ملخص:
تعتبر هذه القراءة في كتاب “المرض والإديولوجيا: مسارات الشباب للتعايش مع السيدا بالمغرب”، مدخلا من ثلاث عتبات أساسية تفكك مضامينه من ناحية المفهوم والمنهج والأبعاد السوسيو سياسية لموضوع السيدا. فعلى مستوى عتبة المفهوم ظل التناول السوسيولوجي للشباب متأرجحا بين عدة براديغمات كبرى، أما عتبة المنهج والمقاربة فلازالت تحظى بأهمية ابستيمولوجية بالغة في الدراسات الاجتماعية، في حين تكتسي عتبة الأبعاد السوسيوسياسية لموضوع السيدا طابعا نقديا نخضعها بدورنا للنقد من حيث طبيعة تناولها في الكتاب.
تقديم
صدر للباحث المغربي بوشعيب مجدول، كتاب “المرض والإديولوجيا: الشباب ومسارات التعايش مع السيدا بالمغرب”، عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة ابن زهر بأكادير، ويتكون الكتاب من 342 صفحة من الحجم المتوسط، تشمل مدخلا عاما وخمسة فصول (1- السيدا ظاهرة مبنية / 2- السياسات في مواجهة السيدا / 3- من تمثل الداء إلى الإصابة به / 4- حدث الإصابة كمنعطف في مسارات حياة المصاب / 5- استراتيجيات التعايش بصحبة الإصابة)، بالإضافة إلى خلاصات البحث ومسار الباحث. وهو مساهمة علمية، إلى جانب مقالات أخرى[1]، في إطار مشروع يحاول الباحث التأسيس له يعنى بأنثروبولوجيا الصحة والمرض بالمغرب.
يتضمن الكتاب مدخلا مفهوميا إضافة إلى خمسة فصول متساوية الحجم نسبيا، ففي الفصل الأول حاول الباحث أن يطرح قضية السيدا باعتبارها بناءا اجتماعيا متعدد الأوجه، فمن الناحية السياسية تعتبر السيدا تجليا للصراع السياسي والتجاذب بين التيارات سواء المستوى المحلي (نموذج جنوب إفريقيا)، أو الدولي (علاقات البرازيل وأمريكا)،، وأيضا من الناحية الثقافية والدينية سواء في المنظومة الدينية الإسلامية أو المسيحية، ثم من الناحية الصحفية ومحاولة إبراز كيف تؤثر وسائل الإعلام في التأثير على الرأي العام خصوصا خلال العقدين الأولين لظهور السيدا.
أما في الفصل الثاني فقد استعرض الباحث أهم البرامج والسياسات العمومية التي طرحتها الدولة في التعامل مع السيدا بدءا بمرحلة الاستكشاف وصولا إلى الالتفات إلى حقوق المصاب وإشراكه في برامج مكافحة الداء، بالرغم من استمرار الإعلام والخطاب الديني في نشر التمثلات السلبية حول الداء. وتطرق الباحث في الفصل الثالث، إلى مختلف الأدبيات النظرية التي تناولت مفهوم التمثلات الاجتماعية (D. Jodlet/ Moscovici)، ثم استعرض أهم التمثلات المرتبطة بالداء عند عينة المصابين المدروسة ومحيطهم الاجتماعي التي تبقى في الغالب سلبية وقدحية وتجلد الذات بسوط الإيديولوجيا.
وبما أن حدث الإصابة بالسيدا يكتسي أهمية بالغة فإن الباحث تناول التأصيل النظري لمفهوم الحدث وارتباطه بإشكالية الزمانيات Temporalités، وطرح خصوصيته في ارتباطه بداء السيدا، حيث يكون له وقع المنعطف في مسارات حياة المصابين سواء مهنيا، أو أسريا، أو دراسيا أو روحيا وأورد الباحث نماذج ميدانية صنفها حسب تأثير حدث الإصابة في أي المسارات بحدة أكبر. ولأن التعايش مع الداء في ظل توفر العلاجات أصبح مطروحا فإن الباحث تناول في الفصل الخامس، أهم استراتيجيات المصابين مع داء السيدا بعد أن استعرض أهم النماذج الثلاث عند Janine Pierret، من خلال الحفاظ على الأدوار الاجتماعية من خلال الواجب الأسري، أو البحث في قوة الروابط الضعيفة، والسعي لبناء رأسمال اجتماعي، ولو كان افتراضيا (شبكات التواصل الاجتماعي نموذجا)، أو من خلال تدبير الوصمة عن طريق تغيير الوسط أو الحفاظ على سطحية العلاقات الاجتماعية.
ويعد مدخل الشباب مدخلا هاما يتناول أبرز المقاربات والأدبيات السوسيولوجية المعاصرة التي تناولت هذه الفئة، في محاولة تأصيلية تفيد البناء الإشكالي العام للدراسة، وترفع اللبس عن مختلف الاستخدامات المتداخلة لمفهوم الشباب، بغية استخلاص بروفيل نظري عام يميز الشباب المغربي موضوع الدراسة، والتي تمكن الباحث من حصرها في خمس منطلقات أساسية:
- مشكل الشباب المغربي يستلزم وبشكل مستمر المراجعة إعادة التعريف.
- عدم الخروج النهائي عن التقاليد، رغم النزوع نحو قيم الحداثة.
- تطور أنماط التدين، في إطار مركزية الأسرة.
- الترقيع الجنسي- المكاني، أو التدبير الخطر لسؤال الجنسانية في الحياة اليومية.
- المعرفة الناقصة والمشوهة بالأمراض المتنقلة جنسيا، وعلى رأسها السيدا.
شكلت هذه المبادئ العامة التي استخلصها الباحث، أساسا مهما لبناء إشكالية الدراسة وهي، كيف يتعايش الشباب مع داء فقدان المناعة المكتسب (السيدا)؟، ثم أسئلة فرعية أخرى من قبيل، كيف كان الشباب يتمثل الداء قبل الإصابة وما ردود الفعل حيال خبر الإصابة؟، وما تأثير الإصابة على مسار حياته الأسرية والتعليمية والمهنية وغيرها؟، وكيف يدبر الشباب سؤال التعايش مع الداء في ظل كل التحديات التي يواجهها؟.
يكتسي هذا البناء المنهجي لإشكالية الدراسة أهمية بالغة في مختلف فصول الكتاب، بحيث تبرز مؤشراته في مستويات عديدة تجعل من تحليل ورصد واختبار فرضيات الدراسة والإجابة عن أسئلة البحث سيرورة بناء مستمرة غير متقطعة وغير خاضعة للتقسيم الفصلي المعتمد بما هو مجرد تقسيم منهجي يفيد تبويب الكتاب، ومنه فإن قراءتنا للكتاب تمر عبر ثلاث عتبات أساسية ومركزية من منظورنا تفيد القراءة النقدية المتأنية لمضامين الكتاب.
- 1- عتبة المنهج والمقاربة:
إن دراسة تمثل الداء بشكل خاص، ثم التمثلات بشكل عام لاسيما وأنها –التمثلات- سيرورة بناء مترابطة ومستمرة وخاضعة للتطور وإعادة البناء والتحيين بشكل مستمر، تفرض على الباحث مقاربة كيفية للموضوع تستحضر الفهم والتأويل واستخراج المعنى من جزئيات صغيرة مرتبطة بالذات في تفاعلها المستمر مع محيطها الاجتماعي، ومنه فقد اعتمد الباحث على منهج إثنوغرافي يتأسس على تقنيات عديدة:
- دراسة الحالة، أو المونوغرافيا المقارنة كما اعتمدتها تقاليد مدرسة شيكاغو، خاصة بما هي أداة لاستخلاص المعطيات ميدانيا، عبر إتاحة المجال أمام الفاعلين المحدودين نسبيا والمنتجين للمعنى.
- مسار الحياة، وتعتبر هي الأداة المركزية الأهم التي استخدمت في البحث، والتي تتجمع عبرها كل الأدوات الأخرى (المقابلة، الملاحظة، البحث الوثائقي..)، وأهميتها تكمن في ديناميتها الزمنية حسب Mark Bassin والتي كان الباحث واعيا ومستحضرا لها أثناء مسارات بحثه.
- المقابلة، والتي استخدمت بما هي تقنية مكملة، وتميز استخدامها بمرونة عالية وإتقان متناه، لاسيما حين كان ينهار المبحوثون أمام قوة الذكريات المسترجعة[2] ثم كذلك عبر استخدامها كتقنية أساسية مع باقي الفاعلين من غير المصابين (الأطباء، الممرضين/ات، المتدخلين الاجتماعيين…).
- الملاحظة بالمشاركة، أو المشاركة بالملاحظة، وهي تقنية ساعدت الباحث كثيرا في تنويع طرق استقراء معطياته الميدانية لاسيما في الوضعيات التي يكون الباحث مطالبا فيها المسافة الفاصلة بينه وبين تفاصيل الحياة الشخصية لمبحوثيه، عبر اقتحام فضاءاتهم الخاصة وتدبير ميكانيزمات تفاعله مع هذه الوضعيات.
تكمن أهمية العدة المنهجية المتعددة التقنيات التي وظفها الباحث، في قدرتها على تجاوز قصور تقنية واحدة وبالتالي تعويضها بأخرى تكون أكثر نجاعة في وضعيات محددة، وفي قدرة هذه العدة استفزاز ذهن الباحث باستمرار من أجل التقاط الإشارات الدالة على المعنى المقدمة أحيانا بشكل عفوي.
لقد اشتغل الباحث على عينة إجمالية تبلغ 14 حالة، ولعل هذا العدد كان له أثر كبير في الحذر الابستيمولوجي الذي ما فتئ يطرحه الباحث في مستويات عديدة من البحث، والذي منعه من تعميم طروحاته حول مسألة تمثلات الشباب لداء السيدا، أو لاستراتيجيات التعايش مع المرض وأشكال تدبير الوصمة من طرف المصابين، ويمكن أن نعتبر هذا الحذر الابستيمولوجي متجاوزا إذا ما استحضرنا أهمية الدراسات الكيفية وما ساهمت الإثنوميتودولوجيا في طرحه من مقاربات علمية وبحثية في العلوم الاجتماعية، فقاعدة التحليل السوسولوجي والأنثروبولوجي، لم تعد هي المجتمع بل فقط جزءا صغيرا منه، ذاك الجزء الذي يجعل الناس يتجمعون ويشكلون أنماط حياة بشكل مشترك.
فالإثنوميتدولوجيا تحصر الفرد في ثلاث سمات [3]أساسية:
- نظرة خاصة ودقيقة للعالم الذي يحيط به، ولكل أشكال الفعل التي عادة ما ينخرط فيها ويمارسها.
- تقديم الفرد بطريقة عميقة لشكل ومسار أنشطته التي يشارك فيها بشكل منظم.
- القدرة على تقييم أنشطته وإدارتها وتقديم وصف مقبول عنها وعن المبررات التي تجعله يمارسها.
وبالتالي فالحقيقة العلمية- الخاضعة في حد ذاتها لنسبية ابستيمولوجية ومنهجية أساسية- وحقيقة الظواهر الاجتماعية تحديدا، ليست موجودة فقط في الجداول والبيانات الإحصائية، التي ينتجها الباحثون بل هي تتشكل ويعاد تشكيلها في كل لحظة من الحياة اليومية عبر التفاعلات البينية بين الأفراد في الواقع الاجتماعي.
فأصالة مقاربات كل من H. Backer و Goffman، تواجه كل من يفصل بين المعرفة والفعل، وهو فصل نظري فقط ليس له أي أساس في واقع الحياة اليومية[4]. ومن هنا يكتسي التأويل المستأصل من التجربة والممارسة الميدانية أهمية قصوى، فالظاهرة الاجتماعية ليست ظاهرة ثابثة وإنما منتج مستمر لأنشطة الأفراد الذين ينفذون معارفهم العملية وقواعدهم الشكلية والموجهة، باختصار إنها منهجية أولية وبسيطة تمنح معنى لأنشطتهم وضمن التحليل تتكون لمسات الباحث السوسيولوجي والأنثروبولوجي، وهو ما برز بقوة في الشق المرتبط بالتحليل في هذا الكتاب. إذ تمكن الباحث من تصنيف الموضوعات والتيمات الكبرى للبحث بنجاح، عبر تحليل مترابط وتفسيري للمقابلات ونتائجها، وتفريغها حسب الموضوعات المهمة الكفيلة بالإجابة على أسئلة البحث في تناغم ظاهر بين البناء النظري لكل تيمة وإثباتاتها الميدانية ومن النماذج على ذلك نورد على سبيل المثال لا الحصر المحاور التالية الموزعة أفقيا على مختلف فصول الكتاب:
- من تمثل الداء إلى الإصابة به: السيدا المرض الخرافة أو الأسطورة/ السيدا انحراف وعقاب إلهي/ السيدا مرض الآخر.
- حدث الإصابة كمنعطف في مسارات حياة المصاب: خصوصية حدث الإصابة بالسيدا وانعطاف المسار الأسري/ الاستبعاد الاختياري والاستبعاد المفروض والعيش على هامش الأسرة/ منعطفات المسار المهني/ منعطفات المسار الدراسي/ منعطفات المسار الروحي من الجسد المريض إلى الروح السليمة
- استراتيجيات التعايش بصحبة الإصابة: الحفاظ على الأدوار الاجتماعية من خلال الواجب الأسري/ البحث في قوة الروابط الضعيفة/ تدبير الوصمة/ الاهتمام بالمسار الصحي أ حينما يتحول المصاب إلى خبير Le malade expert/.
تتجلى قوة هذا الطرح والبناء في براعة “التصنيف” باعتباره عتبة منهجية مهمة في البحوث الكيفية، لما له من أدوار على مستوى البناء الإشكالي لموضوع الدراسة، وكذا الطرح العلمي وفرز المقولات المستخلصة من الميدان، ولعل الباحث قد تمكن من خلال هذا المجهود التصنيفي من طرح عمله بسلاسة تجعل قراءة الكتاب قراءة عملية واضحة ومنهجية.
واستطاع الباحث في ختام دراسته أن يمارس عملية قلما يوليها الباحثون في العلوم الاجتماعية اهتماما، عبر محاولة للتفكير الإنعكاسي من خلال مسار الباحث، والتي خصص لها حصريا فصل الخلاصات حيث سعى الباحث في محاولة جادة إلى إعادة إنتاج المعنى باعتباره فاعلا بانيا Acteur Construit، ويعرف Garfinkel هذه العملية باعتبارها وصفا للحياة اليومية والتي بدورها وصف للحياة الاجتماعية، فالفعل المنعكس هو رصد للرموز والإيماءات التي يقدمها الأفراد لحياتهم اليومية، فوصف حقيقة اجتماعية ما، ما هو إلا بناء لها[5].
فالإنعكاسية هاهنا تحتل نفس الدرجة من الأهمية مع إنتاج وضعية اجتماعية ما، والتفاعل معها أولا عبر قولها وبالتالي وصفها. وهذا ما حاول الباحث القيام به خلال تخصيصه لفصل مهم تطرق فيه لمسار الباحث خلال مختلف مسار البحث، لاسيما وأن البحث في ميدان الصحة وفي تيمة السيدا تحديدا، لما لها من حساسية اجتماعية مفرطة، تجعل العثور على عينة المبحوثين والإطلاع على ملفاتهم ومسارات حياتهم أمرا صعبا وتقف أمام مسؤولية أخلاقية لعمل الفاعلين في الميدان باعتبار أن مبدأ السرية هو مبدأ أساسي في التعامل مع الداء والمصابين به عموما.
لقد تجاوز الباحث خلال هذه الدراسة إشكالية الموضوعية والذاتية، حينما تجاوز المسلمة الكلاسيكية التي تعتبر الظواهر الاجتماعية أشياء، وبالتالي فمسألة الذاتية لا تشكل الارتباك بين الفاعل الواقعي والفاعل الباني فالأفراد التجريبيين للبحث (المصابين، الأطباء، المتدخلين الاجتماعيين..)، بالنسبة للباحث هم موضوعات سوسيو-أنثروبولوجية وليس موضوعات حياته اليومية.
- 2- عتبة المفهوم واختبار البديهيات:
نقصد بالبديهيات هنا، تلك الخلاصات الأولية التي انطلق منها الباحث خلال عملية البناء الإشكالي للموضوع، باعتبارها مجموع الخصائص التي تميز الشباب المغربي، ولعل هذا البروفيل النظري عن وضعية الشباب المغربي لم يتم استحضاره عند اختبار أسئلة البحث ميدانيا وتفسيرها وتم الاقتصار على البديهيتين الثالثة والخامسة [6] دون غيرهما لارتباطهما المباشر بإشكالية البحث، بالرغم من أن باقي البديهيات تعتبر أساسية هي الأخرى في فهم تمثلات واستعدادات الشباب المغربي حول قضايا تتقاطع مع إشكالية التعاطي مع داء السيدا وسؤال الجنسانية عموما. ولعل استحضارها بقوة خلال البناء الإشكالي للموضوع وإهمالها التام من خلاصات البحث جعلها تبدو منعزلة تماما عن مخرجات البحث.
يعتبر القاسم المشترك بين أغلب حالات العينة المدروسة هو واقع الهشاشة، فهذه الفئة كان يسيطر عليها الشك والخوف من المستقبل، إذ لا يملكون أية ضمانات في ما يخص مستقبلهم ولا توجد أية مؤشرات على أن وضعيتهم الاجتماعية والاقتصادية ستتحسن بل على العكس من ذلك فهي في تدهور مستمر، وحتى أولئك الذين كانوا يعيشون وضعية مستقرة فيما مضى أصبحوا مجبرين على التفكير بشكل محبط في وضعيتهم الاجتماعية التي زادها المرض والوصم والتمييز هشاشة وأصبح العيش بقلق والخوف من الموت أو حتى من النوازع السلبية (الانتحار، الانهيارات العصبية…) ملازما لها.
فالهشاشة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي تبين من خلال عرض التيمات الكبرى لنتائج الدراسة كانت معطى قبليا يميز فئة الشباب وهو ما تحصل عليه الباحث بالرغم من أنه من المفروض الإنطلاق منه على اعتبار أن الباحث تناول في بناءه النظري لمفهوم الشباب أهم البراديغمات المعاصرة وتحديدا براديغم البناء السوسيوثقافي لمفهوم الشباب كما تناوله Bourdieu وJ.C.Chamberdon، ثم باراديغم حول طقوس المرور لسن الرشد كما أسست له إسهامات O. Galland، وابتعد الباحث عن المقاربة العمرية التي تختزل الشباب في مرحلة عمرية محددة.
لقد انتصر الباحث في البداية ص.07 لبراديغم طقوس المرور نحو سن الرشد، لكنه تراجع عنه كليا في الصفحة 56 ليشير بشكل ضمني لبراديغم بورديو حول البناء السوسيوثقافي لمفهوم الشباب، ويطرح الباحث سؤالا مفتوحا حول المفهوم، هل الشباب مفهوم تتحدد معالمه بالرجوع لبعض المحددات البيولوجية والاجتماعية والثقافية، كما هو الحال مع الإصابة بالسيدا؟، وهل الشباب كمفهوم لابد وأن يخضع لذلك التصنيف الخطي المتعارف عليه والذي نختصره في الطفولة الشباب الرشد ثم الشيخوخة، دون الحديث عن إمكانية إعادة تجربة في قالب جديد وبمحددات متجددة؟[7].
إن هذا التأرجح بين براديغمات سوسيولوجيا الشباب المعاصر، جعل الباحث لا يستحضر حالة الهشاشة السوسيو اقتصادية للشباب خلال مرحلة البناء الإشكالي للموضوع بالرغم من أنه أشار إلى دور المستوى المعرفي باعتباره مؤشرا للهشاشة أمام الإصابة في حين أنها تعتبر عاملا مهما مساعدا في الإصابة بالسيدا باعتبارها نتيجة “للانحراف” المرتبط ارتباطا جدليا بالوصم والتمييز والإقصاء (حالات ممتهنات الجنس/ المتعاطين للمخدرات..).
فمفهوم الشباب عادة ما يرتبط في الوعي الجمعي للمجتمعات بتلك الفئة/ الشريحة العمرية التي تتسم بمجموعة من الصفات القدحية، أو تلك التي تستنقص من قيمة الشباب باعتبارهم جيل الأزمة والانحلال والتقاعس والانحراف. وهذه الأحكام عادة ما تكون بناء على تمثلات وأفكار متوارثة تتناقل عبر الأجيال، وتمنح في عمقها سلطة رمزية أساسها التفوق والنجاح لفئة الكبار وتسقطها عن الشباب وفق معيار “المسؤولية”.
ويرى Galland بأن مسار الشباب نحو المرور إلى سن الرشد الذي يمر بحسبه على من ثلاث مراحل أساسية (الاستقلال عن سكن العائلة، الوضعية المهنية، الارتباط العاطفي أو الزواج.)، هو مسار للتدرج في تحمل مسؤوليات الكبار يتميز أساسا بديمومة الهشاشة[8]، التي انتهى إليها الباحث في حين كان من الممكن اعتبارها مسلمة الانطلاق في دراسة الشباب المصاب بالسيدا ولربما كانت ستفتح أمام الباحث أفاقا أخرى للتحليل.
- 3- عتبة الأبعاد السوسيو سياسية للظاهرة:
تتجلى أهمية الأبعاد السياسية للمواضيع الاجتماعية في كونها تطرح باستمرار سؤال الفعل والأجرأة للإشكالات العلمية، فمقولة بورديو التي يعتبر من خلالها أن السوسيولوجيا تتجلى في قدرتها على تحويل مشكلات ميتافيزيقية، إلى مشكلات قابلة لأن تعالج معالجة علمية وبالتالي سياسية”[9]، تكتسي أهمية قصوى بالنسبة لظاهرة للسيدا باعتبارها تناولا لموضوع مفرط الحساسية لارتباطها بحسب الباحث باستحضار الأبعاد الأخلاقية والدينية نظرا لعلاقة المرض بالممارسة الجنسية “المنحرفة” التي تساءل بدورها مسؤوليات الدولة السياسية أمام هذه الظاهرة.
لقد استحضر الباحث في الفصل الأول من الكتاب البناء السياسي لظاهرة السيدا على اعتبار أن هذه الظاهرة تتداخل في بناءها مجموعة من الأبعاد السياسية والثقافية والدينية والإعلامية، وقد قدم نموذجا عن دراسة D. Fassin حول السيدا بجنوب إفريقيا أو حينما تتذكر الأجساد: تجارب وسياسات السيدا بجنوب إفريقيا. ويعتبر هذا الطرح الذي اعتمده الباحث مهما من ناحية التأصيل النظري للبناء الاجتماعي لظاهرة السيدا على اعتبار أن الصحة والمرض لا يعدوان أن يكونا بناءات سوسيوثقافية وموضوعات اجتماع-اجتماعية.
ومن هذا المنطلق إذن فالفاعل الرئيسي في التكفل بالمصابين ومراقبة الحالة الوبائية، وفي تنسيق حملات الوقاية بين القطاعات الحكومية، لا سيما الوزارات المعنية (وزارة الشباب والرياضة، وزارة الصحة، وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي والتكوين المهني..)، هو-الفاعل- الدولة وتتحمل مسؤولياتها الرقابية والانضباطية لأجساد الأفراد وتوجيه حياتهم الجنسانية بما هي تجسيد لسلطة السياسة-البيولوجية Bio-politiqueكما تناولها M. Faucault [10] حيث أن ظهور المستشفيات أزاح عن الأسرة دورها الطبيعي في التكفل بالمرضى وجعل الدولة تتدخل من خلال تكنولوجيا الطب في إعادة التوازن للجسم المريض، وأضحت أهميته السياسية تتفوق على دوره في علاج المرض والمرضى إلى كونه مهما على مستوى التدخل السياسي للدولة في المجتمع[11].
إن احتكار جمعية محاربة السيدا ALCS لتدبير ملف الداء/الظاهرة، جعل الدولة تتملص من مسؤولياتها إزاء التدبر الشامل لهذه الظاهرة بالمغرب من عدة نواحي (الإديولوجية، الإعلامية، العلاجية، الوقائية..)، وبوجود ضغط دولي يفرضه التمويل الأجنبي للعلاجات وللأنشطة الخاصة بهذا المرض بقي التكفل الشامل بالمرضى مجانيا، في الوقت الذي تنهج فيه الدولة خيارات نيوليبرالية تتملص بها من النفقات العمومية في مقابل الرفع من الضريبة العمومية على الخدمات والاستثمار فيها.
وبالتالي فالأجدر أن تتحول قضية السيدا بالمغرب إلى قضية ذات بعد أو أبعاد سياسية كما قدمها Fassin في دراسته التي استعرض الباحث جزءا منها في الصفحة 66. فما الذي يمكن أن يحدث لو رفعت الدولة حق التكفل الشامل بعلاج المرضى الذين يعيشون في الخفاء؟، إذ لن يتمكنوا من الاعتراض أو الاحتجاج على مثل هذه القرارات وبالتالي سيطالهم الإهمال وسيزداد واقعهم هشاشة وستزداد قاعدتهم، ومنه فالدولة تجد مصلحتها في حصر رقعة المصابين ومراقبة أنشطتهم باعتبارها صاحبة السلطة الرقابية والانضباطية لمواطنيها.
فالطرح السياسي للموضوع في سياق المجتمع المغربي له الكثير مما يبرره ويجعل له دورا أساسيا ومهما في التناول العلمي للموضوع، فباعتبار أن الدولة هي الفاعل الرئيسي والوحيد في مراقبة وتدبير الشأن الديني بالمغرب، فهي إذن المسؤولة عن خطاب الفاعلين الدينيين وفي إنتاج الخطاب الديني عموما الذي يتناول هذه المسألة. فحتى الصمت عن تناول قضية السيدا بالمغرب إنما هو طريقة أخرى للتواصل السلبي بحمولة ذات إيديولوجية دينية[12] تؤثر سلبيا في كيفية التعاطي مع هذه الظاهرة.
خاتمة
يطرح كتاب “المرض والإيديولوجيا: الشباب ومسارات التعايش مع السيدا بالمغرب” العديد من التساؤلات التي تستفز أذهان الباحثين في العلوم الإنسانية لاقتحام مجال سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا الصحة والمرض بالمغرب وفي باقي الدول المغاربية والعربية، نظرا لقلة الدراسات من هذا القبيل التي تتناول قضايا الخفي والمتواري في علاقته مع باقي بنيات المجتمع التي تنتجه، وأيضا لما لمثل هذه الدراسات أن تقدمه في فهم طبيعة العلاقات التفاعلية التي تطرحها إشكالية الصحة والمرض في مجتمعاتنا.
لقد استطاع الباحث أن يلامس أوجها عديدة من اليومي في الحياة الصحية للمصابين بداء السيدا ومحيطهم الاجتماعي، ورصد سيرورة تشكل وبناء التمثلات العامة التي تسيطر على أذهان حاملي الداء، واستراتيجياتهم لتدبير واقع الوصم والتمييز والهشاشة التي يعانون منها، وأشكال تسييرهم لحياتهم اليومية مع الداء الذي كان إلى حدود عهد قريب دليلا مؤشرا على الموت والنهاية المأساوية، لكن ألا يجب على الباحثين في العلوم الاجتماعية التفكير في إشكالات مماثلة بغية مراكمة إسهامات علمية تقتحم ميدان سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا المرض والصحة؟؟.
البيبليوغرافيا:
فوكو ميشيل، يجب الدفاع عن المجتمع: دروس ألقيت في الكوليج دو فرانس 1976، ترجمة الزواوي بغورة، دار الطليعة بيروت 2003.
مجدول بوشعيب، المرض والإيديولوجيا: مسارات الشباب للتعايش مع السيدا بالمغرب، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر، أكادير 2018.
- Bourdieu P. )2002), Question de sociologie, Les éditions Minuit, Paris.
- Colon A. (2014), L’ethnométhodologie, Que sais-je ? Sixième édition, PUF, Paris.
- Faucault M.(2003), Birth of the clinic, Translated by A.M Sheridan, Routledge, Paris.
- Galland O.( 2011), Sociologie de la jeunesse, Armand Colin, 3éme édition, Paris,.
- Majdoul, B. (2016), « Femmes et Sida au Maroc, de l’inégalité biologique à l’inégalité sociale », Le Maroc au présent, d’une époque à l’autre, une société en mutation, sous le direction de B. Dupret, Z. Rhani, A. Boutaleb, Rabat / Casablanca, Centre Jacques-Berque / Fondation du Roi Abdul-Aziz Al Saoud , 2016.
- « Presse et construction “d’une réalité sida au Maroc”, Cas exemplaire du quotidien Attajdid », communication publique en Afrique, regards croisés, Publication LARLANCO FLSH Agadir consulté le 15 mars 2018.
- « Sexualité des femmes séropositives au Maroc », Face à face [En ligne], | 2017, mis en ligne le 24 juin 2017, consulté le 14 mars 2018. URL : http://journals.openedition.org/faceaface/1170.
- Ogien A, (2016), « Garfinkel et la naissance de l’ethnométhodologie » Occasional Paper34 Institut Marcel Mauss-CMES, Revue électronique consulté Juin 2017, Paris.
[1] Voir : Majdoul, B. 2016, « Femmes et Sida au Maroc, de l’inégalité biologique à l’inégalité sociale », Le Maroc au présent, d’une époque à l’autre, une société en mutation, sous le direction de B. Dupret, Z. Rhani, A. Boutaleb, Rabat / Casablanca, Centre Jacques-Berque / Fondation du Roi Abdul-Aziz Al Saoud.
– « Sexualité des femmes séropositives au Maroc », Face à face [En ligne], | 2017, mis en ligne le 24 juin 2017, consulté le 14 mars 2018. URL : http://journals.openedition.org/faceaface/1170.
– « Presse et construction “d’une réalité sida au Maroc”, Cas exemplaire du quotidien Attajdid »,communication publique en Afrique, regards croisés, Publication LARLANCO FLSH Agadir consulté le 15 mars 2018.
[2] مجدول بوشعيب، المرض والإيديولوجيا: مسارات الشباب للتعايش مع السيدا بالمغرب، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر، 2018 أكادير، ص.300.
[3] Ogien A, « Garfinkel et la naissance de l’ethnométhodologie » Occasional Paper34 Institut Marcel Mauss-CMES, Revue électronique consulté Juin 2017, Paris 2016, pp5.
[4] Ogien A. opcit. P.05.
[5] Colon A. L’ethnométhodologie, Que sais-je ? Sixième édition, PUF,2014, Paris P.48.
[6] مجدول بوشعيب، المرجع نفسه، ص. 28-29.
[7] المرجع نفسه، ص.57.
[8] Galland O. Sociologie de la jeunesse, Armand Colin, 3éme édition, Paris, 2011, P.63.
[9] Bourdieu P. Question de sociologie, Les éditions Minuit, Paris, 2002 P.49.
[10] فوكو ميشيل، يجب الدفاع عن المجتمع: دروس ألقيت في الكوليج دو فرانس 1976، ترجمة الزواوي بغورة، دار الطليعة بيروت 2003، ص236.
[11] Faucault M. Birth of the clinic, Translated by A.M Sheridan, Routledge, Paris 2003, P. 40.
[12] Majdoul B. « Presse et construction “d’une réalité sida au Maroc”, Cas exemplaire du quotidien Attajdid » opcit, P.13.