تمهيد
إذا كان زلزال سوريا وتركيا قد زلزلَ الأرض من تحت أهلها، فجعل أعاليها سافلها، ففي النفوس زلزال آخر لا يقل عنه زلزلة، أثار مع الأحزان الشديدة، تساؤلات وتفسيرات، وكلٌّ يكيل بميزانه، فالإنسان المادي الصافي، يراه كارثة طبيعية صافية، والمؤمن يراه عقابا إلهيا وتخويفا مستندا إلى أدلة قرآنية وحديثية وآثار كثيرة قالها سلفه، وبين هذا وذاك أناس بمستويات متعددة من الفهم والتفسير والتفكير.
يقول بعضهم: إن كان عقابا إلهيا، فما باله ترك شعوبا كثيرة تعبد الأرض ولا تدري شيئا عن السماء، وفيها كل ألوان المعاصي التي يحتضنها الشرك والكفر والحياة المادية الصلدة، أليست تلك الشعوب التي صارت ذنوبها شريعة جماعية مقننة، أولى من شعوب مسلمة توحد الله وتتلو قرآنه وتدعوه وفيها من الصلاح ما فيها، ولا تتواطأ على ذنب أو معصية حتى وإن شذ فيها عصاة كثر. ويقول آخرون: إن القرآن مليء بآيات بينة تذكر بأن العقاب الإلهي الماحق المتمثل بكوارث طبيعية قد ينزل بالناس المذنبين.
فكيف نفهم ذلك بين كل هذه التساؤلات؟ هذا ما سأحاول الإجابة عليه:
نحن-المؤمنين- نؤمن أن للوجود شكلين متغايرين، غير منفصلين عن بعضهما، الأول هو الشكل المادي والثاني هو الغيبي، أو ما يسمونه ما وراء الطبيعة أو الميتافيزيقي، وهما بالمصطلح القرآني: الغيب والشهادة، ونؤمن أن الغيب غيبان، غيب مطلق، لا يصل إليه الإنسان وصولا دقيقا إلا بنبي مرسل كالله وأسمائه ويوم الحساب، وغيب نسبي يصل إليه وصولا تدريجيا بالعلم التجريبي الذي تتطور مناهجه باستمرار وتتراكم، وفي الوجود المادي غيوب نسبية كثيرة، جعلها العلم التجريبي شهادة، أي مشهودة شُهدت ، وعرفت بالحواس والتجربة والتطبيق، وفسرت وصار يمكن التنبؤ بها وتسخيرها أو إدارتها، مثال ذلك مخلوقات مجهرية كثيرة، أو أجرام بعيدة، أو ظواهر طبيعية كثيرة كالزلازل والبراكين والفيضانات والأوبئة، فكلها عرفت أسبابها وطرق تشكلها، ولا يزال الأمر مستمرا. هذه هي رحلة العلم الإنساني، إنه -دهره- ينفي ويثبت، يصحح ويعدل حتى يصل إلى مستقر محكم هو الحقيقة النهائية للشيء المدروس.
فثمة ثلاثة وجودات متعالقة، الله تعالى خالق الوجود، والكون بما فيه من مخلوقات حية وغير حية، والإنسان، الذي امتاز -وإن كان فيه شيء مشترك مع المخلوقات الحية وغير الحية- امتاز بنفخة الروح الإلهية التي جعلته عاقلا، حرا، متعلما، مؤهلا للاتصال المباشر بالله والتلقي عنه، وقد كان ذلك الاتصال بالله بالرسل الأنبياء، على مراحل متتالية، تنوعت رسلها وكتبها وطرق التعليم الإلهي فيها، جوهرها الثابت هو التوحيد، ومتغيرها المتطور هو التشريع والعلم، تطورت بها عقلية الإنسان وطرق تفكيره ومعلوماته، لذا يجب أن نميز بين مراحل الرسالات، من حيث أقوامها، ورسلها، وكتبها، والطرق التي عوملت بها أو أُدبت، نميزها عن الرسالة الخاتمة خاصة، التي ستستمر مع الرحلة الإنسانية المتطورة إلى يوم القيامة.
- سمة الرسالات السابقة وسمة الرسالة الخاتمة
أول مستويات التمييز هو دلائل النبوة أو ما يسمونها (معجزات الأنبياء)، فمن الملاحظ أن كل دلائل النبوة التي سبقت الرسالة المحمدية كانت ظواهر حسية لحظية محلية، تشهدها الحواس مباشرة، والعذاب على التكذيب بها يكون دنيويا حسيا محليا أيضا، كالطوفان والصيحة والرجفة والحاصب والخسف، وهي أسماء قرآنية تطلق اليوم على الفيضانات والتسونامي والصواعق والزلازل والأعاصير، فإن حدثت آية النبي المرسل الحسية أمام قومه وكذبوها، قضي الأمر!
أما النبي محمد (ص) فقد كان برهانه معرفيا هو القرآن الكريم، يستبين صدقه وحقه بالعلم الكوني المتراكم المتطور الذي ينتجه العقل البشري (سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡـَٔافَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡء شَهِیدٌ ([1].
ليقوم دليله بالعقل العلمي والتفكير والمحاورة والبحث، وهذا لن ينتهي ما دامت الحياة مستمرة…وهذه السمة في القرآن الكريم الذي يؤوله العلم والزمن، تنفي ابتداء طريقة العقاب الجماعي الحسي اللحظي التي كانت تحدث في الأمم السابقة، لانتفاء الشروط التي سنبينها بتفصيل أكثر بعد قليل، وسنبين أين يمكن أن يحدث الاستثناء!
فلن يكون العقاب على التكذيب بالقرآن حسيا دنيويا، بل أخرويا إن قامت الحجة وأيقن المكذب بصدقه لكنه جحده وحاربه، فالكفر والتكذيب هنا موقف واع وهذا أصله: إنه إخفاء لحقيقة قارة في النفس ومحاربة لها. فلن يرفع الله جبلا فوق رؤوس قوم كما فعل مع قوم موسى ليأخذوا الكتاب بقوة، أو يخسف بهم ليؤمنوا أو ليخوفهم، بل كيف سيُعرف اليوم أن ذلك العقاب لتلك المعصية أو الكفر، ولا يوجد نبي مشاهد أمامهم ومعجزته الحسية تجري بين أيديهم كما كان يحدث في الأقوام السابقة؟
فمن الذي سيقول أنا على اتصال بالغيب والذي جئت به هو من عند الله، وإن لم تأمنوا أو إن عصيتم فسوف ترون الردع الإلهي المباشر في هذه الكارثة أو تلك؟ من سيخرج لنا ناقة من جبل أو يفرق بحرا، أو يفجر صخرا، أو ينزل إلينا مائدة من السماء فإن عصينا بعد ذلك سينزل بنا العقاب الإلهي!، كيف نجزم بالرابطة المباشرة بين ذنب معين وبين كارثة كونية لنقول عنها إنها عقاب إلهي؟
نعم، كان يحصل ذلك في الأقوام السابقة على الرسالة المحمدية، وتلك مرحلة انتهت ببعثة النبي لتبدأ مرحلة جديدة، هي المرحلة العلمية المعرفية التي يناسبها دليل غيبي معرفي كالقرآن جلت آياته عن الكون والإنسان، فمن أراد أن يكذبها ليكذبها بالطرق العقلية والبحثية والميدان مفتوح، فإن عصى فإليه يوم الحساب، فنحن في المرحلة السننية التي أداتها العلم، ومحمد (ص) ذاته لم يؤسس حضارته إلا بالجهد البشري العادي، فقد انتصر وانهزم، ولما سأله قومه برهانا ماديا حسيا، كان الجواب:
(وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا 90 أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا 91 أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا 92 أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا 93 ) [2]. بل القرآن يذكر صراحة، أن هذه الأمر قد امتنع الآن مع بعثة النبي لكيلا يعجل لهم العذاب:
(وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [3].
- العقوبة الحسية الجامعة أو التخويف بها- رحلة الإنسان من الحس إلى الغيب أو من المحسوس إلى المجرد
ورأيي الخاص أن العقوبة الحسية (الدنيوية) الجماعية المباشرة والتخويف بها التي كانت تأتي مع نبي مرسل هو حصرا لتلك الشعوب البدائية البسيطة في مرحلة لم يبلغ فيها العقل الإنساني مرحلة النضج التجريدي الكافي، فهو أقرب للطفولة التي تفهم بهذه الأسلوب التعليمي الحسي المباشر، أما نحن، فالتخويف موجود لكنه تخويف غيبي من يوم القيامة بخطاب لغوي معرفي هو القرآن، بالتذكير والإمهال لا بالسيطرة والإكراه المباشر على الإيمان، لأن الله يريد عبادا يعبدونه عن إرادة حرة يطمعون بجنته ويخافون من حسابه و ناره بما يمتلئ في نفوسهم من يقين وعلم بأسماء الله تعالى، المنتقم الجبار شديد الغضب القوي المتعال،،إلخ، وحتى من أراد الخوف والاعتبار بالكوارث الطبيعة فهذا مشروع طبعا لكنه يفعل ذلك استحضارا لإله يؤمن به ويخشاه بالغيب وهذا من الإيمان الراقي بالغيب، لذا كانت أولى صفات المتقين في سورة البقرة هي الإيمان بالغيب، لأنه أصل كل العبادات كلها:
( الٓمٓ 1 ذَلِكَ ٱلْكِتَـبُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ 2 ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـهُمْ يُنفِقُونَ 3. )[4]
(رِجَالٌ لَّا تُلۡهِیهِمۡ تِجَـٰرَةٌ وَلَا بَیۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِیتَاۤءِ ٱلزَّكَوٰةِ یَخَافُونَ یَوۡما تَتَقَلَّبُ فِیهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَـٰرُ). [5]
(وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ).[6]
لقد كانت شعوبا حسية، لم تصل بعد إلى التجريد الكافي الذي يناسب خطابا معرفيا عاليا كما في القرآن، ولعل ذلك يفسر نزوعها الدائم إلى صناعة أصنامها حسية أو عبادة مظاهر الطبيعة، أو سؤالها المتكرر لرؤية الله كما فعل بنو إسرائيل يوم قالوا لموسى: (وَإِذۡ قُلۡتُمۡ یَـٰمُوسَىٰ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهۡرةࣰَ فأَخَذَتۡكُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ)[7] ، والذي يدل على هذه المستوى من التفكير أن موسى نفسه طلب أن يرى ربه، ومن قبله إبراهيم سأل الله دليلا حسيا ماديا على إحيائه الموتى مع أنه كان مؤمنا، وهذه ليس تكذيبا أو شكا مرضيا، بقدر ما هو سمة عامة للإنسان في تلك المراحل الحسية من عمر البشرية. الفرق أن المؤمن يطيع ويخضع لأمر الله، أما الكافر فيطلب الآيات الحسية ثم يكفرها أيضا فيستحق العذاب.
- لا يزال المسلمون اليوم يستعجلون بالعذاب!
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ 53 يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ 54 يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون 55)
وانظر كيف أحال العذاب إلى جنهم في يوم القيامة، فهي الأجل المسمى الذي يحول دون الاستعجال بالعذاب، وتذكّر أن استعجاله بالعذاب هو قول قوم كافرين معاندين لا مؤمنين فيهم مذنبون!
(وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 32 وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 33).[8]
وكيف نفهم: ما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم؟ ألم يكن الرسل السابقون في أقوامهم عندما نزل العذاب لكن الله نجاهم ومعهم القليل الذي آمن معهم؟ لماذا لم يجرِ هذا القانون الإلهي على قوم النبي؟ جوابي لأنها مرحلة انتهت بوجوده فيهم أي ببعثته، فالله لن يعاقبهم بعذاب مباشر كي لا يعجل لهم العذاب، وهو فينا الآن ما دام قرآنه فينا.
أما (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فكيف يسند الاستغفار إلى كفار إن لم يكن ذلك الاستغفار هو عين الإيمان، أي لن يعذبهم الله إن آمنوا، فالعذاب هنا هو قضية كفر وإيمان بوجود حسي لنبي شاهد عليهم، ومع ذلك لم يقع للأسباب التي ذكرناها، ومع ذلك تجد اليوم من يفسر الكوارث الطبيعية عقابا لمسلمين موحدين فيهم الصالح والطالح!
- الملامح التي استحقت سنة العقاب الإلهي بالكوارث الطبيعية في الأمم السابقة
ومن يستقرئ قصة الإيمان والبرهان، والتكذيب والكفران، في قصص الأنبياء السابقين، سيجد ثلاثة ملامح جامعة تستوجب سنة العقاب الإلهي المتجلي بكارثة طبيعية، وهذه الملامح هي:
- من حيث المرحلة التاريخية: سيجدها رسالات سابقة، أي ما قبل الرسالة المحمدية الخاتمة.
- من حيث السلوك البشري: سيجد ذنبا /تكذيبا جماعيا موحدا بالرسول والكفر بالله بعد طول دعوة، ومعجزة حسية مبصرة أو باهرة، ثم يأتي بعدها عذاب ساحق يهلكم عن آخرهم.
- من حيث التجمع البشري، سيجد أن القرآن سماها: قرية/ قرى.
والقرية لا أراها وصفا ماديا (خلقيا) لعدد البشر الذين يسكنونها أو نوع العمران الذي يقوم فيها، بل وصفا روحيا (أمريا) لسلوكهم، فهم الذين استكبروا وتواطئوا وثبتوا (قروا) على ذنب واحد وهو الكفر بالله وحرب رسله، فهم ينفون خارجهم كل من ينكر عليهم فعلهم ويخالفهم فيه أو يختلف عنهم، وهذا التواطؤ الجماعي مرعب حقا يستحق الغضب واللعن والعذاب فقد كان شيمة لبني إسرائيل (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ماكانوا يفعلون)[9].
وتأمل هذين المثالين في قصتي شعيب ولوط، كيف أخرجوا المصلحين الذين خالفوهم: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن قَالُوۤا۟ أَخۡرِجُوهُم مِّن قَرۡیَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسࣱ یَتَطَهَّرُونَ، فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَأَهۡلَهُۥۤ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَـٰبِرِینَ ، وَأَمۡطَرۡنَا عَلَیۡهِم مَّطَرࣰاۖ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُجۡرِمِینَ).[10]
أما قوم شعيب فأخذتهم الرجفة: (قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِینَ ٱسۡتَكۡبَرُوا۟ مِن قَوۡمِهِۦ لَنُخۡرِجَنَّكَ یَـٰشُعَیۡبُ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَكَ مِن قَرۡیَتِنَاۤ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنَاۚ قَالَ أَوَلَوۡ كُنَّا كَـٰرِهِینَ)[11]. (فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُوا۟ فِی دَارِهِمۡ جَـٰثِمِینَ ، ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ شُعَیۡبا كَأَن لَّمۡ یَغۡنَوۡا۟ فِیهَاۚ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ شُعَیۡبا كَانُوا۟ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرِینَ)[12].
فهم قارون على ذنبهم أو سلوكهم، ثابتون عليه، فلا أمل بالتغيير، بل يخرجون حتى الثلة الصالحة المصلحة التي تنكر عليهم، وهذه مجتمع مستكبر معاند مستبد يلغي حرية الآخر الصالح المختلف عنه، ولا يرضى إلا خيار الكفر، وهذا يأباه الله الذي أراد الإنسان حرا غير مُكره. ولاحظ هذه الآية: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ).[13]
لو كان ثمة بقية كافية مصلحة، فيها خير وهذا معنى أولو بقية، لنجوا من ذلك العقاب الجماعي، فالذنب هنا ليس شيئا جزئيا يقترفه قوم مؤمنون بعد إيمانهم أو بعضهم ليستحقوا ذلك العذاب الإلهي الماحق، بل هو ذنب جماعي أصله التكذيب بالرسول والكفر بالله، ويوم ينزل بالقوم يكون رسولهم بينهم شاهدا عليهم، وقد تتالى ذلك في سورة العنكبوت مع كل نبي حتى انتهت بهذه الآية:
(فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِۦۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ أَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِ حَاصِبا وَمِنۡهُم مَّنۡ أَخَذَتۡهُ ٱلصَّیۡحَةُ وَمِنۡهُم مَّنۡ خَسَفۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ وَمِنۡهُم مَّنۡ أَغۡرَقۡنَاۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیَظۡلِمَهُمۡ وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ ).[14]
(كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوح وَعَادٌ وَفِرۡعَوۡنُ ذُو ٱلۡأَوۡتَادِ ، وَثَمُودُ وَقَوۡمُ لُوطٍ وَأَصۡحَـٰبُ لۡـَٔیۡكَةِۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلۡأَحۡزَاب، إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ، وَمَا یَنظُرُ هَـٰۤؤُلَاۤءِ إِلَّا صَیۡحَةً وَ احِدَة مَّا لَهَا مِن فَوَاق، وَقَالُوا۟ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبۡلَ یَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ ).[15] إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب: فهل هؤلاء قوم مؤمنون فيهم عصاة أم قوم كفار- ابتداء- كذبوا رسلهم؟
- تدمير أم مغفرة وتكفير أو تأخير؟
هل العلاقة بين الله والمؤمنين المذنبين أو المسيئين علاقة تدمير بسبب ذنوبهم وسيئاتهم أم علاقة مغفرة وتكفير لها، أو تأخير لحسابهم إن ظلموا فلم يتوبوا؟
إن العلاقة بين الله تعالى وبين المؤمنين محكومة بجدلية الذنب والتوبة، وتكفير السيئات وغفران الذنوب، بما يصيبهم من مصائب أو يعملون من أعمال صالحة، لأن أصل الذنب نسيان وضعف في أصل الفطرة فهذا هو ذنب آدم (وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُۥ عَزْمًا)[16]، وليس عن معاندة ومكابرة أو كفر، وإن كان ثمة أفراد ظالمون مصرون على ذنوبهم فهؤلاء لن يكونوا سببا لعقاب جماعي، خاصة إن وجد في المجتمع من ينهى عنه، والإصرار على الذنب ليس الاستمرار فيه فقد يكون المذنب لائما نفسه، دامعة عينه لكنه لا يقوى على ردعها، فالإصرار المقصود هو إصرار الاستكبار وهذا هو ذنب إبليس، (وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ)[17].
وقصة إبليس وآدم هي التي النموذج القائد الذي يمثل قصة البشرية فيما بعد مؤمنها وكافرها، ومن يستعرض كلمة (استكبر) في القرآن، سيجدها متعلقة بهذا النوع من الذنوب الذي أشرنا إليه، إنه صفة أقوام مجرمة كفرت بالله وحاربت رسله، وهذه طائفة منها:
- (قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِینَ ٱسۡتَكۡبَرُوا۟ مِن قَوۡمِهِۦ لَنُخۡرِجَنَّكَ یَـٰشُعَیۡبُ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَكَ مِن قَرۡیَتِنَاۤ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنَاۚ قَالَ أَوَلَوۡ كُنَّا كَـٰرِهِینَ).[18] (وَقَالَ ٱلَّذِینَ لَا یَرۡجُونَ لِقَاۤءَنَا لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡنَا ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ أَوۡ نَرَىٰ رَبَّنَاۗ لَقَدِ ٱسۡتَكۡبَرُوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ وَعَتَوۡ عُتُوّا كَبِیرا)[19]
- (إِنَّ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ عَنۡهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمۡ أَبۡوَ ابُ ٱلسَّمَاۤءِ وَلَا یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ حَتَّىٰ یَلِجَ ٱلۡجَمَلُ فِی سَمِّ ٱلۡخِیَاطِۚ وَكَذَ لِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُجۡرِمِینَ).[20]
- (فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلۡجَرَادَ وَٱلۡقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءَایَـٰت مُّفَصَّلَـٰت فٱسۡتَكۡبَرُوا۟ وَكَانُوا۟ قَوۡما مُّجۡرِمِینَ). [21]
ملامح الاستثناء التي قد تحدث اليوم كما حدث في الأمم السابقة:
ويبدو لي أن الملمحين الثاني والثالث، سيسريان إلى يوم القيامة، فإن توفرا ستجري عليهم سنة الله في الإهلاك الجماعي والعذاب الشديد، مصداقا للآية التالية: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ).[22]
أي قرية كافرة يصلها بلاغ مبين يعلم أهله حقه وصدقه فيستكبرون ويحاربونه ويتواطئون جميعهم ضده ويتبعون فيه مترفيهم المجرمين، ويستبدون فلا يبقى فيهم ناس مصلحون خيرون الذين سماهم القرآن (أولو بقية)، لأن السياق يتحدث عن الكفر والشرك (راجع تفسيره في تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور)، وأظن أن هذه الحالة، حالة دقيقة لا يمكن لأي إنسان أن يجزم بها اليوم، لأن المجتمعات البشرية اليوم مجتمعات تعددية، يندر أن تنطبق عليها الصورة التي يصورها القرآن عن القرى السالفة، ولكن يطيب لكثير من المسلمين أن يصفوا شعوبا كاملة غافلة بالكفر الصريح وهي لا تدري عن رسالة الإسلام شيئا، ولم تقام عليها الحجة، بل لعل البلاغ المشين هو الذي وصلها لا المبين!. ثم يفصلون لهم العقوبات الإلهية كما يحلو لهم بحسب الكوارث الطبيعة التي تتوافر هناك، وياليت الأمر اقتصر على تلك الشعوب، إننا نراه اليوم يمتد إلى شعوب مسلمة فيها من الخير والصلاح ما فيها!.
- استدلالات ذائعة
ولنعرض طائفة من الاستدلالات التي ذاعت على هامش الكارثة الزلزالية الحاضرة لترى أنها لن تخرج عن المنظور الذي ذكرته أعلاه، واستعملت في غير مكانها:
- (وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا فِی قَرۡیَة من نَّبِیٍّ إِلَّاۤ أَخَذۡنَاۤ أَهۡلَهَا بِٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ لَعَلَّهُمۡ یَضَّرَّعُونَ)[23]
- وَكَذ لِكَ جَعَلۡنَا فِی كُلِّ قَرۡیَةٍ أَكَـٰبِرَ مُجۡرِمِیهَا لِیَمۡكُرُوا۟ فِیهَاۖ وَمَا یَمۡكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ) [24]
- (وَكَم مِّن قَرۡیَةٍ أَهۡلَكۡنَـٰهَا فَجَاۤءَهَا بَأۡسُنَا بَیَـٰتًا أَوۡ هُمۡ قَاۤىِٕلُونَ)[25]
- (وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡیَةِ ٱلَّتِی كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ إِذۡ یَعۡدُونَ فِی ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِیهِمۡ حِیتَانُهُمۡ یَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعا وَیَوۡمَ لَا یَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِیهِمۡۚ كَذَ لكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُوا۟ یَفۡسُقُونَ)[26]
- (وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلا قَرۡیَةً كَانَتۡ ءَامِنَةً مُّطۡمَىِٕنَّةً یَأۡتِیهَا رِزۡقُهَا رَغَدا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُوا۟ یَصۡنَعُونَ ، وَلَقَدۡ جَاۤءَهُمۡ رَسُولٌ مِّنۡهُمۡ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَهُمۡ ظَـٰلِمُونَ)[27]
- (وَإِذَاۤ أَرَدۡنَاۤ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡیَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِیهَا فَفَسَقُوا۟ فِیهَا فَحَقَّ عَلَیۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَـٰهَا تَدۡمِیرا)[28]
- (لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإ فِی مَسۡكَنِهِمۡ ءَایَة جَنَّتَانِ عَن یَمِینٍ وَشِمَال، كُلُوا۟ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُوا۟ لَهُۥۚ بَلۡدَةٌ طَیِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور ،فَأَعۡرَضُوا۟ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ سَیۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَـٰهُم بِجَنَّتَیۡهِمۡ جَنَّتَیۡنِ ذَوَاتَیۡ أُكُلٍ خَمۡطٍ وَأَثۡلٍ وَشَیۡءٍ مِّن سِدۡرٍ قَلِیلٍ ، ذلك جَزَیۡنَـٰهُم بِمَا كَفَرُوا۟ وَهَلۡ نُجَـٰزِیۤ إِلَّا ٱلۡكَفُورَ ).[29]
كل قرية هنا، أضيف إليها صفة: كافرة معاندة مكذبة برسولها بعد آية حسية قائمة، كما بيناه عن سمات القرى أعلاه، وبإمكانك أن تعود إلى سياق كل آية لتجد هذه السمة الواضحة، وأنقل هنا جزءا من كلام الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسيره التحرير والتنوير لأهميته، وبإمكانك الرجوع إليه في تفسيره لسورة الإسراء، الآية 58، يقول ابن عاشور: (…فالمُرادُ: القُرى الكافِرُ أهْلُها؛ لِقَوْلِهِ تَعالى وما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرى بِظُلْمٍ وأهْلُها مُصْلِحُونَ) هود: 117، في سُورَةِ هُودٍ، وقَوْلِهِ وما كُنّا مُهْلِكِي القُرى إلّا وأهْلُها ظالِمُونَ) القصص: 59، في سُورَةِ القَصَصِ. وحَذْفُ الصِّفَةِ في مِثْلِ هَذا مَعْرُوفٌ كَقَوْلِهِ تَعالى يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) الكهف: 79، أيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صالِحَةٍ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها) الكهف: 79، ولَيْسَ المَقْصُودُ شُمُولَ ذَلِكَ القُرى المُؤْمِنَةَ…).
ما الفساد الذي ظهر وأين؟
وقد استدل آخرون بآية: ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِی عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ﴾ [الروم ٤١، وكأنهم فهموا أن الفساد هنا هو الكوارث الطبيعية، ولا أدري ما هي القرينة التي دعتهم لذلك، مع أن أكثر التفاسير ترى أن الفساد هو قَحْطَ الْمَطَرِ وَقِلَّةَ النَّبَاتِ بذنوب الناس، وحتى هذا لا اتفق معه، إذ يجب أن نستقرئ كلمة الفساد ومشتقاتها في القرآن ونرى سياق السورة، سورة الروم التي وردت فيها هذه الآية، التي ذكر فيها الناس غير مرة ووصفوا بأنهم مشركون، ولهم شركاء من دون الله،، فالفساد هو من الناس المشركين وفي الناس، أي أفعالهم المفسدة الظالمة هي التي ظهرت في المجتمع وهم المفسدون وليس الفساد هو ظهور كوارث الطبيعة، وهذا هو كسب أيديهم الذي ذاقوه بشركهم وظلمهم، والبر والبحر هي أسماء على التجمعات البشرية، فهذا الذي أختاره من تفسير البغوي الذي لم ينفرد به، وانقل منه بتصرف:( أن الْبَرِّ هو الْبَوَادِيَ وَالْمَفَاوِزَ، وَالْبَحْرِ هو الْمَدَائِنَ وَالْقُرَى الَّتِي هِيَ عَلَى الْمِيَاهِ الْجَارِيَةِ. فالعرب تُسَمِّي الْمِصْرَ بَحْرًا، تَقُولُ: أَجْدَبَ الْبَرُّ وَانْقَطَعَتْ مَادَّةُ الْبَحْرِ)
وذروة الفساد هو سفك الدماء وقد عطف عطفا منفصلا خاصا على الفساد العام حين قال تعالى: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟
وكما في قوله تعالى:
(وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِی ٱلۡأَرۡضِ لِیُفۡسِدَ فِیهَا وَیُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ) فهذا هو الفساد، إهلاك الحرث والنسل بتدميرهما مباشرة كما يفعل كثير من المجرمين الذين يقتلون الناس ويدمرون ممتلكاتهم وأرزاقهم، وهذا هو كسب الأيدي، الذي سينال الناس جميعا، إن تفاسدوا، لأن المسؤولية عن منع الفساد هي مسؤولية جماعية.
أو قوله تعالى:
فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُو۟لُوا۟ بَقِیَّةࣲ یَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِی ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِیلࣰا مِّمَّنۡ أَنجَیۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ مَاۤ أُتۡرِفُوا۟ فِیهِ وَكَانُوا۟ مُجۡرِمِینَ.
فالفساد الذي ظهر في البحر والبحر هو عينه الذي يجب أن يُنهى عنه، وهو كسب أيدي الناس، ولن يكون كوارث طبيعية تقلتهم بذنوبهم.
الفتنة التي ستعم العامة إن ظلم الخاصة
ويطيب لبعضهم أن يجعل من الزلازل والبراكين والأعاصير فتنا كما جعلها غيره فسادا! وهو يعضي هذه الآية: وَٱتَّقُوا۟ فِتۡنَةً لَّا تُصِیبَنَّ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ مِنكُمۡ خَاۤصَّةࣰۖ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ [الأنفال ٢٥]
هذه الآية من سورة الأنفال التي موضوعها سنن النصر والهزيمة، ووحدة الصف أو فرقته، تبين كيف إن الاختلاف بين المؤمنين وعدم الإعداد، سيضعفهم، ويفشلهم، ويجعلهم نهبا لأعدائهم، وهذا حدث ولا يزال يحدث في مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي، فإن كان ثمة عذاب وفتنة، فهو عذاب بأيدي الغزاة المنتصرين، وقد ذهب ضحيته أبرياء كثر، أولهم الأطفال والضعفاء الذين لا علاقة لهم بظلم الكبار المسؤولين، الذين تفرقت بهم الأطماع فاختلفوا، وقد كتبت عن ذلك بإسهاب في الفصل السادس من كتابي القلم الطبعة الثانية.
أين الزلزال إذن؟
العقل الموضعي والعقل الموضوعي
التعضية الموضوعية والتعضية الموضعية
إن الخلل والزلزال هو في العقل المسلم الذي يعضي القرآن، العقل الموضعي لا الموضوعي، الذي يتعامل مع الآيات كجمل متناثرة لا يمسكها سياق أو موضوع أو جسد، فيستلها سلا ويرمي بها كما يحلو له خبط عشواء، بحسب ميوله النفسية وما احتقبت من أفكار وآثار، فيشيد بناء مفهوميا كاملا بل عقيدة أو نظرية من آية واحدة أو جزء آية، ويتعامل مع ما شيده كقانون فيزيائي!
أما التلاوة الحقة، هي التي تحترم تتالي الكلمات والآيات في سياقاتها، لأنها يشبه تتالي الجينات فإن خرج جين عن موضعه نتج عن ذلك طفرة قد تكون سببا في ورم أو تشوه خلقي في الجزء المسؤولة عنه أو عطب وظيفي.
وهذا ليس تشبيها إنشائيا أو أدبيا بل علميا، فالذي خلق الحمض النووي هو الذي أنزل هذا القرآن، وآنَ لنا أن نكون دقيقين معه، حتى لا نكون من المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين، وقد تكون التعضية موضوعية أي التفريق بين موضوعاته بمعنى أخذ بعضها وترك الآخر، أو موضعية أي التفريق بين مواضع آياته، بمعنى انتزاعها من سياقها الذي تتالى فيه.
والقرآن يجب أن يكون أولا قبل كل شيء، فلا ينبغي تشييد المفاهيم الكلية الكبرى من أحاديث متفرقة قبل الاهتداء بآيات القرآن الجامعة لأن سياقاتها محكمة وتهدي متدبرها، إذ حتى النبي (ص) قد تكون له أحاديث خارجة عن معنى التشريع أو الإخبار المعصوم وهذا معلوم لمن علم، أما آثار السلف فمن باب أولى يجب أن تحاكم بالقلم القرآني لا أن تُعامل كقوانين علمية!، أو كآيات قرآنية أو أحاديث متواترة قالها النبي من مقام الرسالة المعصوم وحتى إن أيقنا بصحة الأدلة فالسياق ضروري حتى في آيات القرآن ذاتها.
ما هذه الكوارث الطبيعية إذن؟
كوارث الطبيعة الكبرى لا تخرج عن سننها، وأكبرها كأصغرها من حيث المبدأ، فالذي يقتله زلزال كالذي يقتله جرثوم، والحياة كلها هكذا، نقص في كل شيء، معجون بالألم، والمؤمن يجب أن يكون دستوره هذه الآية:
وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَیۡءٍ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٍ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَ ٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَ ٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِینَ ١٥٥ ٱلَّذِینَ إِذَاۤ أَصَـٰبَتۡهُم مُّصِیبَةٌ قَالُوۤا۟ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّاۤ إِلَیۡهِ رَ ٰجِعُونَ ١٥٦ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَیۡهِمۡ صَلَوَ ٰتࣱ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةࣱۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُهۡتَدُونَ ١٥٧﴾ [البقرة ١٥٥-١٥٧]
وله في قصص موسى عليه السلام والعبد الصالح بيان وسلون عن حركة الأقدار التي لن نعرف خفاياها إلا يوم القيامة، فالجرأة على إنزال آيات معينة أو مفاهيم ( تدينية) خاصة على هكذا ظواهر، ليست من حقيقة الموضوع في شيء، وهي أمارة على عقل القائل وذاتيته وخوضه الغيبي وتحيزه الذي يستحضر له ما يشاء من شواهد تعزز تفسيره، فإن شاء جعل المبتلين عصاة وهذا عقابهم، وإن شاء جعلهم مؤمنين وهذا رفعة درجاتهم، وهلم جرا…وكأن الشر وأشراره صاف في مكان، والخير وأخياره صاف في مكان، وإن اختلطا- وهم مختلطان حتما- عم العقاب، هذا منطق طفولي هش جدا، يرفضه الواقع ويرفضه القرآن ذاته على نحو ما بيّنّا، أما الحساب فهو في يوم الحساب، وإلا لما سادت شعوب كاملة لا تدري عن الله شيئا ولا محرماته التي يبني عليها المؤمنون كل مفاهيمهم العقابية، مع أن تراثهم الديني مليء بقصص عن هدم مقدسات وقتل أنبياء وأخيار عاش بعدهم قاتلوهم وملكوا الدنيا حتى أفناهم الشبع .
و لا يزال كثيرون يظنون أن التقوى التامة- كما يفهمونها-لو تحققت في مجتمع ما، أو نسبة كبيرة منه، ستجعل الزلازل والبراكين كمداعبة الريش والصوف، ستقف كل كوارث الطبيعة وتحيينا لأننا متدينون متقون، والاستدلالات لديهم كثيرة، أما بلاغة الاستدلالات السننية التي تجعل حتى الجماد عاقلا، فهذه لا تحضر في العقل الذي يسمى مسلما.
إن قوانين الطبيعة تعمل بتقوى غير التي تظنها، فتقواها أن تتقيها بفهم سننها فتتنبأ بها وتسخرها وتديرها، والتنبؤ والتسخير من مبادئ العلم الأربعة التي منها: الوصف والتفسير، فالتقوى الذي نريدها هي تقوى الزلازل والكوارث والبناء الآمن وطرق الإخلاء السريعة الذكية، وثقافة الطوارئ المسعفة، ومن قبلها تقويات كثيرة تحترم الإنسان إنسانا لا رقما، فالقول الفصل الآن لعلماء الزلازل والكوارث وتوجيهاتهم ومقياس رختر، فهم أهل الذكر الآن، لا غيرهم إن كنا نعلم.
والله أعلم
فسلاما وألف رحمة على الذين رحلوا إلى جوار ربهم، وصبرا جميلا للذين نكبوا بهم من بعدهم، ربط الله على قلوبهم ورزقهم من اليقين ما يهون عليهم مصيبتهم، إنه عليم رحيم حكيم.
—————————–
[1] – سورة فصلت – الآية 53
[2] – سورة الإسراء- من الآية 90 إى 93
[3] – سورة الإسراء- الآية 59
[4] – سورة البقرة – من الآية 1 إلى 3
[5]– سورة النور- الآية 37 .
[6] – سورة النازعات – الآية 40
[7] – سورة البقرة – الآية 55
[8] – سورة الأنفال – الأية 33
[9] – سورة المائدة – الآية 79
[10] – سورة الأعراف – الآية 82 إلى 84
[11] – سورة الأعراف – الآية 88
[12] – سورة الأعراف – الآية 91 إلى 92
[13] – سورة هود – الآيتين 116 – 117
[14] – سورة العنكبوت الآية – 38 إلى 40
[15] – سورة ص – الآية 12 إلى 15
[16] – سورة طه – الأية 115
[17] – سورة البقرة – الآية 34
[18] – سورة الأعراف – الآية 88
[19] – سورة الفرقان – الآية 21
[20] – سورة الاعراف – الآية 44
[21] – سورة الأعراف – الآية 133
[22] – سورة الإسراء – الآية 58
[23] – سورة الأعراف – الآية 94
[24] – سورة الأنعام – الآية 123
[25] – سورة الأعراف – الآية 4
[26] سورة الأعراف- الآيتين 162- 163
[27] – سورة النحل – الآيتين 112، 113
[28] – سورة الإسراء – الآية 116
[29] – سورة سبأ – الآية 15 إلى 17