائف كالتنجيم، لكنه حفظ لماركس وفرويد وآدلر جهدهم بأن اعتبره جهدا ما قبل علمي أو قد يجد من يطوره ليبلغ مرتبة العلم عندما يمكننا من قابلية الاختبار وذلك بقابلية الدحض والتكذيب[9].وأستطيع أن أبسط فكرة بوبر من وجهة نظرنا نحن المسلمين، كما يلي:
إننا نؤمن أن الوجود يتكون من عالميّ الغيب والشهادة، لذا فإن النظرية الأصيلة يجب أن يكون لها ذراعان أو قدمان، أحدهما في عالم الشهادة والآخر في عالم الغيب، بمعنى أنها تفسر وتتنبأ، تفسر ما نشاهده في عالم الشهادة وتتنبأ بما في الغيب انطلاقا من عالم الشهادة أيضا، والمقصود هنا بالغيب هو الغيب النسبي الذي يكتشفه العلم مع الزمن(سنريهم…)، وقدمنا له بتلك الآية: ﴿سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡـَٔافَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ﴾ [فصلت ٥٣].
لذا فالنظرية التي لا تتنبأ لا يمكن دحضها أو غير قابلة للتكذيب!، كما في نظرية فرويد في التحليل النفسي، لأنها تقوم على الاستقراء المنطلق من الملاحظة، فهي تتكيف مع كل ما تشهده فتفسره! ولا تتنبأ.
وهنا يمكن أن نفهم مشكلة بوبر مع مبدأ الاستقراء الذي يعتبر عند الكثيرين والتجريبيين خاصة، مبدأ العلم الأوحد ومعياره القابلية للتحقق Verifiability ولا طريق سواه للمعرفة كما قال جون ستيورات مل[10]، وكما عند المدرسة المنطقية الوضعية التي انتقدها بوبر، وكان ديفيد هيوم هو أول من انتقد الاستقراء واعتبره قفزة ميتافزيقية لأنه يعمم قانونا كليا انطلاقا من مشاهدات محدودة، كما عده بوبر خرافة، وليس منهجا حقيقيا للعلم يقوم على الملاحظة حقا، بل إن الملاحظة محملة مسبقا بالنظرية Theory-ladenness of observation ، بمعنى أن العالم يبحث عن ملاحظات ومشاهدات تصدق ما وقر في نفسه مسبقا ليتحقق منه أو يؤيده، وهذا ما نقضه بوبر كليا بمبدئه الجديد القابلية للتكذيبFalsifiability وأحدث ثورة في العلم[11].
- فلسفته السياسية والاجتماعية
مثلما رأى بوبر أن العلم يتقدم من خلال تمحيص النظريات بالدحض والقابلية للتكذيب، لتصمد النظرية الأفضل تفسيرا والأكثر قربا إلى الحقيقة، بحيث يتم استبدال النظريات بشكل دائم فتنمو المعرفة الإنسانية، فكذلك يرى في السياسة، وهذا ما يشكل جوهر مفهومه للمجتمع المفتوح، فهو يرى أن اختبار السياسيات كاختبار النظريات يجب أن يكون تكذيبيا، لترصد النتائج غير المرغوبة وتستبعد الأخطاء والأشخاص غير المؤهلين، وهذا لن يتم دون مناخ من الحرية والتعددية والنقد الجريء، فالديمقراطية عند بوبر ليست مجرد حكومة تنتخبها الأغلبية، بل أن تتمسك بالنظم(المؤسسات) الحرة القادرة على نقد الحكام وتغييرهم دون دماء، وأن تكون قادرا على ابتداع وسائل تحقق غاياتك فلا يكفي أن تمتلك غايات وأهداف جيدة بل لا بد من أن تمتلك وسائل جيدة تحققها، لذا حارب بوبر الأنظمة الاستبدادية الشمولية التي تمنع هذه الآليات النقدية الحرة التي تراقبها وتصحح سيرها ورآها لا عقلانية ومصيرها سيكون إلى الفناء والدماء أو ستتطور ببطء مكلف، فالنجاح السياسي والاجتماعي هو عمل متواصل لحل المشكلات مثل تقدم المعرفة العلمية تماما.
وعلى هذه الأرضية انتقد بوبر كلا من أفلاطون وهيجل وماركس وكل فكر تاريخاني يريد أن يرسم حركة المجتمع وفق تنبؤات صارمة لا تتخلف! ويجزم بحتميته لا بتطوره المفتوح وكأنه نهر يجري في مجراه العتيد، أو إنه نسخ متكررة عن الماضي أو مثال ثابت، ويرى بوبر أن فكر ماركس جر الخراب على مجتمعات كثيرة[12].
- خاتمة
والخلاصة من كل ذلك أن مبدأ الاستقراء يكرس مفهوم الحتمية الكلية الذي بنيت عليه النظرة الكلاسيكة النيوتنية للكون، الذي انهار أمام نظرية الكم والنسبية، وتأتي هنا فلسفة بوبر متوافقة مع هذه الروح الجديدة التي تنبض بهذه النسبية؛ أي إن تصوراتنا العلمية ليس نهائية ثابتة نضيف إليها ثوابت جديدة مع الزمن، بل هي متطورة نقومها ونصححها مع كل نظرية أفضل ونقترب خطوة جديدة إلى الحقيقة النهائية وهكذا، أي إن العلم يصحح نفسه بنفسه، والنظرية الأكثر تفسيرا وأدق تنبؤا هي التي تصمد أكثر وتزيح الأقل تفسيرا والأضعف تنبؤا وهكذا تنمو المعرفة الإنسانية.
وإن صح هذا في مجال العلم الطبيعي (آيات الأفاق) فهو يصح في مجال العلم الاجتماعي أو الإنساني (آيات الأنفس)، لذا كان بوبر ضد المجتمع المغلق أو الشمولي أو الاستبدادي، بل مع المجتمع المفتوح الذي يبتدع أفضل النظم التي تصون حرية الإنسان وتضمن حياة طيبة له، وتظل تخضع للنقد الحر والتصويب والتحسين والإصلاح لتحل محلها نظما أكثر كفاءة وفعالية، وهذا ما ضمنتْه الشورى في شرعنا وطٌبق في صدر الإسلام لكنه خبا فيما بعد ليخيم ليل طويل من الاستبداد والطغيان.
ورسالة الإنسان في كل عصر ومصر هي أن يطير بذينك الجناحين، جناح العلم الذي يكشف له آيات الأنفس والآفاق فيشيد العلوم الطبيعية والإنسانية، وجناح التقوى الذي يقمع الطغيان وذلك بإقامة النظم السياسية والاجتماعية التي تقلم أظافره، وتشيع العدالة بين الناس، وأظن أن كارل بوبر يفيدنا هنا جدا كمسلمين لأنه أسهم إسهاما عظيما في المجالين، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أولى بها.
- المراجع
- البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود، معالم التنزيل في تفسير القرآن، تحقيق: محمد عبد الله النمر وآخرون، الطبعة4، المجلد 7، (القاهرة، دار طيبة للنشر والتوزيع، 1997 م).
- مصطفى عادل، كارل بوبر مائة عام من التنوير ونضرة العقل، الطبعة1، (بيروت، دار النهضة العربية، 2002).
- الخولي يمنى طريف، فلسفة كارل بوبر، الطبعة الأولى، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب1989).
- بوبر كارل، منطق الكشف العلمي، ترجمة ماهر عبد القادر محمد، الطبعة الأولى، (بيروت، دار النهضة العربية، 1986).
- الخولي يمنى طريف، مشكلة العلوم الإنسانية، الطبعة الأولى، (القاهرة، دار رؤية،2011).
[1]البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود، معالم التنزيل في تفسير القرآن، تحقيق: محمد عبد الله النمر وآخرون، الطبعة4، المجلد 7، (القاهرة، دار طيبة للنشر والتوزيع، 1997 م)، ص179.
[2]مصطفى عادل، كارل بوبر مائة عام من التنوير ونضرة العقل، الطبعة1، (بيروت، دار النهضة العربية، 2002)، ص9.
[3] الخولي يمنى طريف، فلسفة كارل بوبر، الطبعة الأولى، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب1989)، ص15.
[4]بوبر كارل، منطق الكشف العلمي، ترجمة ماهر عبد القادر محمد، الطبعة الأولى، (بيروت، دار النهضة العربية، 1986)، ص13.
[5] مصطفى، 19.
[6] الخولي، فلسفة كارل بوبر، 7.
[7]الخولي، فلسفة كارل بوبر، 18.
[8] الخولي، فلسفة كارل بوبر، 18.
[10]الخولي يمنى طريف، مشكلة العلوم الإنسانية، الطبعة الأولى، (القاهرة، دار رؤية،2011)، ص138.